اعلم – رحمك الله – أنه ينبغي لكل من سعى لدراسة علم من العلوم أن يبدأ أولاً بمقدماتٍ يتعرَّف فيها على مبادئه؛ حتى يكون على وعي بما يتعلمه؛ فكل عاقل إذا ما دعوته إلى دراسة أيِّ عِلم، فإنه يسألك عن تعريف هذا العلم، فإذا ما أخبرتَه، تساءل: هل يا تُرى هذا العلم له أهمية يستحقُّ أن أُنفِق بسببها فيه الوقت؟ أم أنه مِن الترف العقلي الذي لا يَزيد في الإيمان شيئًا؟! ثم لو كانت له أهمية، فما هي أوجه أهميته؟ ثم يسألك: هل لهذا العلم مِن خصائص تميِّزه؟ وما هي؟ وأيضًا: هل هناك منهَج معيَّن للتعامل مع مسائل هذا العلم فيُدرَس به أم لا؟ وما هو؟ وهكذا لا بدَّ أن يتعرَّف على المبادئ التي تشغَل الذهن قبل الدخول في العلم الذي تَدعوه إليه.
وقد نظَم الشيخ الصبان – رحمه الله – بعض هذه المبادئ في قوله:
|
أولاً: الحدُّ (التعريف):
الحد: في اللغة: المنْع، وفى الاصطلاح – وهو ما يتَّفق عليه أهل كل علم في استعمال ألفاظ مخصوصة يَتداولونها فيما بينهم، يُعبِّرون بها عن قضايا العلم -: التعريف بالشيء، أو الوصف المحيط بمَوصوفه المميِّز له عن غيره، وشرط التعريف أن يكون مطَّردًا مُنعكسًا؛ أي جامعًا مانعًا؛ لا يَخرُج شيءٌ مِن أفراده عنه، ولا يَدخُل فيه شيءٌ من غير أفراده.
وحدُّ الفِقه في اللغة الفَهم، وقيل: فهم ما دقَّ، فهو العلم بالشيء والفهم له، كما يَعني الإدراك لغرض المُتكلِّم من كلامه؛ ففَقِه: أي فطن وفَهم، وفقُه بالضم: صار فقيهًا، وتفقَّه: تعاطى الفقه، قال ابن منظور في اللسان: وغلب على علم الدين؛ لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العِلم، وقالوا – كذلك – في الفقه: هو بذلُ الوسع والمجهود في طلب الحكم الشرعي ممَّن هو أهلُه.
وأما في اصطلاح العلماء، فقد عرَّفوه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العمَليَّة المُكتسَبة من أدلتها التفصيليَّة، أو هو هذه الأحكام نفسها، وهذا التعريف يَحتاج إلى شرح وبيان:
فالعلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا، ومراتب الإدراك ستٌّ:
الأولى: العلم، وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا.
الثانية: الجهل البسيط، وهو عدم الإدراك بالكلية.
الثالثة: الجهل المركَّب، وهو إدراك الشيء على وجه يُخالف ما هو عليه.
الرابعة: الوهم، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضدٍّ راجِح.
الخامسة: الشكُّ، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضدٍّ مُساوٍ.
السادسة: الظنُّ، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضدٍّ مرجوح.
والعلم ينقسم قسمين: ضروريًّا ونظريًّا، فالضروري ما يَكون إدراك المعلوم فيه ضروريًّا؛ بحيث يُضطر إليه من غير نظر ولا استدلال؛ كالعلم بأن النار مُحرِقة، والنظري ما يحتاج إلى نظر واستدلال؛ كالعلم بوجوب النيَّة في الصلاة مثلاً.
والأحكام جمع حكْم، وهو إثبات أمر لآخر إيجابًا أو سلبًا؛ مثل قولنا: الشمس مُشرِقة أو غير مُشرِقة، والمراد بالأحكام هنا: ما يَثبُت لأفعال المكلَّفين من وجوب أو ندب، أو حرمة أو كراهة، أو إباحة، أو صحَّة أو فساد أو بطلان، ولا يُشترَط العلم بجميع الأحكام الشرعية لصحَّة إطلاق كلمة الفقه؛ فالعلم بجملة منها يُسمَّى فِقهًا، كما تُسمى هذه الجملة أيضًا فقهًا، ويُسمَّى صاحبها فقيهًا بشَرطِ أن يكون عنده ملَكة الاستِنباط.
وقيِّدت الأحكام بكونها شرعيَّة؛ للدلالة على أنها منسوبة إلى الشرع؛ أي: مأخوذة منه رأسًا أو بالواسطة، فلا يَدخُل في التعريف الأحكام العقلية؛ كالعلم بأن الكلَّ أكبر من الجزء، أو أن الواحد نصف الاثنين، وأن العالم حادث، ومثل ذلك، ولا الأحكام الحسية؛ أي: الثابتة بطريق الحسِّ؛ كعِلمنا بأن النار مُحرقة، ولا الأحكام الثابتة بطريق التجربة؛ كالعلم بأن السمَّ قاتِل، ولا الأحكام الوضعية؛ أي: الثابتة بالوضع؛ كالعلم بأن كان وأخواتها ترفَع المبتدأ وتَنصِب الخبر.
ويُشترَط في هذه الأحكام الشرعية العملية أن تكون مُكتسبَة – أي: مُستفادة مِن الأدلة التفصيليَّة – بطريق النظر والاستدلال، فيترتَّب على هذا الشرط أن عِلم الله – سبحانه وتعالى – بالأحكام أو علم الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو علم المُقلِّدين بها، كل ذلك لا يُعتبَر في الاصطلاح فقهًا، ولا يُسمى صاحبها فقيهًا، فعلمُ الله – سبحانه وتعالى – لازم لذاته، وهو يَعلم الحكم والدليل – سبحانه وتعالى – وعِلمُ الرسول – صلى الله عليه وسلم – مُستفادٌ من الوحي لا مُكتسَب من الأدلة في غالبه، وعلمُ المُقلِّدين مأخوذ بطريق التقليد لا بطَريق النظر والاجتهاد، مع ملاحَظة أن المُقلِّد إذا علم جملةً من الأحكام الشرعية بأدلتها لا يُسمَّى فقيهًا؛ لأن الفقيه في اصطِلاح الأصوليِّين مَن قامت فيه ملَكة استنباط الأحكام وتحصيلها من أدلتها، سواء اجتهد بالفعل واستنبَط الأحكام أم لم يَجتهد ولم يَستنبِط.
فالفقيه إذًا من صار الفقه له سجيَّةً، فهو بمعنى المُجتهد، ولكن حصل تغيُّر في المعنى، فصارَت كلمة الفقه تُطلَق على مسائل الفقه، سواء اكتسبَها الشخص بطريق النظر والاستدلال، أو بطريق التفهُّم لأقوال المُجتهِدين، أو حتى بطريق التقليد والحِفظ، كما أن مَن يَحصل على هذه المسائل بطريق من هذه الطرق يُسمَّى فقيهًا، وهذا المعنى الجديد شاعَ عند أهل الفقه دون الأصوليِّين.
والأدلة التفصيلية: هي الأدلة الجزئية التي يتعلَّق كل منها بمسألة خاصة وتنصُّ على حكم معيَّن، ومِن ثَم فهي موضوع بحث الفقيه؛ ليتعرَّف على الأحكام التي جاءت بها، مُستعينًا على ذلك بالله – سبحانه وتعالى – ثمَّ بما قرَّره علم الأصول من قواعد للاستِنباط ومناهج للاستِدلال.
