مواقف مؤثرة من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية :
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة وإمام من أئمة الهدى، جدَّد الله به الدين وقمع به البدعة، كان إمام الدنيا في زمانه، وأحد أذكياء العالم وأفراده في الحفظ والعلم والعمل، إنه شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن شهاب الدين عبدالحليم ابن مجد الدين أبي البركات عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم الحرَّاني ابن تيمية وهو لقب لجده الأعلى، ولد في العاشر من ربيع الأول سنة (661هـ)، والحرَّاني نسبة إلى بلدة مشهورة بين الشام والعراق، كان أبيض البشرة، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، جهوري الصوت، فصيحًا، سريع القراءة، إليه كان المنتهى في فرط الشجاعة، والسماحة، حفظ القرآن وهو في الصغر، وأتقن علم الشريعة والعربية والمنطق وغيرها، ولم يتزوج ولا تَسَرَّى، لا رغبة عن النكاح، فهو سنة النبي صلى اللهُ عليه وسلم وإنما انشغالًا بالعلم والتعليم والدعوة والجهاد، كان يقضي وقته كله في البحث، والقراءة والمطالعة، فلا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تَرَوَّى من المطالعة، ولا تمل من الانشغال ولا تكل من البحث.
قال الذهبي: ما رأيته إلا ببطن كتاب.
وقد بدأ التأليف وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان من أفراد الدهر في كثرة تأليفه، فلا يعلم في الإسلام من صنف نحو ما صنف، وقدرت مؤلفاته بخمسمائة مجلد، وبأربعة آلاف كراس أو أكثر، وقد بلغ ما يكتبه في اليوم والليلة أربع كراريس، وكان يكتب مؤلفاته من حفظه، وكان ذا قلم سريع الكتابة إذا رقم يكاد يسبق البرق إذا لمع، وكانت مؤلفاته في غاية الإبداع وقوة الحجاج وحسن التصنيف والترتيب، وشرع بالتدريس وهو في الحادية والعشرين من عمره بعد وفاة أبيه، وأما درس التفسير فقد بدأ به وعمره ثلاثون سنة، واستمر مدة سنين متطاولة، وقد انعقدت له الإمامة في التفسير وعلوم القرآن الكريم، وقد أقبل عليه إقبالًا كليًّا حتى حاز فيه قصب السبق ويقال: إنه وضع تفسيرًا مطولًا أتى فيه بالغريب العجيب وكان مشهورًا بقوة حفظه، وقلما حفظ شيئًا فنسيه، كان الحافظ المزي يبالغ في تعظيم الشيخ والثناء عليه حتى كان يقول: لم ير مثله منذ أربعمائة سنة.
وكانت قوته في حياته الجادة التي لا تعرف الهزل فضلًا عن سافل الأخلاق من الغيبة والنميمة، فقد كان في غاية التنزه من الغيبة، والنميمة، وما عُرفت عثرة له في شيء من ذلك، وكانت مجالسه عامرة بالخير، لا يجرؤ المغتابون على غشيانها.
وكان رجمه الله زاهدًا في الدنيا غيرَ مبالٍ بها، كان يجيئه من المال في كل سنة ما لا يكاد يحصى، فينفقه جميعه آلافًا ومئين، لا يلمس منه درهمًا بيده، ولا ينفقه في حاجة له، وكان يعود المرضى، ويشيع الجنائز، ويقوم بحقوق الناس، ويتألف القلوب، وله محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه، عرضت عليه المناصب والولايات فرفض وقال: يقوم بها غيري، أما نشر العلم وتصحيح الاعتقاد ورد الناس إلى الله ورسوله فالناس أحوج ما يكونون إليه، وعُرضت عليه المرتبات والأعطيات فأباها؛ لأنه يعلم أنه إذا أخذت اليد ضعفت مقاومة الباطل واهتز موقف الناصح وهذا هو منهج الإمام أحمد بن حنبل، فقد قيل في ترجمته: أتته الدنيا فأباها، هذا مع انصراف شيخ الإسلام عن أمور الدنيا انصرافًا كليًا، إذ ليس له من المعلوم إلا اليسير، وقد تكفل أخوه شرف الدين بشؤونه، قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: وهذا يفيد الدرس الآتي وهو عدم اجتماع الضدين فكما أن:
فحب العلم وإشغال القلب والبدن بالمال وجمعه وتنميته والمكاثرة فيه لا يجتمعان، فكلما منحت هذا من جهدك ووقتك ضاع من ذاك، فَلْنَبْكِ على حالنا؟ (1)
أما مواقفه مع الولاة، فقد كانت قوية في النصح، والأمر، والنهي، فمن ذلك مواقفه العظيمة في كسر شوكة الملاحدة، والباطنية كما في وقعة شقحب والكسروان، وموقفه مع غازان حتى وصفت شجاعته بأنها خالدية نسبة إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي اللهُ عنه، فقد حدث سنة (699هـ) أن ملك التتر غازان قدم إلى دمشق، فخرج إليه شيخ الإسلام واجتمع به وكلمه بغلظة، فكف الله يد غازان عنه، وذلك أنه قال لترجمان الملك غازان قل له: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما عملا الذي عملت؛ عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت.
