تأملات في سورة العنكبوت.هيفاء الحواس.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه وقفة وقفتها منذ أيام في سورة العنكبوت، لفت نظري ترابط عجيب بين أول السورة، ووسطها، وآخرها، وما طُرح فيها من قصص الأنبياء! ولو أعطينا من أوقاتنا لمثل هذا التأمل والتدبر لوجدنا فيه خيرًا كثيرًا.
ابتدأ الله سبحانه هذه السورة العظيمة بقوله: (ألم) هذه الأحرف المقطعة التي اختلف فيها العلماء، جُمعت في قولك: “نصٌّ قاطعٌ له سرّ”، وقعت في بدايات السور: بعضها حرف: (ن)، (ص)، (ق) ، وبعضها حرفان: (حم)، وبعضها ثلاثة: (ألم)، وبعضها أربعة: (المر)، وبعضها خمسة: (كهيعص)، (حم عسق)، ذُكر فيها ما زاد على عشرين قولاً، بعض العلماء قالوا: هي من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله (فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخَر متشابهات)، والذي رجحه كثير من العلماء أنها تدل على إعجاز القرآن وعظمته؛ فهذه الحروف هي التي رُكِّب منها القرآن، فإن استطعتم أن تأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو سورةٍ مثله، أو سورةٍ من مثله، وقوله: (مثله) ليس كقوله: (من مثله)، وكثيرًا ما يأتي بعد هذه الأحرف كلام عن القرآن؛ لذلك استشفَّ العلماء منها ذلك.
(أحسب الناس أن يُترَكوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون (2) ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين): همزة استفهام فيها معنى الإنكار: أَمِن المعقول أن يكون هناك إيمان دون أن تكون هناك فتنة! إنكار على مَن يحسب أنه تخلّص من الامتحان والفتنة في هذه الدار، وإخبارٌ منه سبحانه عن سرِّ هذه الفتنة والمحنة، وهو تبيين الصادق من الكاذب.
ومن ظنَّ -بمفهوم المخالفة- أنه بإعراضه عن الإيمان متخلِّصٌ من الفتنة، فقد أخطأ! وإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب الشيءَ العظيم، قال وهب: قرأت في كتاب رجلٍ من الحواريين: “إذا سلك بك سبيل البلاء، فقرَّ عينًا؛ فإنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين، وإذا سلك بك سبيل الرخاء، فابكِ على نفسك؛ فقد خولف بك عن سبيلهم”.
ما معنى هذه الفتنة؟
يقول الله -عزَّ وجل-: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يأتِكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساء والضراء وزلزلوا …) الزلزال: اضطراب في الأرض، وكذلك زلزلة الإنسان! هل تتصور أن الإنسان يتزلزل؟ أي: كل ما في نفسه يتحرك ويضطرب بسبب هذه الزلزلة، حتى مبادئه تتزلزل! وقد تسقط! خباب بن الأرت -رضي الله عنه- يأتي رسول الله وقد كثر العذاب عليه وعلى قومه فيقول: “يا رسول الله ألا تستنصر لنا!” ألا تدعو لنا! وكأنه يقول: تعبنا! فجلس -صلى الله عليه وسلم- وقد احمرَّ وجهه وقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يُجاء بالمنشار فيُجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه!)، (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين)، (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)، (ما كان الله لِيذرَ المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يَميزَ الخبيثَ من الطيِّب…) يتعرض الإنسان للفتن إما في ماله، أو في نفسه، أو في دينه -وهي أعظمها-، والإنسان يضعف؛ ترى أنك تقبل على السنن وتبعد، تنشط وتضعف؛ لذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا) كل شيءٍ يهون إلا المصيبة في الدين، فإما أن تثبت على دينك أو تتخلى عنه!