ملاحظة: التقليد منه ما هو مَشروع ومنه ما هو مَمنوع؛ فأما المشروع، فهو عمل العامي بمذهب المُجتهِد دون معرفة دليله معرفةً تامَّةً، وهذا النَّوع قد قال بمشروعيته جمهور العلماء، وأما المَمنوع، فهو التقليد فيما قامت الأدلة على خلافه، أو تقليد إمام بعينِه دون سواه؛ بحيث تُقبَل جميع أقواله وإن خالف بعضُها الحق وتردُّ جميع أقوال غيره، وإن شهدتْ لها النُّصوص وقامت على صوابها البيِّنة، أو تقليد القادر على الاستنباط والنظر، وإلى هذه الأنواع تَنصرِف أدلة القائلين ببطلان التقليد.
• هل يَحسُن ذكرُ الدليل للمُستفتي؟
نعم؛ يُستحسَن ذلك إذا كان أهلاً لفَهم الدليل، لكن ذلك ليس بشرط؛ فإن المتتبِّع لكتب الحَديث يرى استدلال تابعي التابِعين بأقوال مَن قبلهم مِن التابعين، واستدلال هؤلاء بأقوال وأعمال الصحابة، وهي لم تُذكَر مع أدلتها، فدلَّ ذلك على عدم اشتراط ذكر الأدلة لصحَّة الفَتوى، ويَنبغي أن يُنتبَه إلى أن إيراد الأدلة للعامي لا يُخرجه عن دائرة التقليد من الناحية الفقهيَّة البحتة؛ لأن المفتي يورِد الدليل موردًا يجعله مُنتجًا للحكم الذي قال به وذهب إليه، ولا يَملك المُستفتي إلا تقليده في هذا الفهم، فالتقليد كما يكون في الحكم يكون في فَهمِ دليل الحكم، ومجرَّد المَعرِفة بالدليل لا تخرج عن رِبقة التقليد؛ ذلك أن المَعرفة المُعتبَرة بالدليل، والتي تَخرُج عن نِطاق التقليد هي التي يَغلب معها الظنُّ بحصول المُقتضى وعدم المانع.
أما ما ورَد عن الأئمَّة في النهي عن تَقليدهم – حتى يَحتاط المرء لدينه – فهي حق، ويجب أن تَنزل على منازلها الصحيحة، فهي تَنهى عن اتِّباعهم فيما قامَت الأدلة على خلافه، وهي تنهى أمثالهم مِن المُجتهدين عن تقليدهم؛ لأن عليهم أن يأخذوا مِن حيث أخذوا، وتَنهى أكابر أصحابهم وتلاميذهم عن تقليدهم؛ حثًّا لهم على دوام النظر في مدارك أقوالهم، ليعلموا – بما تبيَّن لهم – أنه الحق حسبما يَقتضيه اجتهادُهم، وضمانًا لحيويَّة الفقه الإسلامي، وعدم إصابته بالجمود أو تخلُّفه عن الوفاء بالمصالح المُتجدِّدة.
وأخيرًا؛ أُحبُّ أن أؤكِّد على هذا التخصيص، وعلى أن العامة غير مخاطَبين بهذه النواهي من الأئمَّة، ويدلُّ على ذلك ما نُقل عن هؤلاء الأئمَّة أنفسهم؛ فمِن ذلك ما قاله الإمام مالك: يجب على العوام تقليد المُجتهدين في الأحكام، كما يجب على المُجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة، وكذلك ما قاله الإمام العز بن عبدالسلام في “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” (2: 135) ط دار الكتب العلمية، وما قاله ابن القيم في “أعلام الموقعين”: (2: 199) (2: 263).
ثانيًا: موضوع الفقه:
موضوع البحث في علم الفقه: هو فعل المكلَّف من حيث ما يَثبُت له مِن الأحكام الشرعية، فالفقيه يَبحث في بَيع المكلَّف وإجارته، ورهنِه وتوكيلِه، وصلاته وصومه وحجِّه، وقتلِه وقذفِه وسرقتِه، وإقراره، ونحو ذلك.
ثالثًا – الثمرة:
ويُعبِّرون عنها أحيانًا بالغاية، والغاية من علم الفقه هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ لتحقيق التقوى التي أُعدَّت الجنَّة لمن حقَّقها؛ قال – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، فالغاية المقصودة من علم الفقه هي تطبيق الأحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم، وذلك يُثمِر – إن شاء الله – انتظام أمر المعاش والمعاد، مع الفوز بكل خير دُنيويٍّ وأخرويٍّ كما قال ابن حجر.
رابعًا – فضله ومنزلته:
إن الله – سبحانه وتعالى – بعَث محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بالهدى ودين الحق؛ ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه الكتاب والحكمة – وهي السنَّة – وأمَرَه باتِّباع ما أنزل عليه والإعراض عن غيره؛ فقال – سبحانه وتعالى -: ﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 106]، وأمر أتباعه أيضًا بما أمرَه به، فقال: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الأعراف: 3]، ونهاهم عن مخالفة التنزيل، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [الحجرات: 1]، فقال ابن عباس: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنَّة.
وقد جعل الله الناس قسمَين: عالِمين وعاميِّين، وأمَر الآخَرين أن يَسألوا الأوَّلين، فقال – سبحانه وتعالى -: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ﴾ [النحل: 43، 44]، فإذا عرَض العاميُّ نازلته على المفتي، فهو قائل له: أَخرِجني عن هواي ودُلَّني على اتِّباع الحق، فلا يمكن والحالُ هذه أن يقول له: في مسألتك قولان؛ لأن معنى ذلك أن يَختار لشهوته أيهما شاء، ومعنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، والعامي إنما سأله ليَدلَّه على حكم الشرع، فكان الواجب أن يَذكُر له الراجِح من القولَين بدليله – إن كان أهلاً لفهمِه – لا أن يقول له: في مسألتك قولان؛ حتى ضاق العاميُّون بقول كثير من المفتين: فيها قولان، ونكَّتوا عليه.
وإنما تَشرُف العلوم بشرف مَوضوعها، وإن أشرف العلوم العِلم الذي يَربِط الإنسان بخالقه، ويُعرِّفه أمور دينه، ويرسم له طريق السعادة في الدارَين.
وإذا كان أصل النجاة لا يَحصُل للعبد إلا بصحَّة التوحيد وسلامته من شوائب الشرك، فإنَّ تمام النجاة لا يَحصُل إلا بصحة العبادة وسلامتها من شوائب البدعة، والذي يدلُّ العبد على تحقيق العبادة الصحيحة دون ابتداع إنما هو عِلم الفقه، فعظمة هذا العلم وشرفُه تجلُّ عن الوصف والإحاطة؛ ذلك أنها أحكام تُساير المسلم وتلازمه في عموم مسالك حياته فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين عباده؛ ولهذا قال القائل:
إذا ما اعتزَّ ذو عِلمٍ بعلمٍ
فأهلُ الفقه أَولى باعتِزازِ
فكم طِيبٍ يَفوح ولا كَمِسْكٍ
وكم طيرٍ يَطير ولا كَبَازِي
|
خامسًا – النِّسبة:
علم الفقه هو أحد العلوم الشرعية المُستمَدَّة من الكتاب والسنَّة.
سادسًا: الواضِع، وأتناول في هذا المبدأ نشأة علم الفقه وتطوُّره:
الفِقه الإسلامي مثل كل كائن؛ يولد ثم يَحبو ثم يشبُّ ثم يَكتهِل ثم يَشيخ، ولكنه يَمتاز بعودة الحياة إليه من جديد، وقد مرَّ الفقه الإسلامي بعدة أدوار بداية من عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو الأصل الذي يُصرِّح كل فقيه أنه مستند إليه – ومرورًا بالعصور التي بعده، وحتى عصرنا هذا.
