مرآة الحزن والقلوب المغلقة.

مرآة الحزن والقلوب المغلقة!
د. صفية الودغيري.          

فكرت في الحزن حين يرسم خطوطه على وجه جميل زانَهُ الحُسْنُ بهاءً، وأورثه الألم مشقَّةً وكُلْفَة، فنالَهُ ما نالَ أوراق الخريف حين تنتحر وتشعر بالاصفرار، وكما الرَّماد العتيق حين يمر على النار، وكما البراكين تنفُثُ لهبًا، وكما الصَّقيع يرتعش بردًا، وكما الغيوم الرَّعديَّة تهُزُّ الأرض هزًا وتشُقُّ السماء شقًا.
ونظرت ما بين القلوب والأحداث والخُطوب، ما يشغلها عن كلِّ شيء، ويَصْرِفُها عن كلِّ إنسان، فعلمت بأنَّ المعاناة تحصِّن النفس بحِصْنٍ مُؤشًّا، يعتقلها خلف قضبانٍ شائكة، لا يمتلك أحدٌ أن يكسرها ليشاهد كيف تموج أحاسيس المتألِّمين، والبائسين، والمنكوبين، والمبتلين لحظات الألم، وكيف يحترقون بحِمَم الغضب، ويتصبَّبون عَرَقًا من الوجع، وكيف يثُورون ويهدؤون، ويخافون ويأْمَنون، ويَرْضون ويَسْخَطون.
وتأَمَّلت في أحوالهم حين يرى أحدهم أهله مُصْبِحًا ومُمْسِيًا، ويَلْقونَه غادِيًا ورائِحًا، ويقولون فلا يسمع لقولهم، ويقول لهم ولا يسمعون لقوله، ويُجاذِبونَه أطراف الحديث، ويمُدُّون إليه أيديهم ويمُدُّ إليهم يده، ويردُّون عليه تحِيَّتَه ويرُدُّ عليهم تحيَّتَهُم، ومع ذلك يلقاهم كما يلقى ظِلاًّ مستعارًا، يحدِّقون لشُحوبِه، ويَشْهَدون دموعه تنزل على خَدِّه، ويُتابِعون حَرَكاتِه وتعبيراتِه، ولا يستطيعون أن يقْتَحِموا حِصْنَه، أو يقفزوا خلف أسواره، أو يتجاوزوا ما أُلْقِي بينهم وبينه من حُجُب صفيقَة، وما أُسْدِل بينهم وبينه من أستارٍ كَثيفَة، ولا يسعون لكَشْفِ أسرارِه، وحَلَّ ألغازِه، وفَكَّ رِباطِه، وتحرير عِقالِه، وهَزْمَ خوفه، ورَدْعَ غضبه، وتخفيف ألمِه، ومَسْحَ دموعِه، وشَدِّ عَضُدِه، ولَمِّ جُرْحِه، ولا يقاسمونه حظَّهم من السعادة والفرح، ولا يَنْعَمون معه بالأمن، والهدوء، والاستقرار إن أتيح لهم ذلك، فعلمت بأن ما يكون بينهم وبينه من الصَّدِّ والبعد كما بين الحَرَكَة والإحْساسِ بالحَرَكَة، وكما بين تحريكِ الشَّفَه تحريكًا تلقائيًّا وتحريكِ اللِّسانِ بنبضاتِ القلب، وكما بين اللِّقاء بالحضن الداَّفئ والحلم باللِّقاء.
وأفضى بي هذا التَّأَمُّل والتَّدَبُّر في أحوالهم إلى فهم طبيعة الألم، حين يسكن قلب صاحبه فيصِلُه بصلاتِ اليأس، فيترك آمالَهُ تحتضر، وأحلامَه تنتحر، ويعرض عن الأهل والأصحاب والرِّفاق، لأن ما بينه وبينهم ليس إلا أسبابًا مصنوعة، وصِلاتٍ مُتَكَلَّفَة، وتعبيراتٍ لا تَبْلُغُ النفس، ولا تتَّصِل بالقلب بوشائج تثير طَمَعَ المُحِبِّ في مَنْ يُحِبُّه، أن يَنالَه من عطفه وحنانه إلا ما ينالُ المحتاجَ الفقيرَ من مدِّ يدِه وهو يتكفَّفُ الناس ما يسُدُّ به رَمَقَه.
