ثلاثون مسألةً في أحكام الوصيّةِ:زياد عوض أبو اليمان.بسم الله الرحمن الرحيم
1- الوصيّة: هي التّبرع بالمال بعد الموت، كأن يقول الموصي: إن متُّ فأعطوا فلانًا من المال كذا، أو هي الأمر بالتّصرف بعده، كأن يقول: إذا متُّ فالوصيُّ على أولادي من بعدي فلانٌ من النّاس.
2- الأصل في مشروعية الوصية الكتاب، والسنّة، والإجماع، قال تعالى: (مِن بَعدِ وَصِيَّة يُوصَى بِهَا أَو دَينٍ غَيرَ مُضَار)، وقال النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- لسعد ابن أبي وقّاصٍ: (الثلث والثلث كثير)، وقد أجمع العلماء في جميع الأمصار، والأعصار على مشروعية الوصية.
3- حكم الوصيّة: الوصيّة تجري فيها الأحكام الخمسة فتكون واجبةً إذا كان على الموصي حق واجب ليس عليه بيّنة كالديون والودائع التي عنده للغير، وكذلك الواجبات التي شغلت الذّمّة كالزكاة والكفّارات واللقطة، وتكون مستحبّةً لمن ترك خيرًا كثيرًا بالثلثِ فأقل، وتحرم إذا قصد الإضرار بالورثة، أو كانت لوارثٍ، أو بأكثرَ من الثلث، وتكره لفقيرٍ وارثه محتاجٌ، وتباح لفقيرٍ إن كان ورثته أغنياء، أو أن يوصيَ بجميع ماله ولا وارث له.
5- قال ابن عبد البرّ: “الإجماع على عدم وجوبها وأنّه لو لم يوصَ قُسّم ماله بين ورثته بالإجماع أمّا الوصيّة بأداء الدّين وردّ الأمانات والودائع فهي الواجبة”.
6- وتصحّ الوصيّة لكل من يصّحُ تمليكه ولو كان مرتدًا أو كافرًا، قال محمد ابن الحنفية وعطاء وقتادة في قوله تعالى: (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفًا)، هي وصيّة المسلم لليهودي والنّصراني، وقال في الشرح الكبير: “وتصح الوصيّة لكل من يصح تمليكه من مسلمٍ وذميٍّ وحربيٍّ ومرتدٍّ، فلا نعلم فيه خلافًا، وبه قال شُريح، والشّعبي، والثّوري، والشّافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي”، وذهب الحنفية والمالكية في المذهب والشافعيّة في قولٍ، وكذا الحنابلة في وجه إلى عدم صحّة الوصيّة للحربيّ في دار الحرب، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، فيدل ذلك على أن من قاتلنا لا يحلّ بره، أمّا المرتد فذهب الحنفية والمالكية والشافعيّة في قول والحنابلة في وجهٍ أنّه لا تصحّ الوصيةُ له، وعلّل الشافعيّة عدم صحة الوصية للمرتدّ للأمر بقتله فلا معنى للوصيّة له، وعلّل الحنابلة هذا الحكم بأن مُلك المرتدّ زائل، وهذا القول هو الراجح في الحربي والمرتدّ.
7- وتصحّ الوصيّة بالمعدوم، كأن يقول: أوصيت بثمرة هذه الشجرة بعد موتي لفلان، وكذلك تصحّ بما لا يصحّ بيعه كالآبق، والشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، والحمل في البطن، واللبن في الضّرع؛ لأنّها إذا صحّت في المعدوم صحّت في هذه الأشياء.
8- ولا تصحُّ الوصيّة في الإعانة على المحرّم؛ لأنّه إعانة على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عن ذلك، فلو أوصى بثلث ماله لبناء كنيسة أو معبدٍ أو بيت لهوٍ أو غير ذلك من المحرّمات؛ فإنّها لا تنفذ ؛ لأنّها وصيّة فاسدة تعين على معصية الله.