وعصر النبي – صلى الله عليه وسلم – هو ميلاد الفقه الإسلامي؛ فمَعروف أن العرب أمَّة أمية لم تكن لهم من حضارات الأمم المُجاوِرة كثير نصيب، بل كان كل اهتمامهم باللسان والأنساب، وشيء من التنجيم، وقليل من السِّيَر والتاريخ، ولكنهم مع ذلك كانت لهم أَعراف القبيلة التي يَحتكِمون إليها في المُنازعات، وعرَفوا بعض ضروب المعاملات؛ كالبيع والرهن والشركة والسَّلَم والمُضارَبة والضمان والإجارة، وعرفوا كذلك بعض الأنظمة الاجتماعية؛ مثل: الزواج، والطلاق، والظِّهار، والإيلاء، كما عرَفوا في النظام الجنائي الديات والقسامة والقِصاص، كما عرفوا شيئًا عن نظام نقْل الثروات.
فلمَّا جاء الإسلام، أقرَّ مِن هذه النظُم ما كان صالحًا يَتمشَّي مع قيَم ومبادئ الدِّين الجديد، وألغى ما كان يَتعارض منها مع قيَمِه ومبادئه، وغيَّر في بعضها وتسامى به؛ لكي يكون على مستوى المبادئ والقيَم الجديدة.
ففي عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – بدأ الفِقه يتكوَّن، وعمادُه القرآن والسنَّة، وكانت هذه الفترة حوالي: اثنتَين وعشرين سنة وأَشهُرًا – هي مدة العهدَين المكي والمدني – وفى خلالها نزَل القرآن، وبيَّنه النبي – صلى الله عليه وسلم – أكملَ وأتمَّ بيان.
ويُمكن إيجاز مميزات هذه المرحلة الأساسية للتكوين الفقهي فيما يلى:
1- التدرُّج في التشريع:
وهذا التدرج ليس نوعًا واحدًا، بل أنواع؛ فهو تدرج زماني، وتدرُّج في أنواع ما شُرع؛ مثل تحريم الخمر والربا ووجوب الجهاد، وتدرُّج من حيث التفصيل بعد الإجمال؛ مثل الزَّكاة.
2- رفع الحرَج:
وهي ميزة بدأت مع التشريع، ثم لازمته وظلت مُلاصِقة له، وهي من أهمِّ خصائص الشريعة الإسلامية.
ومِن مظاهر رفع الحرج:
الرخَص الكثيرة بجانب العزائم، وقلَّة التكاليف، على أن الغاية من وراء هذه التكاليف: الارتقاء بالإنسان المسلم، وشَحنُه بالقُوى الروحية الفاعلة، وشَحذُ ملكاته وإعداده الإعداد الأمثل لمواجهة مُتطلبات الحياة الدنيويَّة والأُخروية على السواء.
3- النسْخ:
وهو رفع الشارع حكمًا من أحكامه بخِطاب لاحِق، وهذا النسْخ – وإن كان قليلاً في القرآن – فإنه مما امتازَ به الفقه في هذه المرحلة دون غيرها؛ لأن النسْخ لا يكون إلا من الشارع نفسه، فلا يَنسخ النصَّ إلا النصُّ، وأما الإجماع فإنه لا ينسَخ حكمًا من الأحكام، وكذلك الاجتهاد الفرديُّ أيًّا كان نوعه، وأيًّا كانت درجته، وإلا لعبت الأمة بدينها، كما فعل اليهود والنَّصارى.
4- عدم الاختلاف:
والسبب في ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نفسَه كان هو المَرجِع للفُتيا والقضاء، وهو المُبلِّغ عن الله – سبحانه وتعالى – أحكامَ الإسلام، فلما توحَّد المصدر توحد الاتجاه.
الدور الثاني: نشأة الفقه الإسلامي – عصر الخُلفاء الراشِدين:
كانت طريقة الصحابة في الاجتهاد أنهم إذا عرضَت لهم مُشكِلة ولم يَجدوا حكمها في القرآن والسنَّة، اجتهدوا الاجتهاد الجماعي أو الشوريَّ، وإن كان ذلك لم يمنَع من وجود الاجتهاد الفردي، لكنهم في الاجتهاد بالرأي المفرد ما كان أحد منهم يُلزِم غيره باتِّباع رأيه.
واختلاف الصحابة في الرأي أمر طبيعي ينبغي ألا ننزعج منه، بل يَجب أن نَعتبره ثروةً فِكريَّة، ولا سيما إذا لم يؤدِّ إلى العصبية، ولكن ما هو السبب في اختلاف الصحابة في الرأي؟!
الظاهر أنه قد تضافَرت عِدة أسباب لهذا الاختلاف، ومِن بين هذه الأسباب ما يلي:
1- العِلم بالسنَّة وعدمه؛ لأنها لم تكن قد دُوِّنت بعد، وليس بوسْع أحد استيعابها حفظًا، فقد يكون عند بعضهم ما ليس عند الآخَر منها.
2- عدم وثوقهم أحيانًا بطريق وصول السنَّة إليهم، وتحرِّيهم الدقَّة في هذا.
3- اختلافهم في فهمِ النُّصوص.
4- اختلافهم في الاجتهاد فيما لا نصَّ فيه، وهذا أمر طبيعي؛ لأنهم يَختلفون في طريقة التفكير وفى الملَكة الفقهيَّة، وغير ذلك.
غير أن هذا الاختلاف لم يكن كثيرًا؛ وذلك بسبَب:
1- فقه الصحابة الذي كان فقهًا واقعيًّا، إذ لم يَعرف الصحابة افتِراض المسائل قبل وقوعِها، ولا التفريع على الأصول بالصورة التي ظهَرت بعد ذلك، ومِن ثَمَّ قلَّت مسائلهم، بالتالي قلَّ الاختلاف فيها.
2- غلَب عليهم الاجتهاد الجماعي؛ لحِرصهم على الشُّورى.
3- ورَعهم وتقواهم؛ مما أدى إلى عدم جرأتهم وتهجُّمهم على الفتوى، ورغبة كلٍّ منهم أن يَكفيه غيرُه في هذا الأمر.
الدور الثالث: عصر التابعين – تطور الفقه الإسلامي:
استغرق هذا الدور الفترة مِن سنَة إحدى وأربعين من الهجرة إلى أواخر القرن الثاني للهجرة، وقد سار التابعون على نفس النسَق الذي صار عليه الصحابة؛ من حيث الاعتماد على الكتاب والسنَّة، ثم الاجتهاد، متوخِّين في اجتهادهم النظرَ إلى عِلَل الأحكام.
وقد شاع التحديث بالسنَّة في هذا العصر، وازدهرت الرواية، وتعذَّر الإجماع؛ لتفرُّق الصحابة في كل مِصر، واتِّساع رقعة الدولة، وكثرة الحوادث، ومِن ثَمَّ نشأت ظاهرة جديدة هي ظهور مدرسة أهل المدينة، ومدرسة أهل الكوفة أو الحِجاز أو العراق، ويُمكن تلخيص أهمِّ ظواهر تطور الفقه في هذه الفترة في ثلاث أمور:
1- اشتِداد الخلاف في مسائل الفقه، ولذلك أسباب؛ من أهمِّها:
انتقال الصحابة إلى الأَمصار؛ مما أدى إلى الاختلاف الواضِح في الحكم على النوازل والأحداث، كذلك تعذُّر الإجماع، فضلاً عن وجود الفِرَق التي كان لها – بجانب اتِّجاهها العقدي – اتجاه فقهي كالشيعة والخوارج، ومن الأسباب كذلك اختلاف العادات والتقاليد في كل عَصر ومِصر دون الآخَر، وكذلك وثوق أهل كل بلد بمَن سكَنها من الصحابة وأَخذُهم عنهم.