ومن أمثلة الفتنة في الدنيا: الفتنة في الصحة وفي القوة، الفتنة في المال؛ فرزق الله لك فيه فتنة: هل ستؤدي حقه سبحانه فيه؟ هل سينطبق عليك قوله: (المال الصالح للعبد الصالح)؟ هل ستنفق منه هاهنا وهاهنا؟ وأصحاب الأموال يؤخرون في الجنة إلا من قال من عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم! (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) فالمطلوب إيمانٌ ثابتٌ في حالتي النعماء والبلاء، ولا بدَّ من حصول الألم لكل نفسٍ مؤمنةٍ أو كافرة؛ لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أكثر شدة، ثم ينقطع، ويعقبه أعظم لذة، والعكس للكافر! وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات؛ فيتلذذون بها ابتداءً ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوا منها، وهذا الثبات لا يقع إلا لمن جاهد نفسه والشيطانَ والهوى؛ وذلك ما أشار إليه جلَّ وعلا في قوله في الآية الخامسة: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين) يعني: أن هذه الفتن تحتاج منا مجاهدة، ونتاج هذه المجاهدة عائد علينا؛ لأن الله غنيٌّ عن العالمين جميعًا ولكن هذا لا يعني أن الله لا يفرح بتوبة العبد! أو أنه لا يرضى عن العبد إذا رأى طاعته: (ولا يرضى لعباده الكفر)؛ لكنه غنيٌّ في نفسه، ونحن فقراء بكل الوجوه إليه، إذن فالقضية أن المصلحة لي أولاً وأخيرًا.
هذه السورة تصور الجهاد؛ جهاد النفس والهوى والشيطان، والجهاد من اسمه: أقصى جهد يبذله الإنسان؛ لأن الإنسان يعترك فيه مع نفسه بقوة، ثم قال الله -عز وجل- بعد آيات: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما …) أيضًا جهاد! حتى مع الوالدين؛ لذلك قال العلماء: نزلت هذه الآيات في سعد بن أبي وقاص لما أسلم فقالت له أُمه: والله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فالأمر يحتاج لجهاد كبير، كيف يستطيع أن يجمع بين إحسانٍ لهما وهما يأمرانه بالمعصية وبين طاعتهما؛ لأن الله أمر بطاعتهما؟ ثم بعد بضع آيات يذكر -سبحانه- قصة نوح، ويذكر فيها حدثًا معينًا فيقول: (ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا فأخذهم الطوفان وهم ظالمون)، سبحان الله لم ذكر الله بالذات من القصة عدد سنوات دعوته؟ تسع مئة وخمسون سنة وهو يجاهد في هذه الدعوة! وما استجاب له إلا القليل! زوجه وابنه لم يؤمنوا! وهل أنتم متصورون كيف كانت دعوة نوح، (قال ربِّ إني دعوت قومي ليلاً ونهارًا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارًا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا، ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارًا) نوح: 5-9.
ثم يذكر تعالى قصة إبراهيم عليه الصلاة السلام: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه …) ويطيل الكلام عنها في صفحة ونصف! وجهاد إبراهيم -عليه السلام- مع من؟ مع أبيه! ومع قومه ومع النمرود ومع نفسه، قال سبحانه في سورة البقرة: (وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ) أي: بأمور كثيرة، (فأتمَّهن): قام بالمطلوب كما هو، تأمَّل: هنا ابتلاء أيضًا! وابتلاء حين صبر على حرمان الابن، ثم حين أُمر بتركه وأمه في وادٍ غير ذي زرع، ثم يؤمر بقتله بعد أن شبَّ وتغلغل حبه في قلبه (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون)
ثم قصة لوط: (ولوطًا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين)، قصة نبي الله الذي لم يكن في قريته (سدوم) غير بيتٍ واحد من المسلمين (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين) الذاريات: 35-36.
ثم قصة شعيب: (وإلى مدين أخاهم شعيبًا …)، ثم بعد عدة آيات يقول تبارك وتعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعةٌ فإياي فاعبدون) وانظر للربط بين أول السورة وآخرها: إن لم تستطع المجاهدة في أرضك، وضاق عليك فيها أن تعبد الله كما أمرك، فلا تضِق ذرعًا؛ إذا ضاق عليك البيت فاعبده -تعالى- في الجامعة، في مكان العمل، في السيارة …إلخ؛ فأرض الله واسعة! لأن علة الأمر بالهجرة هي تمكينهم من إظهار التوحيد وإقامة الدين؛ لذلك استنبط بعض العلماء من هذه الآية ومما ذكر في قصة نوح أن هذه السورة آخر ما نزل في مكة، لِمَ؟ قالوا: إن فيها إشارات إلى الهجرة: في هذه الآية إشارة واضحة، وفي قصة نوح: (فلبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا) فيا نبي الله لا تستكثر ثلاث عشرة سنة مكثتها في قومك.