وجرت له مع غازان وقطلوشاه، وبولاي، أمور قام فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله، وحضر قضاة دمشق وأعيانها إلى مجلس غازان، فقدَّم إليهم غازان طعامًا فأكلوا إلا ابن تيمية، فقيل: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس، ثم إن غازان طلب منه الدعاء فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادًا في سبيلك فأيده وانصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فافعل به واصنع.. يدعو عليه، وغازان يؤمن على دعائه، وقضاة دمشق قد خافوا القتل وجمعوا ثيابهم خوفًا أن يبطش به غازان فيصيبهم من دمه، فلما خرجوا قال قاضي القضاة ابن الصصري لابن تيمية: كدت تهلكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم.
وقد سجن بقلعة دمشق في آخر حياته، فبقي يؤلف الكتب، ويرسل الرسائل لأصحابه ويذكر ما فتح الله عليه من العلوم العظيمة والأحوال الجسيمة، فقال: قد فتح الله علي في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثيرًا من العلماء يتمنونها وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثم إنه مُنع من الكتابة ولم يترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق فأقبل على التلاوة والمناجاة والذكر، وقال ابن القيِّم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: “إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة”. وكان في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير.. ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليها وقال: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَاب ﴾ [الحديد: 13].
وكان كثير التعبد ومداومة الذكر والأوراد، لا يشغله عن هذا شاغل ولا يصرفه صارف، قال ابن القيم: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إِلَيَّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتخذ هذا الغداء لسقطت قوتي، أو كلامًا قريبًا من هذا، وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لِأَسْتَعِدَّ بتلك الراحة لذكر آخر، أو كلامًا هذا معناه.
وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف وهو مع ذلك كان أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وَأَسَرَّهُمْ نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها. اهـ
وكان يقول: أحللت كل من آذاني، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، قال القاضي ابن مخلوف وكان من أعدائه: ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا.
كانت وفاته في قلعة دمشق في سحر ليلة الاثنين عشرين من ذي القعدة سنة (728هـ)، وقد حُمَّ رحمه الله سبعة عشر يومًا، وقد قبض في الثلث الأخير من الليل، فاجتمع في القلعة خلق كثير من أصحابه يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرحمن أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين فانتهيا إلى قَولِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر ﴾ [القمر: 54-55].
وقد اجتمع خلق كثير للصلاة عليه وحزر الرجال بستين ألفًا أو أكثر إلى مائتي ألف، والنساء بخمسة عشر ألفًا، وظهر بذلك قول الإمام أحمد بن حنبل لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، وقد رئيت له منامات كثيرة صالحة، وصُلِّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد المسلمين القريبة والبعيدة حتى في اليمن، والصين، وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة (الصلاة على ترجمان القرآن).(2)
رحم الله شيخ الإسلام. وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ .
(1) “الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية” (ص26–27).
(2) “الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية” للشيخ محمد عزيز شمس، والشيخ علي العمران، بإشراف: الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله.
المصدر : شبكة الألوكة .