9- يُرجع في ألفاظ الوصيّة إلى العرف حال الوصيّة، أي ما تعارف عليه النّاس من ألفاظ الوصيّة؛ فالعبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، وأنّه يُغَلّبُ جانبُ العرف، على الراجح من أقوال أهل العلم؛ لأنّه هو المعنى المتبادر إلى الفهم.
10- ينبغي المحافظة على الوصيّة بعد كتابتها فلا تهمل، وكذا لا يُفَرّط في تنفيذها بعد موت الموصي.
11- تنفذ الوصيّة بالخط المعروف، وكذا الإقرار إذا وُجد في دفتره، وهو مذهب أحمد واختيار شيخ الإسلام، وذهب أبو حنيفة والشّافعي وأحمد في روايةٍ إلى وجوب الإشهاد على الخطّ، قال الصنعاني: والتحقيق أنّ المعتبر معرفة الخطّ فإذا عُرف خطّ الموصي عُمل به وهو الراجح.
12- قال شيخ الإسلام تجوز الشهادة على الخطّ أنّه خطّ فلانٍ إن كان يعرفه يقينًا، فالنّاس يشهدون شهادة لا يستريبون فيها على أنّ هذا خطّ فلانٍ.
13- نفقة تجهيز الميت والدّيون سواء كانت لله أم للمخلوقين مقدمة على الوصيّة فيُبدأُ بها.
14- تقديم الوصيّة على الدّين كما في بعض الآيات لحكمة الاعتناء بها والمبادرة بتنفيذها وعدم إهمالها بعد مؤنة التجهيز وقضاء الدّيون، وسداد الحقوق.
15- لا تجوز الوصيّة بأكثر من الثلث لحديث سعد بن أبي وقّاص وفيه (الثلث، والثلث كثير)، وكذا لا تجوز لوارث لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: (لا وصية لوارث).
16- إن أوصى بما يزيد على الثلث أو لوارثٍ فهو مستحق للإثم، وواقع في التحريم، والتنفيذ موقوف على إجازة الورثة فإن أجازوها نفذت؛ لأنّها حينئذٍ تبرع منهم وتنازل عن شيء من حقهم، وقالت الظاهرية لا إثر لإجازة الورثة فيما زاد عن الثلث، ورجّحه الصنعاني، والراجح الأول وإليه ذهب جمهور أهل العلم واختاره شيخ الإسلام.
17- الذي يملك الإجازة بالموافقة بالزيادة على الثلث أو الوصية لوارثٍ هو البالغ العاقل الرشيد، فإجازة غير البالغ أو المجنون أو السفيه لا عبرة فيها والإجازة تكون بعد الموت لا قبله.
18- اختلف أهل العلم هل المستحب في الوصيّة الثلث أو ما دونه على قولين:
الأول: أنّ المستحب ما دون الثلث وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق، لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: (الثلث والثلث كثير)، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أنّ النّاس غضوا من الثلث إلى الربع)، وكذلك أوصى أبو بكرٍ الصّدّيق بالخمس.
والثاني: أنّ المستحب الثلث وإليه ذهب فريق من أهل العلم، والأول أرجح لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: (الثلث والثلث كثير).
19- إن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارثٍ صحّت الوصية، كأن يوصي لأخيه الشقيق الوارث ثمّ يُولد له ولد قبل الموت فتصحّ الوصيّة للأخ الشقيق لأنّه صار غير وارثٍ، والعكس صحيح كأن يوصي للأخ وهو غير وارثٍ ثمّ يموت الابن فيصبح الأخ وارثًا فإنّ الوصيّة لا تصح له ويأخذ نصيبه من الميراث، قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أنّ اعتبار الوصية بالموت.
20- إن أجاز بعض الورثة الوصيّة للوارث، أو بأكثرَ من الثلث ولم يجزها بعضهم نفذت في حصّة المجيز، وبطلت في حق من لم يجز.
21- يجوز للموصي الرجوع في الوصيّة حال الحياة؛ لأنّها تبرع معلّق بالموت، كذلك يجوز له التغيير في الوصيّة بالزيادة والنقص ما دام في حال الحياة.