2- انتشار رواية الحديث، وذلك لعدَّة أسباب؛ من أهمها:
تفرُّق الفقهاء في البلاد، وتجدُّد الحوادث، وسؤال الناس عن الأحاديث، وقيام الحُفَّاظ بالتحديث، وقد نتَج عن انتشار رِواية الحديث نتائج في غاية الأهمية؛ منها: كثرة الاستنباط من السُّنة، وكثرة الوضع في الحديث لإفساد الشريعة والتشويش على أهل العلم، وكذلك عرقَلة تقدُّم الفقه الإسلامي لحين توثيق السنَّة؛ ولذلك وجد طبقة من أهل العلم هم جهابذة الحديث الذين تمخَّضت عنهم هذه الفترة، وهؤلاء وقَفوا أنفسهم على الكشف عن عِلل الأحاديث وعيوبها سندًا ومتنًا، وصنَّف المسلمون لأول مرة في تاريخ العلوم علم تاريخ الرجال، وقد شرَع الكلام في الجرح والتعديل يأخذ الطابع العام في هذه الفترة، وإن كانت بداياته وجدت في عَصر كبار الصحابة.
الدور الرابع: ازدهار الفقه الإسلامي:
يُعتبَر هذا الدور أطول أدوار الفقه الإسلامي – إذا استثنينا مرحلة التقليد التي ستأتي – فقد امتدَّت منذ بداية القرن الثاني الهجري حتى مُنتصَف الرابع؛ أي نحو مائتَين وخمسين سنة.
وقد بلَغ الفقه في هذا الطور نشاطًا لم يَبلُغْه مِن قبل؛ فقد ظهَر نوابغ الفقهاء، وكثرت فيه المدارس الفقهيَّة، ونشطَت حركة التدوين بصورة لم تُعهد من قبل؛ فدُوِّنت السنَّة رسميًّا، ودوِّنت بعض كتب الفقه، ونشأ علم جديد نابع مِن العقلية الإسلامية، هو عِلم أصول الفقه.
ولكن ما هي أهمُّ أسباب هذا الازدهار بهذه الصورة الفريدة العجيبة في هذا الطور بالذات؟ والجواب: أنه يُمكِن إجمال أهمِّ هذه الأسباب في الأمور الآتية:
1- اتِّساع رقعة الدولة الإسلامية، الذي أدى إلى كثرة الأسئلة، بالتالي كثرة الأجوبة، وكذا التأليف والمُناظَرات والتدوين، مما نتَج عنه هذه الثروة، أو أسهَمَ في إنتاجها.
2- عناية الخلفاء العباسيِّين بالعلوم عمومًا، وبالفقه على وجْه الخُصوص.
3- ظهور المُجتهِدين الكبار من أمثال الأربعة وغيرهم.
4- تدوين السنَّة.
5- ازدِهار حفظ القرآن والعناية بأدائه، وقد صارت القراءة عِلمًا، وشرَع عُلماؤها يؤلِّفون فيه الكتب المتعلِّقة بأدائه ورِوايته.
6- النزاع في مادة الفقه؛ فقد دارَت مُناقشات واسعة النطاق في تأصيل جميع أصول الفقه، ما عدا الأصل الأول الذي هو القرآن.
الدور الخامس: عصر نصرة المذاهب الفقهية:
بدأ هذا الطور في مُنتصَف القرن الرابع، وامتدَّ حتى سقوط بغداد في أيدي التتار، وكان هذا الحادث المروِّع إيذانًا بعهد جديد من الخمول والتفكُّك السياسي والتقليد في شتى المَجالات، والركود العام للعقلية الإسلامية والعربية، ويُمكن إجمال الكلام في هذا الطور عن:
أولاً – التقليد:
فالأصل أن العلماء يَجتهدون فيما يُعرض عليهم، وهذا هو المَفروض، ولكن ران التقليد على أهل هذا العَصر، حتى أصبَحوا يتحرَّجون مِن الاجتهاد؛ خشية أن يُخالفوا الأئمة السابقين؛ مما أدى إلى ضعف هِمَمهم وقصورهم وجمودهم وجمود الفقه معهم، وكان لهذا الضعف أسبابٌ؛ منها:
1- الضعف السياسي، بالتالي ضعف الحُكام وعدم تشجيعهم الاجتهاد.
2- كان الفقه قد دُوِّن على شكل مذاهب مُتنافِسة، وأُلِّفت فيه المصنَّفات ذات التبويب والتنظيم والتفصيل الجيد؛ مما أدى إلى الكسل والدعة، والاعتقاد بأن الأول لم يَترك للآخِر شيئًا، لا سيما مع فرض الأوائل للمَسائل.
3- استهانة كثير من فقهاء هذا العصر بأنفسهم بقدر اعتزازهم بشيوخهم وأسلافهم.
4- القَضاء واستلزامه التقيُّد بمذهب معيَّن مِن المذاهب.
5- التعصُّب المذهبي الذي ساد القرون التي تلت القرن الثالث، وخصوصًا في المذاهب التي تتجاوَر.
ثانيًا – سدُّ باب الاجتهاد:
وذلك حين رأى كبار فقهاء هذا العصر اختلاف الفتاوى، وانضِمام أدعياء العلم إلى زمرته، خشوا على دين الناس، فنادوا بسدِّ باب الاجتهاد؛ لسدِّ الطريق أمام الجهَلة والأدعياء.
وكان الواجب عليهم منع هؤلاء من الاجتهاد، ونشْر العلم، لا سدَّ باب الاجتهاد؛ فإن ذلك أدى إلى جُمود الفقه الإسلامي.
ثالثًا – نصرة المذاهب الفقهية:
وقد اكتفى فقهاء هذا العصر بالمُشاركات الآتية:
1- تعليل أحكام الأئمَّة التي ذكَروها فيما سُئلوا عنه.
2- استخلاص قواعد الاستنباط من أحكام أئمَّتهم، والمُوازَنة بين أقوال الإمام التي نُقلت عنه، ومقارنتها بأقوال كبار تلامذته وأصحابه وبيان الراجح منها.
3- تنظيم فقه المذاهب، وهذا في حدِّ ذاته أمر مُهمٌّ وجيِّد، ولكن العيب في الوقوف عند ذلك، والانشغال به عن المصادر الأصلية للفقه.
الدور السادس: عصر التقليد والجمود:
بدأ هذا الطور منذ سقوط بغداد حتى مَشارف العصر الحديث، واستمرَّ الفقه يَضعُف ويتدهور حتى أصبح التقليد شيئًا عاديًّا، كأنه هو الأصل، وبات مَن يحاول أن يكسر حِدَّة هذا الجمود خارجًا عن الإجماع، مرميًّا بكلِّ نقيصة، ومن هؤلاء: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وتبعهما على ذلك الشوكاني، ومثلهم كان الشاطبي في الأندلس – رحمهم الله جميعًا – لكن جهود هؤلاء لم تكن لتُقاوِم تأصُّل التقليد في النفوس، وانحصر نشاط فقهاء هذه الفترة في تأليف المتون والشروح والفَتاوى.
وهكذا ظل الفقه الإسلامي يَزداد كل يوم ضعفًا على ضَعفِه، عدا بعض النجوم التي ظلَّت تتلألأ في سمائه مِن حين لآخَر، تبعث النور والأمل في نفوس مُحبِّيه في أنه يمكن أن يستردَّ عافيته، فيعود قويًّا شامخًا؛ ليُسعِد المسلمين المعاصرين بحلِّ مشاكلهم، كما أسعد أسلافهم، وبخاصة في العصر الحديث الذي تراكمت فيه المشاكل، وبَعُد المسلمون فيه أكثر عن شريعة ربهم.
وأخيرًا؛ انتهى الأمر بالتشريع الإسلامي الذي نظم الله – سبحانه وتعالى – به حياة الناس جميعًا، وجعله سلاحًا لمَعاشِهم ومعادهم إلى دَرَكٍ لم يسبق له مثيل، ونزل إلى هوة سحيقة، وأصبح الانشغال به مفسَدةً للعقل والقلب، ومضيَعة للزمن، لا يُفيد في دين الله، ولا ينظم من حياة الناس.