وما يعنيني من هذا التفكير ووَصْفِه، هو أن أوقظ ضمير الأسرة والمجتمع، حتى يتحمَّلوا مسؤوليتهم تجاه المبتلين بالمحن والشدائد، ويتقاسمون معهم نصيبهم من الألم، فتَنْشَقَّ قلوبهم ويتفجَّر منها نهر يفيض عليهم بالرحمة، والبر، والمودة، والإخاء، ويتضامنوا معهم في حَمْلِ أثقال الحياة، والنُّهوض بأعبائِها، ويتعاونوا معهم حين تنوبُ النَّوائب، ويشدُّوا أزرهم حين تَدْلَهِمُّ الخطوب، ويلتمسوا لهم الأعذار حين يصيبهم التَّذَمُّر وحالات الاكتئاب، ويساندوهم حتَّى يستعيدوا قوتهم، ويجبروا كسرهم، ويستقبلوا من أمورهم المظلم منها والمشرق، وينهضوا بأعمالهم وأعبائهم ما خَفَّ منها وما ثَقُل؛ فيستمتعوا بحمل ما خَفَّ منها بفرح، ومرح، ونشاط، وما ثَقُلَ منها بصبر، وجَلَد، وحزمٍ، وثَبات.
فلقد أدركت بأنَّ الحوادث والخطوب قد أتعبت القلوب ومنها اشتكت، وأوشكت أن تذيبها وإن كانت صلبةً صَلْدَة، وتُحيلها هباءً تَذْروه الرياح، فلحظات الحزن والألم تمرُّ كأنها سنواتٌ عذاب، وهذا الإحساس لا يدركه أو يحسُّه إلا من عاش لحظات الألم مع نفسه، وجرَّب أن يرى ببصيرته أبعد مما تراه عينه، ونجح في اختراق حجب تلك النفس وسَبْرِ أغوارها، وتقليبِ صفحاتِها، وفَكِّ رموزها، وتحليل رسومها وألوانها.
وهذا الإدراك العميق يكشف للعقل أن أسرار الحزن لا تموت، وأنه لا بد لها وأن تخرج في وقت محدَّد، وأنَّ ما بين النُّطق والصمت برزخٌ فيه حياةُ العقل والقلب، أو فيه موتُ وقُبور الأشياء، وما بين الأمل واليأس والمحاسبة والندم طريق شاقٌّ طويل، ينتصر فيه الفرسان الأقوياء الصَّامدون، أما الضُّعفاء فيُسْلَب منهم في كل مرة جزء من مدَّخراتهم من الأشياء الجميلة، حتى يصبح رصيدهم مكشوفًا.
فعلى من كان ينشد السعادة ألا يبحث عنها لدى الآخرين، بل أن يبحث عنها داخل نفسه بما يمتلكه من طاقة الفهم، ومَلَكات الإدراك والإحساس، إن هو أرغم نفسه على طريق الله وسبح في سبيل هداه، وألا يبحث عما تبقَّى، وعما ضاع منه، وعمَّا سيأتيه غدًا، فكلّ ما مضى من حياته قد مات وانتهى، وما تبقَّى هو مجرد انعكاس لما ادَّخَره، وجمعه وغنمه، وهو ظِلّ لحياة كلِّ واحدٍ منا، وهي حياةٌ كان لها وجود ثم تبدّدت، مثل الأزهار في أوَّل نشوئها كانت براعمًا صغيرة، ثم بلَّلها النَّدى فتفتَّحت، ثم ذَوَت وجفَّت، ولم يبقَّى منها سوى بعض الشَّذى لا يلبث أن يموت.
وعلى من كان ينشد السعادة أن يُحْدِث صَدْعًا داخل قلبه، ينفذ منه الضوء الهادي ليبدِّد ما فيه من ظلمة، وينفذ إليه النَّسيم ليطفئ بعض ما فيه من لَظَى، وأن يفتح قلبه للخير ولخدمة ومساعدة الآخرين، وقضاء مصالحهم وحاجاتهم، وممارسة حقيقة التعاون على البر والتقوى، تلك الحقيقة الجامعة التي وحَّدَت بين الأفراد وجمعتهم على الخير كله للنهوض بمجتمعاتهم، مصداقًا لقوله -عز وجل- في سورة المائدة: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وقوله -عز وجل- في سورة العصر: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، وما روي عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وحديث: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه)، وحديث: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وهذا التحدي يحتاج لقلب فارسٍ شجاع، يهجم على الحياة ولا يَدَعُها هي من تُهاجِمُه، ويمتلك قِيَمَ النِّزال والنِّضال في الحياة، ويمتلك أخلاق وفضائل الأبطال، من عِطْرُها الاقتداء، ومِسْكُها الاتبِّاع، وحُبُّها الارتواء، وامْتِلاكُها دواء.

Scroll to Top