قول أين الله عز وجل؟
محمد عارف الأرناؤوط.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على محمد سيد الأنبياء والمرسلين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وقد أرسل الله عز وجل الرسل على فترة من الزمن؛ حتى يدعوا الناس إلى عبادة الله الواحد القهار، وكان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، وكان النور المبين لهذه الأمة؛ فقد أرسله الله تعالى في زمان يأكل الضعيف فيها قويها، ويئد الطفلة المسكينة أبوها، فبعثه رحمة للعالمين مفرقًا بين الحق والباطل، وتبيانًا لكل شيء، فكيف نبتعد عن هديه؟ وكيف لا نتبع سنته ولا نتبع نهج صحابته؟ وبالأخص في قضايا التوحيد والعقيدة.
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم وما معه من الحق ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم من كبار التابعين والتابعين لهم لم يتركوا العقول تحار وتبتعد عن الصواب؛ فالعاقل يتمسك بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونهج صحابته والسلف الصالح ونعلم الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته).
ونحن نعلم أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها أي ما قاله رسول الله وقاله الصحابة واجتهد به كبار التابعين والتابعين لهم فلماذا نبتعد عن أقوالهم وما قالوه في قضايا التوحيد والعقيدة، فلماذا نأتي ونخترع كلمات وجمل إذا دققت فيها تجدها ما أنزل الله بها من سلطان.
ورحم الله من قال:
دين النبي محمد أخبار *** فنعم المطية للفتى آثار
لا ترغبن عن الحديث وأهله *** فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى أثر الهدى *** والشمس بازغة لها أنوار
ورحم الله من قال:
فهذا الحق ليس فيه خفاءٍ*** فدعك عن بنيَّات الطريق
والموضوع الذي بين يدي والذي أعد هذا البحث من أجله ومن أجل تبيانه وأرجو الله أن يوفقني لما يحب ويرضى من القول والفعل.
لطالما سمعنا كثيرًا من الناس بل من طلاب العلم وطلاب المعاهد يتناقشون في هذا الأمر وهو :
” أين الله عز وجل؟ “
فمنهم من ينكر هذا السؤال برمته ويقول لك لا يجوز أن تسأل هذا السؤال، ومنهم من يقول لا أعرف أو قد حرت فيه وتهت فيه، ومنهم من يجيبك بأن الله في كل مكان، وهذا ما سمعه من مشايخه، ومنهم من يقول لك أن الله في السماء تبارك وتعالى.
وإليك الجواب الشافي في هذه القضية الذي يبعدك عن الشك والحيرة والوقوع في الغلط متمثلاً ذلك بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونهج السلف الصالح.
بداية: إن هذه القضية قد تم التنازع فيها وما السبيل لحل هذا التنازع؟
أقول وبالله التوفيق:
نحن نتّبع من كان قوله متفقًا مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد أخبرنا الله عز وجل ماذا نفعل إن تنازعنا في شيء أو اختلفنا في شيء وهذا هو الحل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، وقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)، وقال أيضًا: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال جل ذكره: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا).
فهذه الآيات وغيرها من الآيات تدل على أمر واحد وهو أننا إذا تنازعنا في شيء فلنحكّم فيه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقول صحابة رسول الله وقول السلف الصالح الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم من أفضل الناس، فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وماذا قال سلف هذه الأمة في القضية، فهي لم تكن قضية يتنازعون فيها؛ لأنهم كانوا متفقين على قول، ولكن نشأ النزاع عندما أتت كتب المنطق وعلم الكلام وترجمت إلى العربية فأخذ الناس بالتأويل، فبدأ الواحد منهم يفسر ويتأول ويصول ويجول في آيات الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لا يقف على كلام السلف في ذلك فيقوم ويجتهد!
أين الاجتهاد يا أخي إذا كان هناك نص، والقاعدة المعروفة في الأصول (لا اجتهاد في مورد النص).
فالصحابة والتابعين لهم، كانوا أقرب زمانًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبت إيمانًا وأصدق كلامًا وأقوى عقيدة وأحسن فهمًا وتأويلاً فهل نأتي ونتكلم في أمور قد تكلموا بها وشرحوها لعامة المسلمين وأئمتهم فهل هم أرسخ في العلم أم نحن!
كل هذه المقدمة هي للوصول للجواب الشافي إن شاء الله وهو (أن الله في السماء) وهو جواب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح ولبّ الكلام هو أن المقصود بكلمة “السماء” يراد بها العلو والسمو، أي أن الله في الأعلى ولا يراد التحجيم والتحييز، وحاشا لله أن يكون كذلك فالله عز وجل لا سماء تظلّه أو تقلّه وهذا مخالف للعقل والفطرة، ويجوز أن يكون لفظ “في” بمعنى لفظ “على” ودليل ذلك قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) وقوله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) والمعنى على الأرض وعلى الجذوع لا فيها، ومن سمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح وجد فيه إثبات الفوقية ما لا ينحصر، وسيأتي ذكرها بعد قليل من آيات وأحاديث وكلام للسلف بهذا الخصوص، ومما لا ريب فيه ولا شك أن الله تعالى لما خلق عباده لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى الله عن ذلك فهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فتعين أنه خلقهم خارجًا عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم بائن عن خلقه لكان متصفًا بضد ذلك، ونحن نعلم أن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السُفول وهو مذموم على الإطلاق لأنه مستقر إبليس وأتباعه من الجنود.
ونحن نعلم أن صفة العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فنفي حقيقة العلو يكون عين الباطل.
نصوص إثبات العلو من الكتاب والسنة:
النصوص الواردة والمتنوعة والمحكمة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده بالتفصيل:
أولاً- التصريح بالفوقية مقرونًا بأداة “من” المعينة للفوقية بالذات، قال الله تعالى: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) النحل:50.
