وقفات مع قول العرب “الحَقُّ أَبْلَجُ والبَاطِلُ لَجْلَجٌ”:د. أحمد عبد المجيد مكي.بسم الله الرحمن الرحيم
أولًا- الحق والباطل في نظر الحكماء:
حظيت المقارنة بين الحق والباطل باهتمام الحكماء والأدباء قديمًا وحديثًا، ومن أقوالهم: “دولة الباطل ساعة ودولة الحقّ إلى قيام الساعة، للباطل جولة ثم يضمحل وللحق دولة لا تنخفض ولا تذل، العاقل لا يبطل حقًا ولا يحق باطلاً، الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، حقّ يضر خير من باطل يسر، من طلب عِزًا بباطل أورثه الله ذُلًّا بحقٍّ”، ومن أقوال العرب الجامعة: “الحَقُّ أَبْلَجُ والبَاطِلُ لَجْلَجٌ”؛ ففي معاجم اللغة: الْبَلَجُ وُضُوحُ الشَّيْءِ وَإِشْرَاقُهُ، وَمِنْهُ انْبِلَاجُ الصُّبْحِ، وفِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَبْلَجُ الْوَجْهِ) أَي مَشْرِقُهُ، ويقال إِذا فَرِحَ بالشيء: قَدْ أَبْلَجَني وأَثْلَجَني، ومِنْهُ قَوْلُهُم:
اَلحَقُّ أَبْلَجُ، لَا تَخْفَى مَعالِمُهُ، … كالشَّمْسِ تَظْهَرُ فِي نورٍ وإِبْلاجِ.
ومن أقوال الشعراء:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحَقَّ تَلْقَاهُ أَبْلَجَا … وَأَنَّكَ تَلْقَى بَاطِلَ الْقَوْمِ لَجْلَجًا
ومعنى: الْباطل لَجْلَجٌ أي ملتبس أو يُردَّد من غير أن ينفُذ، واللَّجْلَجُ: المخْتَلِطُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ، وضده الأَبْلَجُ أي: المُضِيءُ المُستقيمُ.
وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري: “الفَهْمَ الفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّة” أي تردد في صدرك ولم يستقرَّ؛ ومنه حديث علي رضي الله عنه: “الكَلِمةُ مِنَ الحِكْمَةِ تَكُونُ فِي صَدْرِ المُنافِقِ، فَتَلَجْلَجُ حَتَّى تَخْرُجَ إِلى صَاحِبِهَا”، أي تتحرك في صدره وتَقْلَقُ حتى يسمعها المؤْمن فيأخذها ويعيها (1).
ثانيًا- تعريف الحق والباطل:
الحق: هو الصحيح الثابت الذي لا يسع عاقل إنكاره بل يلزمه إثباته والاعتراف به، ومن صفاته: أنه واضح لمن أراد أن يسلكه، من تعداه ظلم، ومن قصر عنه ندم، ومن صارعه صرعه، وأتباعه هم خيار الخلق، عقولهم رزينة، وأخلاقهم فاضلة، إذا عرفوا الحق انقادوا له، وإذا رأوا الباطل أنكروه وتزحزحوا عنه.
أما الباطل: فهو ما لا ثبات له، وما لا يستحق البقاء بل يستوجب الترك والقلع والإزالة، وأتباعه من أسافل الناس وأراذلهم وسَقَطهم، يُعرَفون بتكبرهم عن الحق، وجهلهم بالحقائق، بل إن شئت فقل سُلِبُوا نعمة العقل؛ فالجهل لهم إمامًا، والسفهاء لهم قادة وأعلامًا، فما إن يتكلم أحدهم حتى يُعرَفُ فساد ما عنده، يصور الباطل في صورة الحق، ويستر العيوب بزخرف القول، يتلون كالحرباء؛ فلا يثبت على مبدأ، ولكن إذا شاء طفا، وإذا شاء رسب، فيصدق فيه المثل القائل: يُطَيِّنُ عَيْنَ الشَّمْسِ، وهو مثل يُضرب لمن ينكر الحقَّ الجليَّ الواضح بحجج سخيفة، وإذا كان الساكت عن الحق شيطان أخرس؛ فالمتكلم بالباطل شيطان ناطق.
ثالثًا- التدافع سنة مِنْ سنن الله:
والتدافع بين الحق والباطل أمر حتمي وسنة من سنن الله في كونه، وقديمًا قال ورقة بن نوفل للرسول صلى الله عليه وسلم في بداية نزول الوحي: (يا ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ وَرَقَةُ: (نَعَمْ ، إِنَّه لم يأتِ أحد قطّ بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإن يُدْرِكْني يومُك حَيًا أنْصُرْك نصرًا مُؤَزَّرًا) (2)، ومعنى مُؤَزَّرًا أي قويًا بالغًا.
والسبب في ذلك أن الحق والباطل ضِّدان والضدان لا يجتمعان، بل لم يزل أحدهما ينفر من الآخر ويدافعه حتى يزيله ويطرده، أو على الأقل يضعفه ويمنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة؛ لذا فمن حاول الجمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له، وكان الباطل أولى به!
رابعا- مكر أهل الباطل قوي وضعيف!