وظلَّ الأمر كذلك حتى وثبت أوربا على الشرق تصفَعه بيدها، وتَركله برِجلها، فكان أن تيقَّظ على هذه الضربات، وتلفت ذات اليمين وذات الشمال، فإذا هو مُتخلِّف عن ركب الحياة الزاحف، وقاعد بينما القافلة تسير، وإذا هو أمام عالَم جديد، كله الحياة والقوة والإنتاج، فراعه ما رأى، وبهَره ما شاهد، فصاح الذين تنكَّروا لتاريخِهم، وعقُّوا آباءهم، ونسُوا دينهم وتقاليدهم: أنْ ها هي أوربا يا معشر الشرقيِّين، فاسلكوا سبيلها، وقلِّدوها في خيرها وشرِّها.
ووقف الجامدون موقفًا سلبيًّا؛ يُكثرون من الحوقلة والترجيع، وانطوَوا على أنفسهم ولزموا بيوتهم، فكان هذا برهانًا على أن شريعة الإسلام لدى المغرورين لا تُجَارِي التطور، ولا تتمشَّى مع الزمن.
ثم كانت النتيجة الحتمية أنْ كان التشريع الأجنبي الدخيل هو الذي يُهيمِن على الحياة الشرقية، مع منافاته لدينها وعاداتها وتقاليدها، حتى كاد الشرق يَنسى دينه وتقاليده، ويقطع الصلة بين حاضره وماضيه.
غير أن الأرض لا تَخلو من قائم لله بحُجَّة، فهبَّ دعاة الإصلاح يهيبون بهؤلاء المخدوعين أن خذوا حذركم، وكفُّوا عن دعايتكم؛ فإن ما عليه الغربيون من فساد الأخلاق لا بد وأن يَنتهي بهم إلى العاقبة السُّوءَى، ويَصيحون بهؤلاء الجامدين: دونكم النبع الصافي والهَدي الكريم؛ نبع الكتاب وهَدي السنَّة، خذوا منهما دينكم، وبشِّروا بهما غيركم، فعند ذلك تهتدي بكم هذه الدنيا الحائرة، وتسعَد بكم هذه الإنسانية المعذَّبة.
وكان من فضل الله – سبحانه وتعالى – أن استجاب لهذه الدعوة رجالٌ برَرة، وتلقَّتْها قلوب مخلصة، واعتنقها شباب وهبَها أعزَّ ما يملك من الأموال والأنفس، أسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يجعلني وإياكم منهم.
فهل أذن الله – سبحانه وتعالى – لنوره أن يُشرِق في الأرض من جديد؟! وهل أراد للإنسان أن يحيا حياة طيبة يَسودها الإيمان والحب والإحسان والعدل؟!
هذا ما تشهد به الآيات: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
سابعًا: الاسم:
اسم هذا العِلم: علم الفقه.
ثامنًا: الاستمداد:
هذا العلم مستمَدٌُّ من كتاب الله – سبحانه وتعالى – وسنَّة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وإجماع الأمة، والقياس المُستوفي شروط الصحَّة.
وقد صُنِّفت فيه كتب تعزُّ على العدِّ والحصر، وسأُحاول – إن شاء الله – سبحانه وتعالى – أن أقف وقفة أمام المكتبة الإسلامية؛ لنُلقي نظرة على الكتب الفقهية في القديم والحديث.
1- نظرة على الكتب الفقهية القديمة:
تغصُّ المكتبة الإسلامية – القديمة والحديثة – بالكتابات الكثيرة عن الإسلام في كافة نواحيه، وخاصة فيما يتعلق بالجانب الفقهي الذي يُعالج موضوع الأحكام، أو ما يُسمى بـ “الفروع”.
ومما لا شكَّ فيه أنه لا مجال للمُقارنة بين الكتب القديمة وبين الكتب الحديثة والمعاصرة، لا من ناحية الكثرة والشمول، ولا مِن ناحية طريقة العرض والدراسة، ولا مِن ناحية النتائج التي هي غرض الدراسة.
لكن المَقصود هنا أن نُلقي نظرة تقويميَّة على هذه الكتب، وسأبدأ بالحديث عن الكتب القديمة؛ فهذه الكتب ثروة طائلة للأمة المسلمة، تفتقر إليها الأمم الأخرى، وجهودٌ عِلمية جبارة تشهد للمسلمين بالقدرة على قيادة البشرية، ومُواكَبة التطورات والتغيرات المختلفة، وتشهد للفقهاء المسلمين بسعة العقل، وحِدَّة التفكير، وقوة الاجتهاد.
وقد كُتب كثير من هذه الكتب في أزمان سلطان الإسلام وعزِّه ودولته، ويوم كانت رايات التوحيد مركوزةً في أنحاء المَعمورة، يوم كان الإسلام يَحكُم عالَمًا مترامي الأطراف، يقع فيه من النوازل والقضايا، والأحداث والمُشكلات، الفردية والجماعية، العِلمية والاجتماعية والسياسية وغيرها ما لا يَكاد يقع تحت حصْر، وربما وقع في بلدٍ ما يُعَدُّ غريبًا في بلد آخر، وربما تُعُورِفَ في بلد على أمر، وتُعورِف في البلد الآخَر على ضدِّه، فكانت آثار هذا الواقع الممتد في الرقعة الإسلامية، تبدو واضحة جلية في كتابات العلماء وآثارهم، كما كان العلماء المسلمون يَكتبون من مركز قوة؛ أي: إنهم يُمثِّلون في علومهم ودراساتهم الأمة الظافرة المنتصرة، والدين القوي المسيطر، وكانوا – كغيرهم من أفراد الأمة المسلمة – يعتزون بهذا الدين، ويَشْرُفون بالانتماء إليه، والانضِواء تحت رايته.
وكانت مراكز العلم والبحث مُنتشِرةً في كل صُقع من أصقاع العالم الإسلامي؛ من مصر إلى الشام إلى الحِجاز إلى نيسابور إلى غيرها، وكان يتوفَّر في هذه المدارس المُعلِّمون والمشايخ في كافة العلوم: في العقيدة والحديث والنحو والتفسير والفقه وغيرها، إضافة إلى توفير مُتطلبات الحياة العادية؛ من مسكن، ومأكل، ومشرَب، وعلاج، وغيرها.
فكان الطالب يجمع همَّه على العلم، ويتلقى كل فنٍّ عن كبار المختصين فيه، ويُفرِّغ نفسه من الشواغل والمُلهيات؛ بل ربما سافر من بلده إلى بلد آخَر ومكَث فيه عشرات السنين، تاركًا وراءه كل ما يربطه بوطنه الصغير، مُهاجرًا إلى الله ورسوله في طلب العلم، وما أخبار البخاري، أو مسلم، أو بقيِّ بن مخلد عَنا ببعيد، وغيرهم كثير – رحمهم الله جميعًا.
وقد نتج عن هذه الحال تخرُّج أعدادٍ كبيرة من العلماء، يَجمعون بين أنواع كثيرة من العلوم يُكمل بعضها بعضًا؛ فهم مُحدِّثون حُفَّاظ أثبات، ولُغويُّون فُصحاء أقحاح، وفُقهاء مُستنبِطون، وعلماء في التفسير، وأساتذة في العقيدة، ولم يكن الفَرق عندهم قائمًا بين هذه العلوم؛ فهي كلها وسيلة للعلم بالدين، ونَشرِه بين الناس.
وساعدهم على استيعاب هذه العلوم وهضمها التفرُّغُ الذي اضطروا أنفسهم إليه، حين عزفوا عن زخرف الحياة وملذاتها، ومراتع الصبوة والشباب، وشغلوا أنفسهم بما خُلقوا له، فعاشوا في دنياهم سعداء، وماتوا ميتة الشهداء.
وقد خلَّفوا لمن بعدهم تراثًا عريقًا، مُتشعِّب الجوانب، لو اجتمعت جهود العلماء والباحثين وتوفَّرت عليه، لكلَّت دون أن تَبلُغ منه مبلغًا، فضلاً عما ضاع عَبر القرون، وهو كثير كثير.