ثانيًا- ذكرها مجردةً عن الأداة، قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) الأنعام: 18.
ثالثًا- التصريح بالعروج، قال تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) المعارج: 4.
رابعًا- التصريح بالصعود إليه، قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) فاطر: 10.
خامسًا- التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، قال تعالى: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) النساء: 158، (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) آل عمران: 55.
سادسًا- التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتًا وقدرًا وشرفًا، قال تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) البقرة: 255، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) سبأ: 23، (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) الشورى: 51.
سابعًا- التصريح بتنزيل الكتاب منه، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ …) آل عمران: 7، (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) غافر: 2.
ثامنًا- التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده وأن بعضها أقرب إليه من بعض، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) الأعراف: 206، (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) الأنبياء: 19. وفي هذه الآية نلاحظ الفرق بين (له من) عمومًا وبين (من عنده) من ملائكته وعبيده خصوصًا، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن النعمان بن البشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفيّ عام وهو عند العرش وإنه أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها الشيطان) “صحيح”.
تاسعًا- التصريح بأنه تعالى في السماء والمراد بها العلو، قال تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) الملك: 16، وكما ذكرنا سابقًا يجوز لفظ (في) بمعنى (على)، وقد أولت طائفة أن من في السماء هم الملائكة وليس الله وهذا قول باطل؛ لأن الأحاديث تثبت أن الله في السماء؛ فالحديث الذي رواه أحمد وأبو داوود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) “وهو حديث صحيح”، والحديث يتكلم عن الرحمن تبارك وتعالى، فهو لا يتكلم عن الملائكة؛ فالله هو الذي يرحم ويعذب ويعاقب، ونذكر الحديث الذي يتحدث عن الروح الخبيثة والروح الطيبة حينما تُتوفى وهذا الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (…فيُنطلق به إلى ربه) أي أن الروح الطيبة تصعد إليه تعالى ثم يأمر عز وجل بكتابة عبده في أعلى عليين.
عاشرًا- التصريح بالاستواء مقرونًا بأداة “على” مختصًا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) الأعراف: 54، ونعلم أن “ثم” تفيد الترتيب.
الحادي عشر- التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، فعن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين) “حديث صحيح”.
الثاني عشر- التصريح بالنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، ونحن نعلم أن النزول المعقول عند جميع الأمم يكون من علو إلى سفول، والله أعلم بكيفية النزول، ونذكر الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له).
الثالث عشر- الإشارة حسًا إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم بربه محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع حينما قال: (أنتم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء رافعًا لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلاً: اللهم فاشهد). “رواه مسلم وأبو داوود من حديث جابر بن عبد الله”، وحديث أنس رضي الله عنه والذي ورد في الصحيحين أنه قال: كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
الرابع عشر- التصريح بلفظ “الأين” كقول أعلم الخلق به وأنصحهم لأمته وأفصحهم بيانًا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلاً، بقوله للجارية السوداء (أين الله؟) وهذا ما سنشير إليه فيما بعد، وهناك فئة ينكرون هذا السؤال، باحتجاجهم بأن هذا السؤال مثير للفتنة كما أوردنا في بداية البحث، ويعتمدون على قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)، قال الطبري شيخ المفسرين رحمه الله في خبر روي عن ابن عباس حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد، قال ابن عباس: (التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله)، فالمتشابه بقول بعض العلماء إنه الحروف المقطعة من القرآن وهذه التي لا يعلمها إلا الله ومثلها ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك؛ فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه، ومنهم من قال: إن القرآن جملة وتفصيلاً محكم ولفظ المتشابه أي التشابه بين الآيات وليس لشبهة بينها، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)، ومنهم من قال: إن التشابه بالآيات هو ما يعلمه الراسخون في العلم مع إيمانهم بها بعيدين عن العوام وعن الذين يبتغون الفتنة كما فعله الجهمية والمعطلة والمعتزلة الذين في قلوبهم زيغ فأرادوا الفتنة ولم يريدوا علمًا نافعًا.
الخامس عشر- شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربّه في السماء بالإيمان وهذا ما حدث مع الجارية السوداء حينما أجابته فقال: (اعتقها فإنها مؤمنة)، يقول البعض في هذا الحديث إن رسول الله قد خاطبها على قدر عقلها أو أنها كانت أعجمية لا تحسن العربية فاستعانت بالإشارة كما في الرواية الثانية: (فأشارت بإصبعها إلى السماء) فعلى قدر علم أو فهم الجارية رفعت إصبعها، فما القول برفع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إصبعه في خطبة الوداع كما قد سبق، ثم هل يعقل لرسول الله أن يطلق حكمًا أو شهادةً من عنده، فما كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الجارية: أين الله؟ إلا لامتحان إيمانها، والدليل أنه أمر بإعتاقها لأنها مؤمنة بقولها أن الله في السماء وأنه رسول الله، فلو أجابته أنه في الأسفل أو في كل مكان هل سيكون جواب سيد الخلق كذلك بأنها مؤمنة؟ ورسول الله هو الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى.
السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطّلع إلى إله موسى فيكذبه بما أخبره من أن الله فوق السموات فقال: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا).
السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم كيف تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه في المعراج مرارًا عدة والحديث معروف بالصحيحين.
الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة لله تعالى من الكتاب والسنة وإخباره النبي أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر فلا يرونه إلا من فوقهم ونعلم أنه لا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية ولهذا نفى الجهمية الأمرين الرؤية والفوقية وأثبت أهل السنة والجماعة الأمرين وصار عندهم من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذبًا بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فهذه الأدلة جميعها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكلها إن شاء الله أحاديث صحيحة، وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله وهيهات له بجوابٍ صحيح عن بعض ذلك “ونعرج للذكرى على خطورة الخوض في الكيفية فيما يتعلق بالله عز وجل وكيفية نزوله إلى السماء الدنيا، كما يتجرأ البعض على الخوض في هذا، بل نحن نؤمن ونسلم فقط دون الخوض في الكيفية” وسيأتي شرح هذا القول إن شاء الله بالتفصيل.