والعجيب أن أهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم، وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله وإزالتهم وصَدّ الناس عنهم بكل ما أوتوا من قوة، ويحتالون في إضلالهم بكل حيلةٍ وإمالتهم إليهم بكل وسيلة، وقد صوَّرَ القرآن طَرَفًا من ذلك، قال سبحانه: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) إبراهيم: 46، وفي الآية وجهان:
الوجه الأول: أن مكرهم كان معدًا لأن تزول منه الجبال الراسيات، وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه؛ فالجبال لا تزول، بل المقصود التعظيم والتهويل وهو كقوله: (تكاد السماوات يتفطرن منه) مريم: 90ّ.
الوجه الثاني: “إِنْ” بِمَعْنَى “مَا” أي ما كان مكرهم لِتزول منه الجبال؛ لضعفه وَوَهَنِهِ، والجبال هاهنا مَثَلٌ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أَنَّ ثبوتها كثبوت الجبال الراسية؛ لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على ُل الأديان، ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) إبراهيم: 47، أي قد وعدك الظُّهُورَ عليهم والغلبة، والمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد صلى الله عليه وسلم، ودلائل شريعته (3).
ولعلك تلاحظ أخي القارئ أن كل وجه من الوجهَين أبلغ من الآخر، وفي كل منهما بشارة لأهل الحق والخير؛ فالله عز وجل بقدرته وقوته يردُّ كيد الماكرين في نحورهم، كما قال سبحانه: (وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي: يفسد ويبطل، ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فأمرهم لا يروج ويستمر إلا على غبي أو متغابي، ويدخل في هذا كل من مكر لينصر باطلاً أو يبطل حقًا على مر التاريخ.
خامسًا- من سنن الله الكونية أن الباطل إلى زوال:
الثابت بيقين أن الباطل -مهما ملك من القوة والعتاد- فأمره إلى زوال، وأن الغلبة في النهاية للحق، وتلك سنة لا تتخلف أبدًا، نجد هذا في قوله سبحانه: (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون) الأعراف: 118، وقوله عز وجل: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الأنفال: 8، وقوله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا) الإسراء: 81، وقوله عز من قائل: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) الأنبياء: 18، وقوله سبحانه: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) سبأ: 49، أي قل: جاء الدين الحق وهو الإسلام والقرآن والتوحيد، وهو الذي سيعلو على سائر الأديان، ويمحق الله الباطل؛ فلا يبقي له أي أثر أو قوة ولا يعود إلى نفوذه، وقوله تعالى: (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته) الشورى: 24، قال العلامة السعدي “ت: 13768”: “من حكمة الله ورحمته، وسنته الجارية، أنه يمحو الباطل ويزيله، وإن كان له صولة في بعض الأوقات، فإن عاقبته الاضمحلال، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ الكونية، التي لا تتغير ولا تتبدل، ووعده الصادق، وكلماته الدينية التي تحقق ما شرعه من الحق، وتثبته في القلوب، وتبصر أولي الألباب، حتى إن من جملة إحقاقه تعالى الحق، أن يُقَيِّضَ له الباطل ليقاومه، فإذا قاومه، صال عليه الحق ببراهينه وبيناته، فظهر من نوره وهداه ما به يضمحل الباطل وينقمع، ويتبين بطلانه لكل أحد، ويظهر الحق كل الظهور لكل أحد” (4).
وإذا كانت الأمثال تقرب المعقول من المحسوس، وتعطي صورة ذهنية تعين على فهم المراد، فإن الله عز وجل ضرب الله الأمثال للناس؛ ليتضح الحق من الباطل، كما يشير إلى ذلك قول تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) الرعد: 17، والزَبَد: ما يعلو الماءَ وغيره من الرَّغوة عند غليانه أو سرعة حركته، ووجه الشبه هنا أَنَّ الحق في استقراره ونفعه كالماء المستقرّ النافع، وكالمعدن النّقي الصّافي، والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السّيل على جوانبه، وكشوائب المعدن التي يطرحها ويتخلّص منها عند انصهاره، فيبقى الحقّ ويثبت، ويزول الباطل ويتبدّد.
وأخيرًا- مما يجب أن يُعرف أنَّه إذا كان النصر أمر لا شك فيه فإنه لا يأتي دون جهد عظيم يُبذلُ وتضحيات تُقَدَّمُ، كما أنه قد يتأخر لأنَّ الله تعالى يريد لأهله النصر الأكبر والأكمل والأعظم والأدوم والأكثر تأثيرًا في واقع الحياة وفي عموم الناس، يدل على ذلك أنَّ نصر الرسول الكريم ومن معه من المؤمنين لم يحصل في يوم وليلة ولا سنة واحدة، وإنما تأخر مدة، ثم جآءهم النصر الذي دخل بسببه الناس في دين الله أفواجًا.
اللهم ارزقنا حسن الثقة بك، واجعلنا ممن يعلمون الحق ويعملون له، ويوقنون بانتصاره كأنما يرونه رأي العين، اللهم آمين.
—————————————–
(1) مقاييس اللغة ج1ص296، لسان العرب ج2ص215، مختار الصحاح ص(39).
(2) حديث صحيح، رواه البخاري رقم (3) ومسلم رقم (160).
(3) تفسير الرازي ج19ص111، تفسير القرطبي ج9ص381.
(4) تفسير السعدي ص758.