بعد ذلك يقول: (كل نفسٍ ذائقة الموت) يا الله! ما سرُّ هذه الآية في هذه السورة؟ كأنها تخاطب المهاجر لأرض الله الواسعة: لا تأسف على ما تركت من أرضك، ومن بيتك، ومن مالك …؛ فأنت تاركها، تاركها إن جاءك الأجل، فإن تركتها الآن لله؛ فهو خير لك، والهجرة أجرها عظيم! “الهجرة تجبُّ ما قبلها”.
وليست تخاطب المهاجرين فقط! بل تخاطب: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه) أنت ستتعب في جهادك؛ لكن هذا الجهاد يومًا سينتهي، وتموت، وستلقى نتيجة هذا الجهاد عند الله، إذا كانت هذه نهاية الدنيا، فكل اجتهادٍ وبلاءٍ هيِّن.
قال ربنا هذه الآية تهوينًا وتحقيرًا لأمر الدنيا وزخارفها.
الموت في كلِّ حينٍ ينشد الكَفَنا ونحن في غفلةٍ عما يُراد بنا
لا تركننَّ إلى الدنيا وزهرتها وإن توشَّحتَ من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا؟ أين الذين همُ كانوا لها سكنا؟
سقاهم الموت كأسًا غير صافيةٍ فصيَّرتهم لأطباق الثرى رهنا
يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي بعد أن تأمّل في القبر: “يا عجبًا للناس! كيف لا يستشعرون الموت وهو يهدم من كل حيٍّ أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمه هو بجملته! يا عجبًا للناس عجبًا لا ينتهي! كيف يجعلون الحياة مدة نزاعٍ وهي مدة عمل! القبر كلمة الصدق مبنيةُ متجسمة، فكل ما حولها يتكذب ويتأول، إذا ماتت كلمة “القبر” في الأحياء من غرور أو باطل أو غفلةٍ أو أثرة، بقي القبر مذكِّرًا بالكلمة شارحًا لها بأظهر معانيها، القبر على الأرض كلمةٌ مكتوبة في الأرض إلى آخر الدنيا، معناها أن الإنسان حيٌّ في قانون نهايته، فلينظر كيف ينتهي.
في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتًا تعمل أعمالها، فإذا انتهت الحياة، انقلبت ذات الإنسان ذاتًا يُخلَّد هو منها، فهو من الخير خالد في الخير، ومن الشر خالدٌ في الشر؛ فكأن الموت إن هو إلا ميلادٌ للروح من أعمالها تولد مرتين: آتيةٌ وراجعة، وإذا كان الأمر للنهاية، فقد وجب أن تبطل من الحياة نهايات؛ فلا يُترك الشر يمضي إلى نهايته؛ بل يُحسم في بدئه، ويُقتل في أول أنفاسه، وكذلك الشأن في كل ما لا يَحسن أن يُبدأ، فإنه لا يجوز أن يمتد، كالعداوة والبغضاء وإن رؤية القبر زيادة في الشعور بقيمة الحياة؛ فيجب أن يكون معنى القبر من معاني السلام العقلي في هذه الدنيا، القبر فمٌ ينادي: أسرعوا، أسرعوا، فهي مدة لو صُرفت كلها في الخير ما وفت به، فكيف يضيع منها ضياعٌ في الشر أو الإثم! إن أطول الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة يومه إلا أقصر من يوم، ينادي القبر: أصلحوا عيوبكم، فإن جاءت إلى هنا كما هي، بقيت كما هي إلى الأبد.
ثلاثة أرواح لا تصلح روح الإنسان في الأرض إلا بها: روح الطبيعة في جمالها، وروح المعبد في طهارته، وروح القبر في موعظته”
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه وقفة وقفتها منذ أيام في سورة العنكبوت، لفت نظري ترابط عجيب بين أول السورة، ووسطها، وآخرها، وما طُرح فيها من قصص الأنبياء! ولو أعطينا من أوقاتنا لمثل هذا التأمل والتدبر لوجدنا فيه خيرًا كثيرًا.