22- تبطل الوصيّة بوجود واحد من خمسة أشياء: رجوع الموصي بقول أو فعل يدل على الرجوع، وإذا مات الموصى له قبل الموصي، وإذا قتل المُوصى له الموصي عمدًا أو خطأ على خلافٍ بين أهل العلم؛ لقاعدة من تعجّل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وإذا تلفت العين الموصى بها، وإذا ردّ الموصى له الوصية بعد موت الموصي ولم يقبله.
23- الوصية الواجبة تجب لأهل الطبقة الأولى من أولاد البنات، ولأولاد الأبناء من أولاد الظهور، وإن نزلت طبقاتهم، وصية بمثل ما كان يستحقه أبوهم ميراثًا في تركة أبيه لو كان حيًا عند موت الجد، في حدود الثلث بشرط أن يكون الحفيد غير وارث، وألّا يكون الجد الميت قد أعطاه بغير عوض عن طريق تصرف آخر قدر ما يجب له.
24- مستند القول بالوصية الواجبة هو القول بوجوب الوصيّة للأقربين غير الوارثين وهو مرويّ عن سعيد بن المسيّب، والحسن البصري، وطاووس، والإمام أحمد، وداود، والطّبري، وإسحاق بن راهويه، وابن حزم، واستدلوا بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) البقرة، والقول بإعطاء جزء من مال المُتوفى للأقربين غير الوارثين على أنّه وصيّة وجبت في ماله إذا لم يوصَ به مذهب ابن حزم، ورواية عن أحمد، ولكن من قال بوجوب الوصيّة للأقارب غير الوارثين أو إعطائهم وصية واجبة من مال المُتوفى لم يخصصها بالأحفاد غير الوارثين فقط، ولم يقيّدها بحصّة أبيهم بشرط ألّا تزيد عن الثلث! فأين الدّليل على الوصيّة الواجبة من الكتاب أو السنّة أو أقوال أهل العلم المعتبرين.
25- ذهب الجمهور إلى نسخ هذه الآية ومنهم الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله جميعًا، وهو الراجح مع القول باستحباب الوصيّة للأقارب غير الوارثين لمن ترك خيرًا.
26- الوصية الواجبة بهذا التفصيل الوارد في القانون لم يقل بها أحدٌ من علماء الإسلام قاطبة على مدار أربعة عشر قرنًا من الزمان، وكفى بهذا دليلاً على بطلان هذا القانون؛ لأنّ النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ) “صحّحه الألباني”؛ فلو كانت هذه الوصيّة بهذا التفصيل حقًا لما تركت الأمّة العمل بها، حتى يأتي هؤلاء المتأخرون وينصفون من ظلمه الأئمة والعلماء والمسلمون على مدار أربعة عشر قرنًا.
27- فالصحيح هو مذهب جمهور العلماء، وقانون الوصيّة الواجبة خارج عن قول الجمهور، وخارج أيضًا عن قول من أوجب الوصيّة للأقارب غير الوارثين، ولا شك أنّه مخالف للأدلة الشرعية، مجانب للصواب، وهو قانون من وضع البشر ليس عليه دليل ولا أثر.
28- قال بعض أهل العلم: الوصيّة الواجبة ما هي إلا استدراك وتعديل على حكم الله تعالى، وكفى بهذا إثمًا وضلالاً مبينًا؛ فإنّه لا أحد أحسن حكمًا من الله عز وجل (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة.
29- وبهذا يتبيّن أنّ نسبة القول بالوصيّة الواجبة لبعض السلف وغيرهم من الأئمة غير صحيحٍ وباطلٍ، فمن قال بوجوب الوصيّة أوجبها مطلقًا، أو أوجبها للأقارب غير الوارثين، ولم يوجبها أحد منهم للأحفاد غير الوارثين فقط وقيّدها بحصّة أبيهم بشرط ألّا تزيد على ثلث تركة الجد.
30- أخذ المال بهذه الوصيّة حرام، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)،النساء، وأكل المال بالباطل هو أخذه من غير سببٍ شرعيٍ يبيح ذلك، ولقول النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) “حديث صحيح”.