المعنى العميق للتسبيح والتحميد وسبب عظم أجرهما:أمير سعيد.قد يحار البعض من عظيم الأجر الذي تكثر الأدلة الشرعية على وعده المؤمنين جزاءً على عبادات يسيرة، لا سيما الأذكار التي لا يبذل العبد في ترديدها جهدًا كبيرًا، لكن من يدرك أن فضل العظيم عظيم، وأجر الكريم كريم لا يعجب طويلاً من سحائب خيرات إذ تهطل أمطار رحماتها على المؤمنين.
كما أنه عند التأمل في بعض الأذكار التي يجزي الله عنها عباده عطاءً جزيلاً وفضلاً كبيرًا، يجد أنها زاخرة بمعاني التوحيد، مفعمة بالإيمان، رافعة لمنازل المخلصين دينهم لله عز وجل.
يبدأ كتاب الله -عز وجل- بأعظم سورة، تستهل بكلمة عظيمة، هي “الحمد لله”، وقد أفاض أهل اللغة والتفسير كثيرًا في شرح معنى الحمد، واختار كثيرون منهم أنه يتضمن أمرين: الثناء الكامل على الله، وشكره سبحانه وتعالى، قال أبو حيان الغرناطي في تفسيره: “الحامد قسمان: شاكر ومثنٍ بالصفات”، وقال صاحب تفسير الجلالين: “الحمد لله جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها على أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق، أو مستحق لأن يحمدوه”.
وإذا كان المقصود بالحمد هو الثناء على الله بهذا الشمول والكمال، وشكره عز وجل على نعمائه كلها؛ فهو إذن معنى عظيم يرتقي إلى كونه متضمنًا لكلمة التوحيد ذاتها؛ فكون الثناء الجميل والشكر كله ينصرف للمعبود سبحانه فهو التوحيد والحمد بعينه، يقول ابن عطية: “الحمد لله، في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد”.
ويزخر كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالتسبيح، من كلام الله -عز وجل- ترددها الملائكة، ويلهج بها الأنبياء والمؤمنون، ويصدح بها ما في السماوات والأرض، والشجر والدواب وكثير من الناس.
والتسبيح هو تنزيه الله عن كل نقص، تنزيه عما يقوله الكفار وكل عيب ونقيصة، أو هو التذلل لله، أو هو الصلاة، قال أبو حيان: “التسبيح التنزيه، قاله قتادة، أو رفع الصوت بذكر الله تعالى، قاله المفضل، والخضوع والتذلل، قاله ابن الأنباري، أو الصلاة، أي نصلي لك” وقال مجاهد: “التعظيم”.
وينقل ابن منظور عن ابن شميل، الفقيه اللغوي، في لسان العرب أنه قال: “رأَيت في المنام كأَنَّ إِنسانًا فسر لي سبحان الله، فقال: أَما ترى الفرس يَسْبَحُ في سرعته؟ وقال: سبحان الله السرعة إليه والخِفَّةُ في طاعته، وجِماع معناه بُعْدُه تبارك وتعالى عن أن يكون له مِثْلٌ أو شريك أو ند أو ضد”، وقال ابن منظور: “والعرب تقول: سُبْحانَ مِن كذا إذا تعجبت منه”.
ولهذا نجد أن التسبيح في القرآن، والذي ذكر في نحو تسعين موضعًا منه، كثيرًا ما اقترن بتفصيل لجانب من أمثلة هذا التنزيه؛ فتارة يقترن بما ينزه الله عن الولد، أو عن خلق المخلوقات عبثًا، أو الشرك، أو عما يقوله المشركون والظالمون، أو عن الجهل أو عن الظلم، ويقترن كذلك بما يجل الله ويعظمه من خلق السماوات والأرض وتدبير أمور الخلائق والعزة والعدل والعلم والقدرة وما إلى ذلك من وجوه الكمال الإلهي، ونجده كذلك قد اقترن بالتعجب من عظيم خلق الله وقدرته وعظمته في مواطن كثيرة أيضًا، على نحو مما ذكره الرازي وغيره في تفسير قوله تعالى: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) البقرة: 30، بمعنى أننا نلمس أن التسبيح هو تنزيه عام عن كل النقائص، وتعظيم وإجلال يليق بالله -عز وجل- وهو ذكر جامع أوجب الله لذاكره به، فاقهًا معناه، معتقدًا بما يتضمنه الجزاء الأوفى، وهو إذن مع الحمد يتضمن إقرارًا بالتوحيد -كما تقدم- الربوبية والعبادة والأسماء والصفات العلى، ولهذا كان ذكر الملائكة في أشرف المواضع، من حول العرش وفي الملأ الأعلى، فهم يسبحون بحمد الله حافين من حول العرش، وهم -أي الملائكة عمومًا- يداومون عليه عابدين لله معتزين بإجلاله وتعظيمه وتنزيهه عن كل نقص، فيقولون: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ).
وهذا الاقتران بالحمد يثقل موازين المؤمنين ويرفع درجاتهم، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم في صحيحه: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ)؛ فالثقل هذا لم يأتِ من فراغ، ف”التسبيح: إشارة إلى الإجلال، والتحميد: إشارة إلى الإكرام، فهو قريب من قوله: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام)”، كما قال أبو حيان الغرناطي، وقال الزمخشري: “بحمدك في موضع الحال، أي نسبح لك حامدين لك، ومتلبسين بحمدك، وأما المعنى ففيه وجهان:
الأول- أنّا إذا سبحناك فنحمدك سبحانك يعني ليس تسبيحنا تسبيحًا من غير استحقاق، بل تستحق بحمدك وجلالك هذا التسبيح.
الثاني- أننا نسبحك بحمدك فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك كما قال داود عليه السلام: يا رب كيف أقدر أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكر نعمتك إلا بنعمتك، فأوحى الله تعالى إليه: (الآن قد شكرتني حيث عرفت أن كل ذلك مني).
وعلى وجه الحال ذهب كثير من المفسرين؛ فهذا الذكر يشمل معاني التوحيد، ويزيد من قوة الإيمان عند صاحبه إن استشعر معناه على هذا النحو، وعلى هذا فليكن الذكر لصيقًا بالفهم والتدبر والإيمان والحضور القلبي العميق.