ابتدأ الله سبحانه هذه السورة العظيمة بقوله: (ألم) هذه الأحرف المقطعة التي اختلف فيها العلماء، جُمعت في قولك: “نصٌّ قاطعٌ له سرّ”، وقعت في بدايات السور: بعضها حرف: (ن)، (ص)، (ق) ، وبعضها حرفان: (حم)، وبعضها ثلاثة: (ألم)، وبعضها أربعة: (المر)، وبعضها خمسة: (كهيعص)، (حم عسق)، ذُكر فيها ما زاد على عشرين قولاً، بعض العلماء قالوا: هي من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله (فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخَر متشابهات)، والذي رجحه كثير من العلماء أنها تدل على إعجاز القرآن وعظمته؛ فهذه الحروف هي التي رُكِّب منها القرآن، فإن استطعتم أن تأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو سورةٍ مثله، أو سورةٍ من مثله، وقوله: (مثله) ليس كقوله: (من مثله)، وكثيرًا ما يأتي بعد هذه الأحرف كلام عن القرآن؛ لذلك استشفَّ العلماء منها ذلك.
(أحسب الناس أن يُترَكوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون (2) ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين): همزة استفهام فيها معنى الإنكار: أَمِن المعقول أن يكون هناك إيمان دون أن تكون هناك فتنة! إنكار على مَن يحسب أنه تخلّص من الامتحان والفتنة في هذه الدار، وإخبارٌ منه سبحانه عن سرِّ هذه الفتنة والمحنة، وهو تبيين الصادق من الكاذب.
ومن ظنَّ -بمفهوم المخالفة- أنه بإعراضه عن الإيمان متخلِّصٌ من الفتنة، فقد أخطأ! وإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب الشيءَ العظيم، قال وهب: قرأت في كتاب رجلٍ من الحواريين: “إذا سلك بك سبيل البلاء، فقرَّ عينًا؛ فإنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين، وإذا سلك بك سبيل الرخاء، فابكِ على نفسك؛ فقد خولف بك عن سبيلهم”.
ما معنى هذه الفتنة؟
يقول الله -عزَّ وجل-: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يأتِكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساء والضراء وزلزلوا …) الزلزال: اضطراب في الأرض، وكذلك زلزلة الإنسان! هل تتصور أن الإنسان يتزلزل؟ أي: كل ما في نفسه يتحرك ويضطرب بسبب هذه الزلزلة، حتى مبادئه تتزلزل! وقد تسقط! خباب بن الأرت -رضي الله عنه- يأتي رسول الله وقد كثر العذاب عليه وعلى قومه فيقول: “يا رسول الله ألا تستنصر لنا!” ألا تدعو لنا! وكأنه يقول: تعبنا! فجلس -صلى الله عليه وسلم- وقد احمرَّ وجهه وقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يُجاء بالمنشار فيُجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه!)، (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين)، (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)، (ما كان الله لِيذرَ المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يَميزَ الخبيثَ من الطيِّب…) يتعرض الإنسان للفتن إما في ماله، أو في نفسه، أو في دينه -وهي أعظمها-، والإنسان يضعف؛ ترى أنك تقبل على السنن وتبعد، تنشط وتضعف؛ لذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا) كل شيءٍ يهون إلا المصيبة في الدين، فإما أن تثبت على دينك أو تتخلى عنه!
ومن أمثلة الفتنة في الدنيا: الفتنة في الصحة وفي القوة، الفتنة في المال؛ فرزق الله لك فيه فتنة: هل ستؤدي حقه سبحانه فيه؟ هل سينطبق عليك قوله: (المال الصالح للعبد الصالح)؟ هل ستنفق منه هاهنا وهاهنا؟ وأصحاب الأموال يؤخرون في الجنة إلا من قال من عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم! (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) فالمطلوب إيمانٌ ثابتٌ في حالتي النعماء والبلاء، ولا بدَّ من حصول الألم لكل نفسٍ مؤمنةٍ أو كافرة؛ لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أكثر شدة، ثم ينقطع، ويعقبه أعظم لذة، والعكس للكافر! وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات؛ فيتلذذون بها ابتداءً ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوا منها، وهذا الثبات لا يقع إلا لمن جاهد نفسه والشيطانَ والهوى؛ وذلك ما أشار إليه جلَّ وعلا في قوله في الآية الخامسة: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين) يعني: أن هذه الفتن تحتاج منا مجاهدة، ونتاج هذه المجاهدة عائد علينا؛ لأن الله غنيٌّ عن العالمين جميعًا ولكن هذا لا يعني أن الله لا يفرح بتوبة العبد! أو أنه لا يرضى عن العبد إذا رأى طاعته: (ولا يرضى لعباده الكفر)؛ لكنه غنيٌّ في نفسه، ونحن فقراء بكل الوجوه إليه، إذن فالقضية أن المصلحة لي أولاً وأخيرًا.