وفيما يتعلَّق بالتراث الفقهي منه، فهو على أنواع:
1- فمنه ما يكون الفقه فيه ممزوجًا بغيره من العلوم الشرعية كالحديث وغيره؛ ومن أمثلة ذلك ما نجده من الآراء والاستنباطات الفقهية في مثل: “موطأ” الإمام مالك، أو ما نجده في تراجم الإمام البخاري في صحيحه، أو ما نجده في كثير مِن كتُب السنَّة، وبالذات ما يُسمى بـ: “المصنفات” كمُصنَّف الإمام الجليل عبدالرزاق الصنعاني – رحمه الله – ومصنف الإمام أبي بكر بن أبي شيبة – رحمه الله – وغيرها، وكان الغرض منها الجانب العملي؛ ولذلك رُتبت على أبواب الفقه.
2- ومنها ما أُلِّف في الفقه خاصة – وإن دخل في الفقه غيرُه من العلوم كالحديث – تبعًا – ومِن أشهر وأقدم الكتب المصنَّفة في ذلك: كتاب “الأم” للإمام الشافعي، وكتاب “المدوَّنة” للإمام مالك، وغيرهما، وهذه الكتب تشمَل مُعظم أبواب الفقه، أو كلها.
3- وهناك كتُب درَست جانبًا مُعيَّنًا، أو موضوعًا خاصًّا، ككتاب “الأموال” للإمام الجليل أبي عُبيد القاسم بن سلام، وكتاب “الخراج” لأبي يوسف، ولأبي يَعلى، وكتاب “شرح السير” للسَّرخسي وغيرهما.
ومما يَنبغي الإشادة به والإشارة إليه: أن هذا التراث الفقهي العظيم قد تحدَّث في عدد ضخم جدًّا من الفروع، لا يوجد له نظير في أي أمة من الأمم، أو حضارة من الحضارات؛ بل وسبق الزمن في عديد من القضايا، فوضَع لها الحلول المناسبة في زمن كان الناس فيه لا يتصوَّرون مجرَّد وقوعها فضلاً عن دراسة الحلول لها.
ولكن كل ما سبَق لا يَعني قدسية هذا التراث أو عصمته المُطلَقة، كما لا يَعني أنه كافٍ لسدِّ حاجة كل عصر دون جهد يقوم به أبناء العصر أنفسهم.
بل لا يَخلو هذا التراث مِن ثغراتٍ وجوانب نقْص، سواء من حيث الشكل، أو من حيث المضمون والمُحتوى.
أ- فمِن حيث الشكل، وطريقة الترتيب والتبويب:
تتداخَل الموضوعات في بعض هذه الكتب تداخُلاً يَصعُب معه العثور على المسألة المَطلوبة – أحيانًا – حتى على المُختصِّين، فقد تَجد أبحاث “تصرُّفات المريض” في كتاب العتق – باب العتق في المرض – وقد تجد أحكام “الحضانة” في باب الخُلْع، وهكذا.
ومما يُضاعِف الصعوبةَ عدمُ وجودِ الفهارس الموضوعيَّة التي تُيَسِّر للباحث مهمَّتَه.
ب- ومن حيث الأسلوب: فأسلوبها – وإن ناسَب العصر الذي كُتبت فيه – إلا أنه مما يَعسُر فهمه على المُعاصِرين، ومما يُلحَظ فيه:
• ضغْط العبارة، وحَصر المَعنى الواسِع في لفظ ضيِّق قليل موجَز، يَصل – أحيانًا – إلى التعقيد والركاكة، وهذا إنما يوجد في المتون والمُختصَرات التي كَثُرت في المتأخِّرين، وصارت عمدة الدارسين والمتفقِّهين؛ لقِصرها، وإمكانية حِفظها.
• كثرة استعمال العبارات الاصطلاحية ذات الدلالة التاريخية التي لا يَفهمها إلا مَن عاصَر مَدلولها، وقد يكون مؤلِّف الكتاب في بلد له اصطلاحات لا يَفهمها أهل بلد آخَر.
وليس ثمَّة مانع من استعمال اللفظ الاصطِلاحي، شريطة تحديد مَدلوله وضبطه بصورة لا يَلتبس معها بغيره.
جـ- ومِن حيث المضمون والمحتوى:
فهذه الكتب أُلِّفت في عصرٍ له ظروفه المُختلفة عما قبله وما بعَده، وهي كانت تُعْنَى بدراسة المُشكِلات المستجدَّة في ذلك العصر، والبحث عن حُلولها الشرعية، ولكن العصور التالية لها جاءت – أيضًا – بمُشكلات جَديدة، وقضايا حادثة، لا يُعثر في الكتب السالفة على حُلولها؛ بل قد لا يَكون البحث تطرَّق إليها أصلاً، وإن وُجد بعض اللفتات والإشارات التي يُمكن الانتفاع بها في دراسة النوازِل الجديدة، فهي مما لا يَستفيد منه إلا الباحث المتخصِّص العميق.
كما أن من هذه الكتب – وخاصة المتأخِّرة – ما يكون تركيزه على تحرير المذهب الذي أُلِّف فيه وحكايته وتقريره، دون أن يُعطي الاستدلال حقَّه، ودون مقارنة أو ترجيح.
وهناك عدد كبير من الكتب المذهبيَّة المتأخِّرة غلب عليها داء التعصُّب المذهبي المَقيت، والالتزام المُطلَق بالمذهب؛ سواء ما كان منه مِن نصِّ الإمام ذاته، أو من زيادات أصحابه وتلاميذه، أو من اختيارات البارِزين فيه، أو ما كان مُخَرَّجًا على أحد هذه المصادر.
ولذلك قد يخلو الباب، أو الفصل، أو الكتاب؛ مِن الاستدلال بالآية القرآنية، أو الحَديث النبوي، في حين تَكثُر في بعضها الأحاديث الضعيفة أو المَوضوعة.
ومما يجب التنويه عليه أن الباحث المُسلم إنما يبحَث عن الحق، وعن مُراد الله – سبحانه وتعالى – ومراد رسوله – صلى الله عليه وسلم – ولا يَعنيه بعد ذلك إن وافَقَ قولَ فلان أو فلان؛ خاصة وأنه إنما يَخرُج مِن قول إمام إلى قول إمام آخَر.
وهذه الملحوظات – وغيرها مما لم أَذكرْه – لا تَعني التقليل من قيمة هذه الثروة العظيمة، كما لا تعني تَعميم الحكم عليها جميعًا؛ بل فيها ما يُعدُّ نموذجًا حيًّا للدراسة العلمية، التي تحتفظ بقيمتها على مرِّ العصور.
وإنما أشرتُ إشارة عابرةً إلى تلك المآخِذِ؛ ليكون تلافيها وتسديدها أساسًا تُبنى عليه الدراسات الفقهيَّة المعاصِرة، وفق خطة سليمة شاملة.
2- نظرة على الكتب الفقهيَّة المُعاصِرة:
هذه الكتب تعدُّ – بالنسبة للثروة التراثية – قطرة في بحر مُتلاطِم الأمواج، وبالرغم من ذلك نرى لهذه الكتب إيجابيات كثيرة؛ منها:
• جودة الترتيب والتبويب، وملاءمته لروح العصر، وقرب مُتناوَله للباحث، أو القارئ العادي؛ فهي تُعنى بوضع العناوين التفصيلية، التي تدلُّ على المراد بوضوح، إضافةً إلى العناوين الكلية التي تُحدِّد موضوع الأبحاث، وتفرز الموضوعات بعضها عن بعض، وترتب الأفكار داخل الموضوع، أو المسألة الواحدة.
فهي – بشكل عام – أكثر دقَّةً ومنهجيَّة، وأحسن ترتيبًا وتسلسلاً؛ ولذلك فهي أقرب مُتناوَلاً، وأيسَر مأخذًا.