نصوص إثبات العلو من كلام الأئمة:
كلام السلف في إثبات صفة العلو نجدها كثيرة فمنها:
– ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق يسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة لمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال الإمام أبو حنيفة: قد كفر؛ لأن الله تعالى يقول: “الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وعرشه فوق سبع سموات، قلت: فإن قال إنه على العرش ولكن يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أنه في السماء فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر، وزاد غيره؛ لأن الله في أعلى عليين.
– وروى ابن عبد البر في كتاب التمهيد: قول الإمام مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان.
– ونذكر قول أبي عمر الطلمنكي: في كتابه الأصول: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه بذاته على الحقيقة لا على المجاز، ثم ذكر قول مالك السابق.
– وأما قول الإمام الشافعي: فقد قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا أبو شعيب وأبو ثور عن محمد بن إدريس الشافعي قال: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك، وغيرهما: الإقرار بشاهدة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء.
– وأما قول الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله: قال الخلال في كتاب السنة أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال سألت أحمد ابن حنبل عمن قال: إن الله تعالى ليس على العرش، فقال: كلامهم كله يدور حول الكفر.
– وقال أبو طالب سألت أحمد ابن حنبل عن رجل قال إن الله معنا وتلا قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) فقال أحمد يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، هلّا قرأت: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ)؛ فهو بالعلم معهم وغير مماس لشيء من خلقه.
– ونذكر أيضًا قصة أبا يوسف في بشر المريسي حينما سمعه يقول وهو ساجد: سبحان ربي الأسفل فأراد أن يقيم عليه الحد لقوله ذلك، فقد أنكر قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) “رواه ابن أبي حاتم بسند صحيح”.
– ونذكر أيضًا قول ابن المبارك حينما سُئل أين الله؟ فأجاب: اللهُ فوق العرش بذاته وهو بائن عن خلقه وهو معهم بعلمه. “بائن عن خلقه: أي مستغنٍ عنهم وهو غني عن العالمين”.
– ونذكر قول ابن خزيمة: فقد قال أبو عبد الله الحاكم في كتاب تاريخ نيسابور، وفي كتاب علوم الحديث: سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت إمام الأئمة أبا بكر بن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله على عرشه استوى فوق سبع سماوات وأنه بائن عن خلقه فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة، ومن ينكر رؤية الله في الآخرة فهو شر من اليهود والنصارى والمجوس وليسوا بمؤمنين عند أهل السنة والجماعة.
– وأما قول أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه صريح السنة: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز إلى غير ذلك فقد خاب وخسر.
– ونذكر قول ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية في باب الإيمان أنّ الله فوق عرشه وأن الله هو الذي أخبر بذلك ورسوله أيضًا وأجمع عليه السلف من أنه فوق سماواته على عرشه وهو مع خلقه أينما كانوا يعلم ما يعملون، كما جمع بين ذلك في قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، فليس معنى قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) أنه مختلط بخلقه فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه السلف وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، ولله المثل الأعلى أنّك تلاحظ القمر وهو آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته تجده موضوعًا في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، والله سبحانه وتعالى فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني الربوبية، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه صواب، حقيقته لا تحتاج إلى تحريف أو تأويل، ومعنى مهيمن عليهم قال ابن عباس: أي مؤتمنٌّ عليهم، وقال الكسائي: شاهدٌ عليهم، وقال غيره: رقيبًا عليهم، فهيمن يهيمن هيمنةً أي رقيبًا على كل شيء.
– وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) قال: عالم بكم أينما كنتم، وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن سفيان الثوري أنه سأل عن قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) قال: علمه، وأما قوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) أي هو إله من في السماء ومن في الأرض يعبده أهلهما وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه، وهذه الآية كقوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) أي هو الذي يدعوه من في السموات ومن في الأرض؛ لأنه يعلم السر والجهر.
إذًا لماذا نحاول أن نجتهد وأن نؤوّل وأن نفسر على أريحيتنا ونترك تفسير من قد سلف فهم كانوا من أخير الناس وأفضلهم ولا تنسَ أن الزمان الذي نعيشه زمان فتن وأهواء وملذات وشهوات زمان كثير فيه خطباؤه قليل فيه علماؤه!
والذي يجري الآن أن معظم طلاب العلم والذين يأخذون العلم من المشايخ ويعتمدون تأويلاتهم دون الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وماذا قال السلف، فبهذا يعتبرون كلام المشايخ مخطوطة يرجع إليها، ونذكر قول الإمام مالك رحمه الله حينما قال: “كلٌّ يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر الرسول”، ونذكر قول أبي حنيفة: “نقول الكلام اليوم ونرجع عنه غدًا ونقوله غدًا ونرجع عنه بعد غد”.
بقي أن نذكر قول ابن مسعود رضي الله عنه: “من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرّها قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم”، وقال ابن مسعود أيضًا: “اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم”.
فلِمَ هذا التعصب الذي نلحظه اليوم للعلماء أم أننا تتبع القاعدة لا تعترض فتنطرد، وهذا هو التقليد الأعمى الذي حدّث عنه عدي بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: (يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك) قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم! فقال: (أليس يحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه، ويحلون ما حرّم الله فتستحلونه؟ قال: قلت: بلى، قال: (فتلك عبادتهم).