هذه السورة تصور الجهاد؛ جهاد النفس والهوى والشيطان، والجهاد من اسمه: أقصى جهد يبذله الإنسان؛ لأن الإنسان يعترك فيه مع نفسه بقوة، ثم قال الله -عز وجل- بعد آيات: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما …) أيضًا جهاد! حتى مع الوالدين؛ لذلك قال العلماء: نزلت هذه الآيات في سعد بن أبي وقاص لما أسلم فقالت له أُمه: والله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فالأمر يحتاج لجهاد كبير، كيف يستطيع أن يجمع بين إحسانٍ لهما وهما يأمرانه بالمعصية وبين طاعتهما؛ لأن الله أمر بطاعتهما؟ ثم بعد بضع آيات يذكر -سبحانه- قصة نوح، ويذكر فيها حدثًا معينًا فيقول: (ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا فأخذهم الطوفان وهم ظالمون)، سبحان الله لم ذكر الله بالذات من القصة عدد سنوات دعوته؟ تسع مئة وخمسون سنة وهو يجاهد في هذه الدعوة! وما استجاب له إلا القليل! زوجه وابنه لم يؤمنوا! وهل أنتم متصورون كيف كانت دعوة نوح، (قال ربِّ إني دعوت قومي ليلاً ونهارًا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارًا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا، ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارًا) نوح: 5-9.
ثم يذكر تعالى قصة إبراهيم عليه الصلاة السلام: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه …) ويطيل الكلام عنها في صفحة ونصف! وجهاد إبراهيم -عليه السلام- مع من؟ مع أبيه! ومع قومه ومع النمرود ومع نفسه، قال سبحانه في سورة البقرة: (وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ) أي: بأمور كثيرة، (فأتمَّهن): قام بالمطلوب كما هو، تأمَّل: هنا ابتلاء أيضًا! وابتلاء حين صبر على حرمان الابن، ثم حين أُمر بتركه وأمه في وادٍ غير ذي زرع، ثم يؤمر بقتله بعد أن شبَّ وتغلغل حبه في قلبه (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون)
ثم قصة لوط: (ولوطًا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين)، قصة نبي الله الذي لم يكن في قريته (سدوم) غير بيتٍ واحد من المسلمين (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين) الذاريات: 35-36.
ثم قصة شعيب: (وإلى مدين أخاهم شعيبًا …)، ثم بعد عدة آيات يقول تبارك وتعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعةٌ فإياي فاعبدون) وانظر للربط بين أول السورة وآخرها: إن لم تستطع المجاهدة في أرضك، وضاق عليك فيها أن تعبد الله كما أمرك، فلا تضِق ذرعًا؛ إذا ضاق عليك البيت فاعبده -تعالى- في الجامعة، في مكان العمل، في السيارة …إلخ؛ فأرض الله واسعة! لأن علة الأمر بالهجرة هي تمكينهم من إظهار التوحيد وإقامة الدين؛ لذلك استنبط بعض العلماء من هذه الآية ومما ذكر في قصة نوح أن هذه السورة آخر ما نزل في مكة، لِمَ؟ قالوا: إن فيها إشارات إلى الهجرة: في هذه الآية إشارة واضحة، وفي قصة نوح: (فلبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا) فيا نبي الله لا تستكثر ثلاث عشرة سنة مكثتها في قومك.
بعد ذلك يقول: (كل نفسٍ ذائقة الموت) يا الله! ما سرُّ هذه الآية في هذه السورة؟ كأنها تخاطب المهاجر لأرض الله الواسعة: لا تأسف على ما تركت من أرضك، ومن بيتك، ومن مالك …؛ فأنت تاركها، تاركها إن جاءك الأجل، فإن تركتها الآن لله؛ فهو خير لك، والهجرة أجرها عظيم! “الهجرة تجبُّ ما قبلها”.
وليست تخاطب المهاجرين فقط! بل تخاطب: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه) أنت ستتعب في جهادك؛ لكن هذا الجهاد يومًا سينتهي، وتموت، وستلقى نتيجة هذا الجهاد عند الله، إذا كانت هذه نهاية الدنيا، فكل اجتهادٍ وبلاءٍ هيِّن.