• سهولة الأسلوب ووضوحه ومناسبتُه؛ فهي تتحدَّث بلغة العصر، وتَضرب الأمثلة من واقع العصر، وتستعمل العبارات والمصطلحات التي يتداولها أهل العصر؛ ولذلك يَشعُر القارئ بأهمية معالجتها للموضوعات – ولو كانت الأفكار والآراء التي تَطرحها ليست جديدة بحدِّ ذاتها.
• من هذه الكتب ما يُعنى بالدراسة العلمية البحتَة، مع المقارنة والاستدلال، دون أن تُسيطِر روح العصبية المذهبية – حتى في الكتب التي أُلِّفت حسب مذهب بعينه – ومن النماذج الجيدة في هذا الباب: كتاب: “فقه السنَّة” للأستاذ سيد سابق، وغيره.
غير أنه إلى جوار هذه الإيجابيات توجد سلبيات كثيرة؛ بل وخطيرة – أحيانًا – تتعلق بالمضمون، والمحتوى، والنتائج التي يتوصَّل إليها البحث، خاصة وأنها قد تَطرق مسائل جديدة، وقضايا نازلة.
• فهي تتأثَّر أحيانًا – من حيث لا تشعر – بالأقاويل والشبهات التي يُطلقها أعداء الإسلام عن الإسلام؛ بحيث يجعل الكاتب همَّه دفع الشبهات وإبطالها والدفاع عن الإسلام، وموقف الدفاع – دائمًا – موقف ضعْف، فيجرُّه الحرص على تبرئة ساحة الإسلام إلى نفْي بعض الحقائق الثابتة، أو نسبة بعض الآراء الغربية إلى الإسلام.
فمَن يدافع عن الإسلام ضدَّ هجوم المستشرقين عن الجهاد، يشتطُّ – يَبعد ويُجاوز الحد – فيزعم أن الحرب في الإسلام دفاعٌ لا هُجوم، ويَلوي أعناق النصوص، والأحداث التاريخية لكي يَقسِرها – يُكرهها ويرغمها – على تأييد ما ذهَب إليه.
ومَن يراجع كتاب: “آثار الحرب في الفقه الإسلامي”؛ للدكتور وهبة الزحيلي، أو كتاب: “العلاقات الدولية في الإسلام”؛ للشيخ محمد أبي زهرة، وغيرهما كثير وكثير؛ يجد مصداق ذلك.
وعمومًا؛ فقد أصبحت قضايا السلم، والحرب، والجِزية، والعلاقات الدولية، ومعاملة الذميين والمشركين، وقضايا الحكم والتقنين، والرق، وتعدد الزوجات، وغيرها؛ لا تُطرق إلا من خلال مَنطِق ضعيف واهِن مهزوم.
• كما تتأثَّر – أحيانًا – بالواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية المضطهدة، المغلوبة على أمرها، الشارِدة في الجملة عن هَدي ربِّها وسنَّة نبيها محمد – صلى الله عليه وسلم – فتلتمس للناس المعاذير والمُسوِّغات التي تُهوِّن من شأن المنكرات والمحرَّمات، وتستجيب لضغط الواقع وثقلِه على النفس البشرية؛ فتؤول النصوص الصريحة، وتُضعِّف الآثار الصحيحة.
وبعض الباحثين – اليوم – يتناولون تلك الموضوعات على استحياء، وفي أعماقهم خضوع واستِخذاء – انقياد – للواقع يَمنعهم من الانسياق وراء دلالات النصوص المجرَّدة، ويُعكِّر سلامة تلقيهم، ويجعلهم رهينة التأثر بالأوضاع القائمة المتعارَف عليها.
وقلَّما تجد من يتحدَّث عن موضوعات: الربا، والحكم بغير ما أنزل الله، والتأمين، وعمل المرأة، ومشاركاتها السياسية… إلخ؛ إلا وتجده مستجيبًا لتزيين الواقع الذي لا يَرى له مَدفعًا.
والحق أننا مهما عجزْنا عن تغيير هذا الواقع أو ذاك، أو الاستبدال به خيرًا منه؛ فإن هذا لا يُبيح لنا “تبريره” وتحسينه، واعتباره أمرًا مشروعًا، أو مباحًا؛ إذ إننا – بذلك – نُضخِّم الانحراف، ونزيده رسوخًا، وننقله من كونه انحرافًا طارئًا يَنبغي أن تعمل الأجيال على تعديله؛ إلى وضعٍ سليم لا شيء فيه، وهذا – بحد ذاته – انحراف قد يكون أخطر من الانحراف الأول.
ومن جراء التأثر بما يُطلقه أعداء الإسلام من شبهات، والتأثر بالواقع المرير للأمة؛ نشأ في أوساط المسلمين مدرسة فكرية تبلوَرت ملامحها، ورسمت أصولها وقواعدها، وبدأت دراسة بعض القضايا الجديدة على ضوء تلك الأصول، وأعني بهذه المدرسة “المدرسة العقلانية” والتي هي امتداد لخطِّ المعتزلة في إطلاق الفِكر، وتسليطه على النص، واعتبار العقل “حَكَمًا” تُردُّ إليه النصوص المُحكَمة!
ومِن تناقضات هذه المدرسة العجيبة أنها تسلك مسلكًا ليِّنًا مع النصارى واليهود والمَلاحِدة، وقد تعتبرهم مؤمنين مؤهَّلين لدخول الجنة، ومع الحُكام الجائرين المبدِّلين لشرع الله، في ذات الوقت الذي تشنُّ فيه حملاتها الضارية على سلف هذه الأمة – بحُجَّة دراسة التاريخ وتقويمه – وعلى من اختطَّ سبيلهم من العلماء العاملين؛ لأنها تَعتبرهم حجر عثرة في طريقها المُعوجِّ.
• ومِن المآخذ على الدراسات الفقهية المعاصرة: جانب الضعف العِلمي، وعدم هضم التراث الفقهي والحديثي، الذي يُعتبَر قاعدةً للانطلاق في الدراسة والفتوى والتأليف.
ومِن العجيب أن الدراسات الشرعية أصبحت حِمًى مستباحًا لكل من شاء، سواء في كبير الأمور أو صغيرها – وليس فيها صغير – حتى أصبحت القضايا الخَطيرة في الإسلام في مُتناوَل أي باحث – مهما كان.
ولذلك؛ فلا غرو أن يخالف ما أجمع عليه المسلمون خلفًا عن سلف، أو يؤيِّد رأيًا شاذًّا منبوذًا تجاوَزه الزمن، أو ينقِّب في فقه الرافضة أو مَن شاكَلَهم على بعض الآراء التي تروق له، ويُقدِّمها للمسلمين على أنها فقه الإسلام، ورأي علماء الإسلام!
وكم رأينا من “الصحفيين” أو “صغار الطلبة” مَن يُجازف في القول، ولا يتورَّع عن الخوض فيما لا يُحسِن، ويَكتُب ويَنشُر ويُناقِش، ومن ذا يحاسبه أو يعاتبه؟!
وهذا مصداق حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين: ((إن الله لا يَقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العِباد، ولكن يَقبِض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتَّخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضَلُّوا وأضَلُّوا)).
• وحين تَدرُس الكتب المعاصرة القضايا الجديدة النازلة، يَبلُغ بها الشطط مبلغه، باعتبار أن هذه القضايا لم يَسبق أن تحدَّث عنها العلماء، واعتبارها أيضًا مما يمسُّ الواقع، وقد تكون حاجة الناس إليه قائمة – في غيبة المنهج الإسلامي الصحيح – وقد يَلتبس في هذه القضايا الحق بالباطل، ويَختلِط الصحيح بالسقيم، والخطأ بالصواب، ولو نظرْنا إلى ما كُتب في موضوع التأمين، أو المعامَلات المصرفية الجديدة، أو طفل الأنبوب، أو سواه، لوجدْنا العجب العجاب.