تمسك بحبل الله واتبع الأثر ودع عنك رأيًا لا يلائمه خبر؛ لذلك أقول بعد كل هذا إنه إذا سألك أحد أين الله فأجبه، وأنت مطمئن “أنه فوق العرش بذاته بائن من خلقه وهو معهم بعلمه”، أو قل له في السماء واشرحها له حتى لا يقول لك إنك حجرت وحجّمت وحيّزت.
وإن لم تستطع النقاش، فعد إلى إيمان العجائز وإيمان الأطفال أي عد إلى الفطرة واسأل نفسك فستجيبك في الأعلى، فإن خانتك فاسأل طفلاً صغيرًا، فسيقول لك فوق في العالي أو ينظر إلى السماء.صفات الله عز وجل:
وبعد معرفة أين الله قلت: لا بد من التكلم بعض الشيء عن موقف أهل السنة والجماعة من أسماء الله وصفاته تبارك وتعالى والرد على من ادعى من أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أوّلوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها:
نقول بداية: أسماء الله تعالى هو كل اسم سمى الله به نفسه في كتابه أو سماه به أعلم الخلق به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنهج أهل السنة والجماعة من هذه الأسماء أنهم يؤمنون بها على أنها أسماء لله تعالى تسمى بها عز وجل، وأنها أسماء حسنى ليس فيها نقص كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فهم يثبتون الأسماء على أنها أسماء لله تعالى ويثبتون أيضًا ما تضمنته هذه الأسماء من الصفات فمثلاً من أسماء الله العليم فيثبتون العليم اسمًا لله سبحانه وتعالى ويثبتون أن العلم صفة له دل عليها اسم العليم فالعليم مشتق من العلم وكل اسم مشتق من معنى فلا بد له أن يتضمن ذلك المعنى الذي اشتق منه وهذا أمر معلوم في العربية واللغات جميعًا.
واعلم أن الأسماء تكون على قسمين متعدٍ ولازم:
فأما المتعدي: لا يتم الإيمان به إلا بأمور ثلاثة هي: الإيمان بالاسم ثم الإيمان بالصفة ثم الإيمان بالأثر، والإيمان بالأثر أي ما دل عليه الاسم من الأثر إذا كان الاسم مشتقًا من مصدر متعدٍ، فمثلاً الرحيم من أسماء الله يؤمنون به ويؤمنون بما تضمنه من صفة الرحمة ويؤمنون بآثار هذه الصفة “الرحمة” والأثر هنا أنه يرحم بهذه الرحمة من يستحقها، قال تعالى: (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ).
وأما اللازم: فإنه لا يتم به إلا بإثبات أمرين أحدهما الاسم، والثاني الصفة، وأما موقف أهل السنة والجماعة في الصفات فهو: إثبات كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لكن إثباتًا بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل سواء كانت هذه الصفة من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية.
– الصفات الذاتية: هي التي تكون ملازمة لذات الخالق أي أنه متصف بها أزلاً وأبدًا مثالها “الحياة” صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال حيًا كما قال سبحانه: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (… أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء) “رواه مسلم”. وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)، فكل صفة لم يزل الله ولا يزال متصفًا بها فإنها من الصفات الذاتية مثل: السمع والبصر والقدرة.
– أما الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته فيفعلها الله تبعًا لحكمته سبحانه ومثلها: استواء الله على العرش فهو من الصفات الفعلية؛ لأنه متعلق بمشيئته، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فجعل الفعل معطوفًا على ما قبله بـ”ثم” الدالة على الترتيب.
ولا يغرنّك من فسر الاستواء بالاستيلاء، فهذا مناف للغة العربية فالاستواء معلوم كما بينه الله عز وجل في كتابه، والقرآن نزل بلسان عربي مبين قال تعالى: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ)، واعلم أنه خير ما فُسر القرآن بالقرآن، أما تفسيره بالاستيلاء فذلك لا تقتضيه اللغة ولا يقتضيه العقل.
فانظر إلى ما قاله أهل اللغة في ذلك، فقد ذكر الأخفش “استوى أي علا ونقول استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته” وقال داوود بن علي الأصبهاني: كنت عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فقال ابن الأعرابي: هو على عرشه كما أخبر فقال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال ابن الأعرابي ما يدريك؟ فالعرب لا تقول استولى على شيء حتى يكون له ضد، فأيهما غلب فقد استولى أما سمعت قول النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه …………. سبق الجواد إذا استولى على الأمد
فمعنى الاستيلاء أن يكون هناك خصمان يتبارزان فينتصر أحدهما على الآخر ويستولي على الذي يريد وهذا كلام أهل اللغة، فالله عز وجل هو الذي خلق العرش فلماذا يستولي عليه والاستيلاء كما ذكرنا وهذا طريق أهل التحريف وأهل الكلام، ودليلهم قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق ………… من غير سيف ودم مهراق
فقد قال الحافظ ابن كثير: “وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيته هذا حجة ولا دليل على ذلك ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاؤه عليه تعالى الله عن قول الجهمية علوًا كبيرًا، حيث يقال: استولى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصيًا عليه كاستيلاء بشر على العراق، وعرش الرب لم يكن ممتنعًا عليه نفسًا واحدة حتى يقال استولى عليه، وهذا البيت ليس فيه حجة والله أعلم”.
بقي قسم آخر من صفات الله سبحانه وهي الصفات السلبية والتي نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله، وكلها صفات نقص في حقه كالموت والنوم والجهل والنسيان والعجز والتعب، فيجب نفيها عن الله تعالى وإثبات ضدها على الوجه الأكمل، قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا)؛ فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته.
وأما الدعوى التي ادعاها أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها فهذه دعوى تلبيس وتشكيك، فالمعترك القائم بين أهل السنة وأهل البدعة معترك تبين به الفرق الشاسع بين أهل السنة وأهل البدعة فأهل السنة يثبتون النصوص على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل.