قال ربنا هذه الآية تهوينًا وتحقيرًا لأمر الدنيا وزخارفها.
الموت في كلِّ حينٍ ينشد الكَفَنا ونحن في غفلةٍ عما يُراد بنا
لا تركننَّ إلى الدنيا وزهرتها وإن توشَّحتَ من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا؟ أين الذين همُ كانوا لها سكنا؟
سقاهم الموت كأسًا غير صافيةٍ فصيَّرتهم لأطباق الثرى رهنا
يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي بعد أن تأمّل في القبر: “يا عجبًا للناس! كيف لا يستشعرون الموت وهو يهدم من كل حيٍّ أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمه هو بجملته! يا عجبًا للناس عجبًا لا ينتهي! كيف يجعلون الحياة مدة نزاعٍ وهي مدة عمل! القبر كلمة الصدق مبنيةُ متجسمة، فكل ما حولها يتكذب ويتأول، إذا ماتت كلمة “القبر” في الأحياء من غرور أو باطل أو غفلةٍ أو أثرة، بقي القبر مذكِّرًا بالكلمة شارحًا لها بأظهر معانيها، القبر على الأرض كلمةٌ مكتوبة في الأرض إلى آخر الدنيا، معناها أن الإنسان حيٌّ في قانون نهايته، فلينظر كيف ينتهي.
في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتًا تعمل أعمالها، فإذا انتهت الحياة، انقلبت ذات الإنسان ذاتًا يُخلَّد هو منها، فهو من الخير خالد في الخير، ومن الشر خالدٌ في الشر؛ فكأن الموت إن هو إلا ميلادٌ للروح من أعمالها تولد مرتين: آتيةٌ وراجعة، وإذا كان الأمر للنهاية، فقد وجب أن تبطل من الحياة نهايات؛ فلا يُترك الشر يمضي إلى نهايته؛ بل يُحسم في بدئه، ويُقتل في أول أنفاسه، وكذلك الشأن في كل ما لا يَحسن أن يُبدأ، فإنه لا يجوز أن يمتد، كالعداوة والبغضاء وإن رؤية القبر زيادة في الشعور بقيمة الحياة؛ فيجب أن يكون معنى القبر من معاني السلام العقلي في هذه الدنيا، القبر فمٌ ينادي: أسرعوا، أسرعوا، فهي مدة لو صُرفت كلها في الخير ما وفت به، فكيف يضيع منها ضياعٌ في الشر أو الإثم! إن أطول الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة يومه إلا أقصر من يوم، ينادي القبر: أصلحوا عيوبكم، فإن جاءت إلى هنا كما هي، بقيت كما هي إلى الأبد.
ثلاثة أرواح لا تصلح روح الإنسان في الأرض إلا بها: روح الطبيعة في جمالها، وروح المعبد في طهارته، وروح القبر في موعظته”
(كل نفسٍ ذائقة الموت) هكذا الموت ينزع الإنسان ولا يشعر به، كأس كل الناس شاربها؛ لكن لا أحد يدري متى، (ثم إلينا ترجعون) وهذه التذكرة مهمة للغاية لمن يريد أن يجاهد نفسه لله!
ثم تأملي روعة الآية التي بعدها، ولم جاءت بعدها مباشرة: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفًا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين) – (58)
– التبوئة: الإنزال والإسكان.
– والغرف: البيت المُعلَّى على غيره.
قال بعضهم: “مثل السُّنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى؛ من دخل الجنة في العقبى سلم، كذلك من لزم السُّنة في الدنيا سلم” (نعم أجر العاملين) ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من عمل بما علم، ورثه الله -وفي رواية: علمه- علم ما لم يعلمٍ.
ويقول عبد الله بن الزبير: “تقول الحكمة: من طلبني فلم يجدني، فليطلبني في موضعين: أن يعمل بأحسن ما يعلمه، ويجتنب أسوأ ما يعلمه”.
(نعم أجر العاملين) ما صفة هؤلاء العاملين يا رب: (الذين صبروا …) عدنا مرةً أخرى للمجاهدة: (واصبر وما صبرك إلا بالله)، (وما يلقاها إلا الذين صبروا)، (واصبر لحكم ربك)، (واصبر حتى يحكم الله)، ونعلم أن أنواع الصبر ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصيته، وصبر على أقدار الله المؤلمة، كلها جهاد، وأعلاها جهادًا: الصبر على الطاعة؛ لأنه يشمل الأنواع الثلاثة كلها، واجتمعت هذه الأنواع ليوسف -عليه السلام-:
1- الصبر على الطاعة لما صار على خزائن الأرض.
