الحمد لله الذي أحيانا:أنس إبراهيم الدغيم.رُويَ في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: (باسمك اللهم أحيا وأموت)، وإذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النّشور).
الحمد لله الذي أحيانا: إنها أولُ كلمةٍ يهتفُ بها قلبُ المؤمن من يومه؛ فحينما يلفُّ المؤمنَ سوادُ اللّيل فيخلدُ إلى الفراش ليستريح من تعب التّردّد في حاجات يومه الطّويل، يظلُّ قلبُهُ منزلاً للأنوار الهابطة إليه من المحلِّ الرّفيع، ويظلُّ مستعدًا لأن يأخذ من ومضات النور الهابطة ما يأخذ به في مسالك النّورانيّة الرّفيعة.
وحينما يسدلُ اللّيلُ ستورَه على الوجود، تفرح قلوبُ الذين حادّوا اللهَ ورسوله والمؤمنين بأنّ الورودَ الثّائرةَ قد خلدتْ إلى أكمامها بعد نفح الشّذا والطّيب، وتطمئنُّ قلوبهم إلى أنّ رجالَ الأرض قد ناموا نومتهم الهادئة، فيقومون في هدأة اللّيل ليشعلوا نيرانَ حروبهم وأحقادهم في سكون العالم ، هؤلاء أعداؤنا يا سادة!
ولكن إذا ما انقضى من اللّيلِ ثلثُه أو أكثرُ من ذلك بقليل قام المؤمن الحقُّ يمزّقُ أستارَ اللّيلِ بوثبةٍ من روحهِ عليّةٍ ، ويضيء أكنافَ اللّيل بأورادِ اليقين، مكتنفًا قلبَهُ الثائرَ بين جنبيه، يمخرُ عبابَ الصّمت بقوله: (الحمد لله الذي أحيانا).
إنها الكلمةُ الأولى من يومٍ جديدٍ، وجميل، إنها جذوةُ الإيمان الأولى التي تنبعث في سجاف اللّيل ليحتمل منها المؤمن قبسًا مشرقًا يصوغ منه منطلقَه المؤمنَ القويّ، إنها الكلمة الأولى التي تقول للصّمت: “أحلى من الصّمتِ …. قولُ الذين يدعون إلى الله ويعملون الصّالحات”، إنها الحركةُ الأولى التي تقول للسّكون: “أحلى من السّكونِ … الانطلاقةُ إلى الله”، إنها الوثبةُ الأولى التي تقولُ للهدوء: “أحلى من الهدوء …… الثّورةُ على مضامين الجاهليّة”.
إنّ لهذه الكلمة شعاعًا نورانيًّا يذكي قلبَ المؤمن بنور التّوحيد، ويقدح فيه زنادَ التّوجّه السّديد والسّلوك الرّشيد، إنها الهروبُ من الدَّعةِ والضّعف ثمّ إثباتُ القدم في أرض الإيمان، إنها الإعلانُ للدّنيا بأسرها بأنهُ إذا نامتْ عينا مؤمنٍ فإنَّ قلبه لا ينام، إنها الفرارُ إلى الله بقلبٍ راغبٍ يحدوهُ الشّوقُ إلى حضرةِ أنسه، واللّهفةُ للوصول إليه سبحانه، ثمّ النّزولُ في محاريب قدسِه، (ففرّوا إلى اللهِ إنّي لكم منه نذيرٌ مبين).
إنّ لهذه الكلمةِ سراً يجعلُ من البدءِ شيئًا آخر يصبغ سيرة المؤمن من يومه الجديد بلون الإيمان، وعطرًا يعبق في وقت المسلم من شذاه ما يعطّرهُ ويطيّبه.