والتحريف معناه باطل بكل حال، ذم الله تعالى من سلكه (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)، وأما التأويل ففيه ما هو صحيح مقبول وفيه ما هو فاسد مذموم ومردود وهو بمعنى التحريف.
والتأويل ويطلق على معانٍ ثلاثة:
أولها- الحقيقة التي يؤول إليها الكلام وعامة ما ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى، كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ).
ثانيها- التفسير وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به، قال تعالى: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ومنه) قول ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين.
ثالثها- صرف اللفظ عن ظاهره بدليل، أي ما يدل عليه الكلام باعتبار السياق أو باعتبار حال المتكلم به فإن كان ذلك بدليل فهو مقبول، وإلا فهو مذموم وهذا الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وهو في الحقيقة تحريف وليس تأويل.
وأما الرد على هذه الدعوى فيكون بجوابين:
الجواب الأول- ما ذكرناه بمعنى التأويل، وما يحمل من معانٍ، ونحن إذا تتبعنا البلاغة نرى أن الاستفهام يأتي لعدة معانٍ، ويخرج عن معناه الحقيقي، ونعلم أن بعض حروف الجر تأتي لعدة معانٍ فما الذي يعين هذه المعاني؟ أليس السياق! وحتى أنك إذا نظرت إلى اللغة الإنجليزية فستجد كيف حروف الجر تتغير معانيها مثل: يبحث عن Look for و ينظر إلى Look at .
ولكن نحن نربطها بدليل ومن خلال السياق.
وأما الجواب الثاني- لو سلمنا أن في اللفظ إخراجًا له عن ظاهره فإن أهل السنة والجماعة لا يمكن أبدًا أن يُخرجوا لفظًا عن ظاهره إلا بدليل من الكتاب والسنة متصل أو منفصل، وأهل السنة والجماعة يتحدون أي واحد يأتي بدليل من الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته أخرجه أهل السنة عن ظاهره إلا أن يكون لهم دليل بذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإليك بعض الأمثلة عن هذا كله:
المثال الأول- قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أوّلتم قول الله عز وجل: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) فقلتم الاستواء هنا القصد والإرادة، وقلتم في آية غيرها إن معنى الاستواء (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) معناها العلو على وجه يليق بجلاله ولا يشبه استواء المخلوق على المخلوق، وما هذا إلا تأويل منكم لأحد النصَين لا يمكن أن تخرجوا عنه، ومعلوم أن “استوى على كذا” ظاهرة جدًا في العلو عليه، يبقى “استوى إلى كذا” معناها القصد، إذًا: أخرجتم كلمة “استوى” عن ظاهرها.
وجوابنا على هذا نقول: “استوى” كلمة يتحدد معناها بحسب متعلقها فمثلاً (استوى على العرش) معناها العلو على وجه يليق بجلاله ولا يشبه استواء المخلوق على المخلوق، (استوى إلى السماء) اختلف حرف الجر فكان (إلى) وتستخدم (إلى) للغاية وليست للعلو ومعلوم أنها إذا كانت للغاية فإن الفعل مضمنٌ معنى يدل على غاية، وهو القصد والإرادة وإلى هذا النحو ذهب بعض أهل السنة فقالوا (استوى إلى السماء) أي: قصد إلى السماء، والقصد إذا كان تامًا يعبر عنه بالاستواء؛ لأن الأصل في اللغة العربية أن مادة الاستواء تدل على الكمال كما في قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى).
جواب آخر نقول: (استوى إلى السماء) بمعنى: ارتفع، قال البغوي: وهو مروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين وهو الذي رجّحه الإمام الطبري في “جامع البيان”، قال بعد ذكره الخلاف: “وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه : (ثم استوى إلى السماء) علا عليهن وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات”.
ولكن يجب أن لا نظن أن الله سبحانه وتعالى قد انتفى عنه العلو حين خلق الأرض بل إنه سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال عاليًا؛ لأن العلو صفة ذاتية، ولكن الاستواء وإن كان بمعنى الارتفاع إلا أننا لا نعلم كيفيته وهذا جواب آخر عن الأمة.
والخلاصة: أننا إذا فسرنا (استوى إلى السماء) بمعنى قصد إليها على وجه الكمال فإننا لم نخرج عن ظاهر اللفظ وذلك لاختلاف حرف الجر الذي تعلق ب(استوى) في قوله: (استوى على العرش)، وفي قوله: (استوى إلى السماء) وإذا قلنا بالقول الثاني المروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين بأنه ارتفع فلا يجوز لنا أن نتوهم أن الله تعالى لم يكن عاليًا من قبل.
المثال الثاني- قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) بأن المراد: أقرب بملائكتنا وهذا تأويل! فلماذا تُخرجون النص عن ظاهره؟
نقول: اعلم أننا لو أخذنا بظاهر النص واللفظ لكان الضمير (نحن) يعود إلى الله وأقرب خبر المبتدأ وفيه ضمير مستتر يعود على الله فيكون قرب الله عز وجل، وهذا منكر ولا يقوله أهل السنة والجماعة؛ لأن هذا الأمر لا يمكن أن يكون، ولكن هذا قول أهل الحلول الذين ينكرون علو الله عز وجل، ويقولون إنه بذاته في كل مكان.
وأهل السنة إن أولوا فذلك ما يقتضيه السياق كما ذكرنا آنفًا، فالذي يحضر الميت هم الملائكة (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)، وقوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)، فالذي يحضر إلى المحتضر عند الموت هم الملائكة، وأيضًا في الآية نفسها ما يدل على أن ليس المراد قرب الله سبحانه؛ لأنه قال: (ونحن أقرب) ولو دلّ على قربه لقال الله (وأنا أقرب).