2- الصبر عن المعصية: في بيت امرأة العزيز.
3- الصبر على الأقدار: لما ألقي في البئر، ثم لما سجن.
الحياة كلها جهاد، ولن أستطيع الطاعة إلا بالجهاد والتوكل (وعلى ربهم يتوكلون)، والدين نصفان: نصفٌ عبادة، ونصفٌ استعانة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم حبيبه معاذ: (لا تدعن دبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادك)، ويعلمنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة) أوتيها النبي -صلى الله عليه وسلم- من تحت العرش كما ورد في بعض الآثار.
ثم يعود -سبحانه وتعالى- ويقول: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) لكنهم لا يعلمون! أنت تجاهد نفسك، تشتغل بجد في هذه الحياة الدنيا؛ لكنها فانية! وإنما عملك وتعبك تلقاه في الآخرة، وكم من الناس من يتقاتل لأجل هذه الدنيا! فلنتعالَ ولنرتفع ولنصعد عن الدنيا وعن الناس، ولنرغب فيما عند الله، وكما أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (ازهد في الدنيا، يحبك الله، وازهد فيما عند الناس، يحبك الناس).
ثم ختمت السورة بقوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) يا الله! جاهدوا فينا: يعني من أجلنا في كل شيء، جاهدوا في مرضاتنا والدين الذي اخترناه ، ثم ماذا؟ (لنهدينهم) قسم من الله -عز وجل-، وهل يحتاج الله أن يقسم؟ سبحانه بل هو أصدق القائلين: (ومن أصدق من الله قيلاً)، والهداية: الإرشاد والتوفيق بالتيسير والإرشاد الشرعي، وسبل الله: الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه، شُبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرِم للضيف؛ إذن: هناك طريق إلى الله، سيهدي إليه سبحانه هؤلاء المجاهدين، وهذا الطريق سيوصلهم إليه؛ فالمجاهدة إذن أقصر طريق يوصلك إلى الله وإلى رضاه ومحبته ولقائه.
وجهاد النفس أعظم من جهاد الناس؛ لأن النفس إذا كانت قوية تصمد أمام من يثبطون ويخذلون، قال الجنيد: “والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصر عليها نُصر على عدوه، ومن انتصرت عليه نُصر عليه عدوه”، ومن سلك طريق الهداية أفاض الله عليه منها، وهذا المعنى أرشدنا الله إليه وكرره: (ويزيد الله الذي اهتدوا هدى)، (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانًا فأما الذين أمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون)، يقول ابن القيم: “علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، والشيطان، والدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله، فهذه سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد، فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد”.
(وإن الله لمع المحسنين) إنها معية الله -جلَّ وعلا- ، وليست معية عامة؛ بل معية خاصة، هي التي قال الله عنها -عز وجل-: (إنني معكما أسمع وأرى) معية موسى وهارون -عليهما السلام-، ومعية كل من سلك مسلكهم، معهم بالنصرة والمعونة، والحفظ والهداية، ومع الجميع بالإحاطة والقدرة، فبين المعنيين بَون، وفيها أيضًا إشارة إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة، (لمع المحسنين) ونحن نعلم أن الإحسان أرفع الدرجات، الإحسان: المراقبة؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، فالله ناظرنا الله يسمعنا الآن في كل وقت جاء أو ذهب.
هكذا تنتهي في هذه السورة العظيمة التي تعلمنا كيف يثبت الإنسان حين يسلك طريق الأنبياء والصالحين، حين يثبت كما ثبتوا ويموت على ما ماتوا عليه.
ثم تأملي روعة الآية التي بعدها، ولم جاءت بعدها مباشرة: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفًا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين) – (58)
– التبوئة: الإنزال والإسكان.
– والغرف: البيت المُعلَّى على غيره.
قال بعضهم: “مثل السُّنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى؛ من دخل الجنة في العقبى سلم، كذلك من لزم السُّنة في الدنيا سلم” (نعم أجر العاملين) ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من عمل بما علم، ورثه الله -وفي رواية: علمه- علم ما لم يعلمٍ.