• ويَبقى أن مُعظم ما كُتب في العصر الحديث هو مِن نوع الدراسات المتخصصة، سواء كانت بحوثًا، أو رسائل جامعية، أو غيرها؛ أي: إنها تناقش موضوعًا واحدًا وتُحاوِل طَرق جميع جوانبه، وهذا له إيجابياته مِن نواحٍ، ولكن يَبقى أن الساحة لا زالت خالية من عمل فقهيٍّ متكامل، وإن كانت ثمة محاولات متفرِّقة لا أستطيع عرضها وتقويمها؛ لأنها لم تظهر حتى الآن كجهد مكتمل، اللهم إلا الموسوعات التي عُنيت بتدوين نوع من القضايا الفقهية كقضايا (الإجماع) مثلاً.
وهذه المحاولات منها ما أُعلن على شكل موسوعات فقهية أو (معاجم) أو خلافها، وقد أشارت مجلة (المجتمع) عن مشروعٍ لإنشاء موسوعة للحديث النبوي الشريف، يتولى إصدارها (مركز بحوث السنة والسيرة النبوية) في قطر تَقتصِر على ما صحَّ أو حَسُن من الأحاديث النبوية، وهي خطوة جيِّدة لجَمعِ وتحقيق المادة الأساسية التي تُستنبَط منها الأحكام، وهي السنَّة النبوية، وعسى أن توفَّق بمَن يحسن القيام بها؛ انظر: المجتمع، عدد 667.
ومن خلال هذه النظرة التقويميَّة العَجلى للتراث الموروث، وللدراسات المعاصرة، تبدو الحاجة ماسةً إلى جهود كبيرة في هذا المضمار؛ بحيث تكون جهودًا جماعية – لا فردية – تردُّ الحق إلى نصابه، وتُقرِّب الشرع إلى عامة الناس وخاصتهم، وترسم الصورة الصحيحة للإسلام، متلافية العيوبَ والأخطاء التي وقَع فيها هؤلاء وأولئك.
تاسعًا: حكم الشارع:
طلبُ هذا العلم فرض على سبيل الكفاية، فلا بدَّ أن تقوم به الأمة في مجموعها، وإلا أَثِمت.
وقد دعا الله – سبحانه وتعالى – المؤمنين إلى التفقُّه في أمور الدِّين بنفس الصيغة التي انتدبهم بها للجِهاد في سبيله، كأن الاجتهاد في معرفة أحكام الشرع يُعادِل الجهاد في سبيل الله، ولا جرم؛ ففي كليهما دفاعٌ عن الدين، وتثبيت لأركانه، وتقوية لدعائمه، وذَوْد عن حياضه ببذل قُصارى الجهد وطاقة الوسْع؛ قال الله – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].
وقد ذكَر الله – سبحانه وتعالى – ذلك في سياق طلب الجهاد، والآية واضِحة في إفادة أنه لا يَنبغي أن يَخرج كل المؤمنين للجهاد في سبيل الله، بل يَخرج بعضهم للجهاد في المعارك، ويَخرج بعضهم للجهاد في ميدان العلم النافع، وهو التفقُّه في الدين، ومِن أجل هذا فإنه يَنبغي على أهل كل قُطْر أو محلٍّ أن يُفَرِّغوا طائفة منهم للتفقُّه في الدين، ويتكفَّلوا باحتياجاتهم كلها؛ حتى يستفتوهم فيما بعدُ في أمور دينِهم، وليس لواحد مِن كلا الطائفتَين أن يمنَّ على الآخَر؛ فهذا في عبادة وهذا في عبادة، والكل يَجتهد ويَسعى ويُكابد ويُناضِل حتى تَكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله – سبحانه وتعالى.
ولا أعدو الحقيقة إذا قلتُ: إن الجهاد في سبيل الله نفسَه يَحتاج إلى الفقه، ولا يتمُّ على خير وجه ووسيلة وغايَة إلا بالفقه.
ولعلَّ ما وصل إليه المسلمون مِن ضعفٍ وهوان يرجع في سبب مِن أهمِّ أسبابه إلى تَركِهم فقه الجهاد، بل تركهم فقه الحياة في جميع نواحيها، فجميع أنشطة المسلم فيما يأخذ وما يدَع تحتاج إلى فقْه، أو إلى الفقه؛ ولذلك ربط النبي – صلى الله عليه وسلم – بين الفقه وإرادة الله – سبحانه وتعالى – بالإنسان الخيرَ، فقال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي صحَّحه الألباني: ((مَن يُرِد الله به خيرًا، يُفقِّهه في الدين)).
ولِشرف علم الفقه وأهميته جُعل الغاية لكثيرٍ مِن العلوم، واتُّخذت وسائل إليه كالنحو والصرف والبلاغة والتاريخ والتفسير والحديث والأصول، بل ويُمكن أن نُضيف إليها كثيرًا من العلوم الإنسانية الأخرى؛ لأنَّ الفَقيه لا يَتأتى له الكشف عن الحكم الشرعي فيما يَعرض له مِن النوازل وما يُستفتى فيه من الأحداث والمشكلات، إلا بعد فقهِه لأمرَين:
الأول: أن يفهم لغة الشرع وكيفية استنباط الأحكام الشرعية منها، وهو في هذا محتاج إلى علوم اللغة والشرع.
الثاني: أن يفهم الواقعة المَعروضة عليه بجميع مُلابساتها، وهذا يَستوجِب عليه أن يَعرف عُرف المجتمع وعاداته وتقاليده، وطبائع نفوس الناس فيه، وما يَحكم أهواءهم ويُحرِّك رغباتهم، وكثيرًا من أوجه حِيَلهم ودهائهم وطرائق معايشهم وطرق كسبِهم، وهذا يتطلب معرفته بالعلوم التي تُساعده على الإحاطة بفقه الواقعة، بعد إحاطته بفقه الحكم الشرعي؛ حتى يتسنَّى له أن يُنزل حكم الشرع على الواقعة، ويكون حكمه كاشفًا بالفعل عن حكم الشرع فيها.
عاشرًا: المسائل:
تَنحصِر مسائل علم الفقه في سبعة أقسام، وهي على النحو التالي:
1- الأحكام المتعلِّقة بالشعائر الدينيَّة من صلاة وصيام وزكاة وحجٍّ: وتُسمى هذه الأركان في كثير مِن كتب الفقه بالعبادات، بَيْدَ أني أميل إلى تسميتها بالشعائر – كما سبَق أن ذكرت – لأنَّ كل أمور الدين بحُسن النيَّة تَصير عبادة.
2- الأحكام المتعلِّقة بالأسرة مِن نكاح وطلاق ونسَب ونفقة وميراث ووصايا، وتُسمى هذه الأحكام بأحكام الأسرة.
3- الأحكام المتعلِّقة بأفعال الناس وتعاملهم في الأموال والحقوق وفصْل المنازعات، وتسمى بالمعاملات.
4- الأحكام المُتعلِّقة بسلطان الحاكم على الرعية، وبالحقوق والواجبات المتقابلة بينهما؛ وتسمى بالأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية؛ ويُسميها دارسو الحقوق بالحقوق الإدارية والحقوق الدستورية.
5- الأحكام المتعلِّقة بعقاب المجرمين، وضبط النظام الداخلي بين الناس، وتُسمَّى بالعقوبات.
6- الأحكام التي تُنَظِّم علاقة الدولة بالدول المُجاورة في حالتي السلم والحرب، وتسمى في كتب الفقه بالسِّيَر، ويُطلق عليها حديثًا: العلاقات الدولية.
7- الأحكام المتعلِّقة بالحِشمة والأخلاق والآداب والمَحاسِن والمساوئ، وتُسمَّى: الآداب.