بقي أن يقال: لماذا أضاف الله القرب إليه؟ وهل جاء نحو هذا التعبير مرادًا به غيره؟
الجواب: أضاف الله تعالى قرب ملائكته إليه؛ لأن قربهم بأمره وهم جنوده ورسله، وقد جاء نحو هذا التعبير مرادًا به الملائكة كقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)، فإن المراد به قراءة جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الله تعالى أضاف القراءة إليه، لكن لما كان جبريل يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى فأصبحت إضافة القراءة إليه تعالى، وكذلك جاء في قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ)؛ فإبراهيم إنما كان يجادل الملائكة الذين هم رسل الله تعالى.
المثال الثالث- قال أهل التأويل أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) فقلتم: وهو معكم بعلمه والضمير هنا عائد على الله فكيف تفسرون ذلك؟
قال أهل السنة والجماعة: نحن لم نؤول الآية بل إنما فسرناها بلازمها وهو العلم وذلك؛ لأن قوله: (وهو معكم) لا يمكن لأي إنسان يعرف قدر الله عز وجل ويعرف عظمته أن يتبادر إلى ذهنه أنه هو ذاته مع الخلق في أمكنتهم فإن هذا أمر مستحيل، ومن فهم هذا الفهم فهو ضال في فهمه ومن اعتقده فإنه ضال إن قلد غيره بذلك ومن نسب إلى أحد من السلف أن ظاهر الآية “أن الله معهم بذاته في أمكنتهم” فإنه بلا شك كذاب أشر، وقد بسطنا قول الأئمة في ذلك.
إذًا: أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بأن الله تعالى فوق عرشه وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وأنه مع خلقه لكن مع إيماننا بعلوه، ولا يمكن أن يكون مقتضى معيته إلا الإحاطة بالخلق علمًا وقدرةً وسلطانًا وسمعًا وبصرًا وتدبيرًا وغير ذلك من معاني الربوبية، أما أن يكون حالًّا في أمكنتهم أو مختلطًا بهم كما يقول أهل الحلول والاتحاد فإن هذا أمر باطل لا يمكن أن يكون هو ظاهر الكتاب والسنة.
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في القواعد المثلى: “وتفسير معية الله تعالى لخلقه بما يقتضي الحلول والاختلاط باطل من وجوه:
الأول- أنه مخالف لإجماع السلف فما فسرها أحد منهم بذلك بل كانوا مجمعين على إنكاره.
الثاني- أنه مناف لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة وإجماع السلف وما كان منافيًا لما ثبت بدليل كان باطلاً بما ثبت به ذلك المنفي، وعلى هذا فيكون تفسير معية الله لخلقه بالحلول والاتحاد والاختلاط باطلاً بالكتاب والسنة والعقل والفطرة وإجماع السلف.
الثالث- أنه مستلزم للوازم باطلة لا تليق بالله سبحانه وتعالى ولا يمكن لمن عرف الله تعالى وعرف حق قدره وعرف مدلول المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم أن يقول: إن الحقيقة معية الله لخلقه تقتضي أن يكون مختلطًا بهم أو حالًّا في أمكنتهم ولا يقول ذلك إلا جاهل باللغة العربية جاهلاً بعظمة الرب جل وعلا.
وعلى هذا: فنحن لم نؤول الآية ولم نصرفها عن ظاهرها؛ لأن الذي قال عن نفسه وهو معكم هو الذي قال عن نفسه وهو العلي العظيم وهو الذي قال وهو القاهر فوق عباده” وهو الذي قال يخافون ربهم من فوقهم وقد ذكرت ذلك فلا داعي لسرد الآيات.
إذاً: فهو فوق عباده ولا يمكن أن يكون في أمكنتهم ومع ذلك فهو معهم محيط بهم علماً وقدرةً وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك.
واعلم أنه لا تعارض بين معنى المعية حقيقةً وبين علو الله سبحانه؛ لأن الله ليس كمثله شيء في جميع صفاته فهو عليٌ في دنوه، قريب في علوه، وهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال أيضًا: “إن الناس يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا مع أن القمر في السماء، وهم يقولون: معنا! فإذا كان هذا ممكنًا في حق المخلوق كان في حق الخالق من باب أولى”، والمهم أننا نحن معشر أهل السنة ما قلنا ولا نقول: إن ظاهر الآية هو ما فهمتوه وأننا صرفناها عن ظاهرها بل نقول: إن الآية معناها أنه سبحانه مع خلقه حقيقةً، معيةً تليق به، محيط بهم علمًا وقدرةً وسلطانًا وتدبيرًا وغير ذلك لأنه لا يمكن الجمع بين نصوص المعية وبين نصوص العلو إلا على هذا الوجه الذي قلناه، والله سبحانه وتعالى يفسر كلامه بعضه بعضًا.
وقال ابن عثيمين رحمه الله وصدق هو ومن قال ذلك “فإن من كان عالمًا بك مطلعًا عليك مهيمنًا عليك يسمع ما تقول ويرى ما تفعل ويدبر جميع أمورك فهو معك حقيقةً وإن كان فوق عرشه حقيقةً؛ لأن المعية لا تستلزم الاجتماع في مكان واحد”.
عدم الخوض في الكيفية:
بقي أن نتكلم عن موضوع بغاية الأهمية كنتُ قد أشرتُ إليه سابقًا والآن سأفصل وأتوسع به وهو موضوع الكيفية.
فعندما تقول لأناس حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فاستجب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) “رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة”.
فيقول هؤلاء كيف ينزل الله إذا كان عندنا الليل فيكون في النصف الآخر من الكرة الأرضية النهار فكيف يتم الأمر؟ وما قصدوا من قولهم إلا الفتنة وهذا ما يدندن حوله أهل الكلام.