ما زال إبليسُ وجنودُه في كلّ عصرٍ يزيّنون لنا الشّهوات، ويبرزون الملذّاتِ أمامَ أعيننا في أجمل حللها؛ فإذا ما قال المؤذّنُ (الصّلاةُ خيرٌ من النّوم)، نفث إبليسُ في رَوع المؤمن أنّ النّومَ خيرٌ من ركعاتٍ قد تطول، وإذا ما قال المؤذّنُ: (حيَّ على الصّلاة)، وسوسَ إبليسُ للنّفس المؤمنة بأنّ الرّاحةَ خيرٌ من القيام في محاريب الإيمان والذّكر الحكيم، وما زال حلفاءُ الشّيطانِ في كلّ عصرٍ يعلّمونَ الشّبابَ المسلم بأنّ يوم المسلم إنما يبدأ من بعد طلوع الشّمس، وبهذا انخدع الكثيرُ من المسلمين، فإذا قاموا من صبحهم إلى أعمالهم قاموا كسالى، وما علموا أنّ يومَ المسلم إنّما يبدأ من صيحةِ المآذن: الله أكبر).
ألا وإنّ المؤمنَ الذي لا يعيش لحظاتِ الفجر الجديد هو عدوٌّ للوقت، ولن يعطيَه الوقتُ ما يريد، فلا بركةَ بعد ذلك في عمره، ولا انفساحَ في أيّامه ووقته.
وإنّ المؤمن الذي لا يستيقظ على صوت دقّات الصّبح على باب كلّ يوم، فلن يستشعر في قلبه بعد ذلك حلاوةَ المشي في مناكب الأرضِ والأكل من رزقها، وإنّ المؤمن الذي لا يعيش تلك اللّحظات الجميلة الّتي تشرقُ فيها شمسُ الطبيعة فتملأ بشعاعات النور مسالكَ الحياة، لن تشرقَ شمسُ الحقيقة في قلبه من يومه، فقلبُه بعد ذلك قعرُ بئرٍ مظلمة، فإذا ما هجر المؤمنُ فراشَه وأوى إلى محرابِ التّوحيد ثم تلا فيه من آيات الكتاب البيّنات أحسَّ بالنّشوة تسري في أوصاله، وتعمرُ كيانَه.
ألا إنّه ندى الإيمان المتساقط من المحلِّ الرّفيع الأعلى على القلب الفقير، والنّورُ النّازلُ من قبّةِ الكأسِ الأوفى إلى القلب الطّهور، ولن يطهرَ قلبٌ ويصفو إلا بذينكَ الوافدين، فإذا ما قام المؤمنُ فدخلَ مسجدَ التّوحيد والمناجاة وصفَّ قدميهِ في محراب العبوديّة، تحسّستْ منه الجوارحُ والأعضاءُ بردَ اليقين، ثم استباحتْ خلاياه بعد ذلك وارداتُ الهدى، حينها تهتفُ كلُّ حجيرةٍ فيه: (لا إله إلا الله) وكلُّ خليّةٍ فيه (محمدٌ رسولُ الله)، ثم تستقرُّ خلجاتُ نفسه على صدى (ألا بذكرِ الله تطمئنُّ القلوب).
الحمد لله الذي أحيانا؛ لنسعى في ركابِ الحياةِ حاملينَ لواءَ التّوحيد، الحمد لله الذي أحيانا؛ لنعطّرَ مسالكَ الوجودِ بعَرفٍ من شذا الهدى والإيمان، الحمد لله الذي أحيانا؛ ليكونَ كلُّ واحدٍ منّا حرًا جديدًا تنطلقُ منه صيحاتُ الهدى فتعمر الأرضَ بالهتافِ الخالد “لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله “، الحمد لله الذي أحيانا حتى إذا جاءنا الموتُ بعد ذلك كان حبيبًا جاء على شوق، الحمد لله الذي أحيانا؛ ليكون كلُّ واحدٍ منّا هجرةً إلى الله ورسوله، وغارَ ثورٍ جديدًا يسوقُ الخيرَ إلى العالمينَ سوقًا، ويقودُ الحيارى في ركاب النّور، ويهدي التّائهينَ إلى منازلِ الرّحمن، حاملاً في قلبه آيَ الكتابِ وفي يديه ورودَ الإسلام؛ حينها ستهتفُ له كلُّ ذرّةٍ في الأرض وحبّةٍ في السّماء: “طلعَ البدرُ علينا”.