ويقول عبد الله بن الزبير: “تقول الحكمة: من طلبني فلم يجدني، فليطلبني في موضعين: أن يعمل بأحسن ما يعلمه، ويجتنب أسوأ ما يعلمه”.
(نعم أجر العاملين) ما صفة هؤلاء العاملين يا رب: (الذين صبروا …) عدنا مرةً أخرى للمجاهدة: (واصبر وما صبرك إلا بالله)، (وما يلقاها إلا الذين صبروا)، (واصبر لحكم ربك)، (واصبر حتى يحكم الله)، ونعلم أن أنواع الصبر ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصيته، وصبر على أقدار الله المؤلمة، كلها جهاد، وأعلاها جهادًا: الصبر على الطاعة؛ لأنه يشمل الأنواع الثلاثة كلها، واجتمعت هذه الأنواع ليوسف -عليه السلام-:
1- الصبر على الطاعة لما صار على خزائن الأرض.
2- الصبر عن المعصية: في بيت امرأة العزيز.
3- الصبر على الأقدار: لما ألقي في البئر، ثم لما سجن.
الحياة كلها جهاد، ولن أستطيع الطاعة إلا بالجهاد والتوكل (وعلى ربهم يتوكلون)، والدين نصفان: نصفٌ عبادة، ونصفٌ استعانة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم حبيبه معاذ: (لا تدعن دبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادك)، ويعلمنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة) أوتيها النبي -صلى الله عليه وسلم- من تحت العرش كما ورد في بعض الآثار.
ثم يعود -سبحانه وتعالى- ويقول: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) لكنهم لا يعلمون! أنت تجاهد نفسك، تشتغل بجد في هذه الحياة الدنيا؛ لكنها فانية! وإنما عملك وتعبك تلقاه في الآخرة، وكم من الناس من يتقاتل لأجل هذه الدنيا! فلنتعالَ ولنرتفع ولنصعد عن الدنيا وعن الناس، ولنرغب فيما عند الله، وكما أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (ازهد في الدنيا، يحبك الله، وازهد فيما عند الناس، يحبك الناس).
ثم ختمت السورة بقوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) يا الله! جاهدوا فينا: يعني من أجلنا في كل شيء، جاهدوا في مرضاتنا والدين الذي اخترناه ، ثم ماذا؟ (لنهدينهم) قسم من الله -عز وجل-، وهل يحتاج الله أن يقسم؟ سبحانه بل هو أصدق القائلين: (ومن أصدق من الله قيلاً)، والهداية: الإرشاد والتوفيق بالتيسير والإرشاد الشرعي، وسبل الله: الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه، شُبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرِم للضيف؛ إذن: هناك طريق إلى الله، سيهدي إليه سبحانه هؤلاء المجاهدين، وهذا الطريق سيوصلهم إليه؛ فالمجاهدة إذن أقصر طريق يوصلك إلى الله وإلى رضاه ومحبته ولقائه.
وجهاد النفس أعظم من جهاد الناس؛ لأن النفس إذا كانت قوية تصمد أمام من يثبطون ويخذلون، قال الجنيد: “والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصر عليها نُصر على عدوه، ومن انتصرت عليه نُصر عليه عدوه”، ومن سلك طريق الهداية أفاض الله عليه منها، وهذا المعنى أرشدنا الله إليه وكرره: (ويزيد الله الذي اهتدوا هدى)، (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانًا فأما الذين أمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون)، يقول ابن القيم: “علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، والشيطان، والدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله، فهذه سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد، فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد”.
(وإن الله لمع المحسنين) إنها معية الله -جلَّ وعلا- ، وليست معية عامة؛ بل معية خاصة، هي التي قال الله عنها -عز وجل-: (إنني معكما أسمع وأرى) معية موسى وهارون -عليهما السلام-، ومعية كل من سلك مسلكهم، معهم بالنصرة والمعونة، والحفظ والهداية، ومع الجميع بالإحاطة والقدرة، فبين المعنيين بَون، وفيها أيضًا إشارة إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة، (لمع المحسنين) ونحن نعلم أن الإحسان أرفع الدرجات، الإحسان: المراقبة؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، فالله ناظرنا الله يسمعنا الآن في كل وقت جاء أو ذهب.
هكذا تنتهي في هذه السورة العظيمة التي تعلمنا كيف يثبت الإنسان حين يسلك طريق الأنبياء والصالحين، حين يثبت كما ثبتوا ويموت على ما ماتوا عليه.