اعلم يا عبد الله: أن النزول من الصفات الفعلية التي ذكرتها؛ لأنه متعلق بمشيئة الله تعالى، واعلم أن كل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته وقد تكون الحكمة معلومة لنا وقد نعجز عن إدراكها لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئًا إلا وهو موافق للحكمة كما يشير إليه قوله تعالى: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)؛ فأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك ولكنهم في هذا الإيمان يتحاشون التمثيل أو التكييف، أي لا يقع في نفوسهم أن نزوله كنزول المخلوقين أو استواءه على العرش كاستوائهم؛ لأنهم يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ويعلمون بمقتضى العقل ما بين الخالق والمخلوق من تباين عظيم في الذات والصفات والأفعال ولا يمكن أن يقع في نفوسهم كيف ينزل أو كيف استوى على العرش أو كيف يأتي للفصل بين عباده يوم القيامة أي أنهم لا يكيفون صفاته مع إيمانهم بأن لها كيفية لكنها غير معلومة لنا، وحين إذٍ لا يمكن أبدًا أن يتصوروا الكيفية ولا يمكن أن تنطق بها ألسنتهم أو يعتقدوها في قلوبهم فالله تعالى يقول: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)، وقوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)؛ ولأن الله أجلّ وأعظم من أن تحيط به الأفكار قال تعالى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا).
وأنت متى تخيلت أي كيفية فعلى أي صورة تتخيلها(! إن حاولت ذلك فإنك في الحقيقة ضال ولا يمكن أن تصل إلى حقيقة؛ لأن هذا أمر لا يمكن الإحاطة به وليس من شأن العبد أن يتكلم فيه أو أن يسأل عنه، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله حين سأله رجل: يا أبا عبد الله (الرَّحْمَنُ، عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء “العرق” وصار ينزف عرقًا؛ لأنه سؤال عظيم ثم قال تلك الكلمة المشهورة: “الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة”، أي السؤال عن الكيف بدعة، فإذًا نحن نعلم معاني صفات الله ولكننا لا نعلم الكيفية ولا يحل لنا أن نسأل عن الكيفية كما أنه لا يحل لنا أن نمثل أو نشبه؛ لأن الله تعالى يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
المهم: يجب علينا أن نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم سواء كانت تلك الصفة ذاتية أم فعلية، ولكن بدون تكييف ولا تمثيل؛ فالتكييف ممتنع لأنه قول على الله بغير علم والله قال: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، والتمثيل ممتنع؛ لأنه تكذيب لله في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، وقول بما لا يليق بالله تعالى من تشبيهه بالمخلوقات.
وأما من الناحية العقلية؛ فالتكييف باطل بدلالة العقل، لماذا باطل؟ لأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته أو العلم بنظيره المساوي له أو الخبر الصادق عن كيفية ذاته وصفاته وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله عز وجل فوجب بطلان تكييفها وأي كيفية تقدر لله عز وجل فهي كذب وافتراء على الله؛ لأنه لا علم لأحد بذلك، ثم إن الله تعالى أعظم وأجلّ من أي كيفية تقدرها في ذهنك فأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يشبهوا أو يكيفوا.
عقيدة أبي الحسن الأشعري رحمه الله:
ورأيتُ لزامًا على أن أختم حديثي عن صفات الله بقول الإمام أبي الحسن على بن إسماعيل الأشعري إمام طائفة الأشعرية، فهذا الإمام لا بد أن نتكلم عن معتقده على وجهه بالأمانة، ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه، وإذا أردتُ أن تعلم حقيقة حاله وصحة عقيدته فارجع إلى كتابه “الإبانة في أصول الديانة” فقد قال رحمه الله في الصفات: “وقد خالف المعتزلة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة ودفعوا أي يكون لله وجه مع قوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله: لما خلقت بيديّ وأنكروا أن يكون لله عينان مع قوله: (تجري بأعيننا) (ولتصنع على عيني)، ونفوا ما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا …)، وقولنا لهؤلاء والذي به نقول وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه الإمام أحمد ابن حنبل نضّر الله وجهه ورفع درجته؛ لأنه الإمام الفاضل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين، وجملة قولنا: أن الله تعالى استوى على عرشه كما قال تعالى: (الرحمن على العرش استوى) وأن له وجهًا بلا كيف، كما قال تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، وأن له يدين بلا كيف، كما قال تعالى: (بل يداه مبسوطتان)، وقوله تعالى: (لما خلقت بيدي)، وأن له عينين بلا كيف، كما قال تعالى: (تجري بأعيننا وأن لله علمًا كما قال تعالى: (أنزله بعلمه)، ونثبت لله القوة كما قال تعالى: (أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة)، ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي كما نفت المعتزلة والجهمية والخوارج، وندين أن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر، ويراه المؤمنون، أما الكافرون فمحجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون) وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكًا، وأعلم بذلك موسى بأنه لا يراه في الدنيا، ونصدق جميع الروايات التي رواها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب تعالى يقول: (هل من سائل …) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافًا لما قاله أهل الزيغ والتعطيل، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين ما كان في معناه؛ فلا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: (وجاء ربك والملك صفًا صفًا)، ثم يقول: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء”، ثم تجد الإمام أبي الحسن يشرح ذلك بابًا بابًا وشيئًا شيئًا.
وذكر في كتابه “جملة المقالات”: “المعتزلة تقول في قول الله عز وجل: (الرحمن على العرش استوى) يعني استولى، قال: وتأولت اليد بمعنى النعمة، وقوله: (تجري بأعيننا) أي بعلمنا، وأما الوجه فقد قالت المعتزلة فيه قولين: أولهم ما قاله أبو الهذيل: وجه الله هو الله، وقال غيره وهذا قولهم الثاني معنى قوله (ويبقى وجه ربك) أي يبقى ربك دون أن يثبتوا لله وجهًا، فنقول: إن الله هو الله ولا يقال ذلك فيه”.
وخير ما أختم وألخص به هذا البحث البسيط فيما وفقني إليه الله والعظيم في موضوعه هو قول الإمام يحيى بن يوسف الصرصري الأنصاري إمام الفقه واللغة والسنة والزهد:
ولواعج بين الحشا تتردد
في كل يوم سنة مدروسة
بين الأنام وبدعة تتجدد
صدق النبي ولم يزل متسربلاً
بالصدق إذ يعد الجميل ويوعد
إذ قال يفترق الضلال ثلاثة
زيدت على السبعين قولاً يسند
وقضى بأسباب النجاة لفرقة
تسعى بسنته إليه وتحفد
فإن ابتغيت إلى النجاة وسيلة
فاقبل مقالة ناصح يتقلد
إياك والبدع المضلة إنها
تهدي إلى نار الجحيم وتورد
وعليك بالسنن المنيرة فاقفها
فهي المحجة والطريق الأقصد
فالأكثرون بمبدعات عقولهم
نبذوا الهدى فتنصروا وتهودوا
منهم أناس في الضلال تجمعوا
وبسب أصحاب النبي تفردوا
قد فارقوا جمع الهدى وجماعة الإ
سلام واجتنبوا التقى وتمردوا
بالله يا أنصار دين محمد
نوجوا على الدين الحنيف وعددوا
لم يبق للإسلام ما بين الورى
علم يسود ولا لواء يعقد
علقوا بحبل الكفر واعتصموا به
والعالقون بحبله لن يسعدوا
وأشدهم كفرًا جهول يدعي
علم الأصول وفاسق متزهد
وإذا سألت فقيههم عن مذهب
قال: اعتزال في الشريعة، يلحد
كالخائض الرمضاء أقلقه اللظى
منها ففرّ إلى جحيم يوقد
إن المقال بالاعتزال لخطة
عمياء حل بها الغواة المرّد
هجموا على سبل الهدى بعقولهم
ليلاً فعاثوا في الديار وأفسدوا
صُمٌّ إذا ذكر الحديث لديهم
نفروا كأن لم يسمعوه وأبعدوا
واضرب لهم مثل الحمير إذا رأت
أسد العرين فهن منهم شردوا
والجاحد الجهمي أسوأ منهما
حالاً وأخبث في القياس وأفسد
أمسى لعرش الرب قال منزهًا
من أن يكون عليه رب يعبد
ونفى القرآن برأيه والمصحف
الأعلى المطهر عنده يتوسد
وإذا ذكرت له على العرش استوى
قال: هو استولى، يحيل ويخلد
فإلى من الأيدي تمد تضرعًا
وبأي شيء في الدجى يتهجد
وبما ينزل جبرائيل مصدقًا
ولأي معجزة الخصوم تبلد
جلت صفات الحق عن تأويلهم
وتقدست عما يقول الملحد
لما نفوا تنزيهه بقياسهم
ضلوا وفاتهم الطريق الأرشد
ويقول لا سمع ولا بصر ولا
وجه لربك ذي الجلال ولا يد
من كان هذا وصفه لألهه
فأراه للأصنام سرًا يسجد
الحق أثبتها بنص كتابه
ورسوله، وغدا المنافق يجحد
فمن الذي أولى بأخذ كلامه
جهم أم الله العلي الأمجد
والصحب لم يتأولوا لسماعها
فهم إلى التأويل أم هو أرشد
هو مشرك ويظن جهلاً أنه
في نفي أوصاف الإله موحد
يدعو من اتبع الحديث مشبهًا
هيهات ليس مشبهًا من يسند
لكنه يروي الحديث كما أتى
من غير تأويل ولا يتردد
وإذا العقائد بالضلال تحالفت
فعقيدة الهدّيِ أحمدَ أحمدُ
هي حجة الله المنيرة فاعتصم
بحبالها لا يلهينك مفسد
ابن حنبل اهتدى لما اقتدى
ومخالفوه لزيغهم لم يهتدوا
ما زال أحمد يقتفي أثر الهدى
ويروم أسباب النجاة ويجهد
حتى ارتقى في الدين أشرف ذروة
ما فوقها لمن ابتغاها مصعد
نصر الهدى إذ لم يقل ما لم يقل
في فتنة نيرانها تتوقد
ما صده ضرب السياط ولا ثنى
عزماته ماضي الغرار مهند
فهناه حبٌ ليس فيه تعصب
لكن محبة مخلص يتودد
وودادنا للشافعي ومالك
وأبي حنيفة ليس فيها تردد
وأخيرًا: أرجو من الله عز وجل أن أكون قد وُفقتُ في هذا البحث وأقنعتُ مَن كان في باله هذا السؤال أو من كان يصول ويجول وتتخبط أفكاره حول هذا السؤال.
وأن أكون قد أجبتُ عن الأسئلة التي تدور في ذهن من يريد الله والمعرفة حول هذا الموضوع.
وأن يكون هذه البحث مقبولًا عند الله عز وجل، ويطرح لي القَبول عند أهل العلم، والقبول عند العوام، وأن يكون لي صدقةً جاريةً إلى يوم الدين، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبها:
العبد الفقير محمد عارف الأرناؤوط (أبو دُجانة)
في 7 شعبان 1425 هـ الموافق لـ 21 أيلول 2004
– كتاب شرح العقيدة الطحاوية.
– تفسير ابن كثير.
– العقيدة الواسطية.
– لسان العرب.
– القواعد المثلى لابن عثيمين.
– اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية.
– البداية والنهاية لابن كثير.
– منهاج أهل السنة والجماعة لابن عثيمين للشيخ النعماني الأثري.
– الأسماء والصفات للبيهقي.
– تفسير الطبري.
– الإبانة في أصول الديانة.
– صحيح الجامع للألباني 1799.
– صحيح الجامع للألباني 3522.
– مختصر مسلم 458.
– صحيح الترمذي للألباني 3556، ورواه أحمد وابن ماجه.
– صحيح الترمذي للألباني 3095.
– مختصر مسلم 1880.