هل يُنْسب الشر إليه جل جلاله؟محمد أنور مرسال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
هل يجوز أن يُنْسب الشر إليه جل جلاله؟
قبل الدخول في غمار هذا السؤال، هناك أصول عقدية مهمة لا بد أن يعتقدها المسلم، ويستحضرها، حيال هذا السؤال، ومنها:
– الأصل الأول: أفعاله جل جلاله بلغت الغاية في الكمال والحسن؛ فالله جل جلاله له الكمال المطلق: فله الأسماء الحسنى (1)، وله الصفات العُلا (2)، وأفعاله جل جلاله حُسنى بلغت الغاية في الكمال والحسن، وهي كمال مطلق؛ لأنها تدور بين الفضل والعدل. (3).
– الأصل الثاني: أفعاله جل جلاله يفعلها لحِكم عظيمة؛ فإذا قلنا أنَّ أفعاله جل جلاله حُسنى، فما من فعلٍ يفعله ربنا إلا وفَعَله لحِكمة عظيمة جليلة، علمها مَن علمها، وجهلها مَن جهلها، كما دلت عليه النصوص الكثيرة. (4)
– الأصل الثالث: الشر ينقسم إلى قسمين: شر محض، وشر نسبي؛ فاعلم -رحمنا الله وإياك- أنَّ الشر ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول- شر محض لا خير فيه قط.
القسم الثاني- شر نسبي، يعني شر من وجه وخير من وجه.
نعود إلى السؤال: هل يجوز أن ننسب الشر إلى الله تبارك وتعالى؟
بناءً على الأصول التي ذكرناها؛ فالشرور التي وُجدت منذ بدء الخليقة إنما جُعلت لحكمة، وكما قلنا: الشر ينقسم إلى قسمين: شر محض لا خير فيه قط، وشر نسبي وهو شر من وجه وخير من وجه آخر.
سؤال: كيف يكون الشر فيه خير؟
الجواب: هناك أمثلة كثيرة على ذلك، ومنها:
المثال الأول- البَلاء: البلاء شر، لكن هل هو شر نسبي أو شر محض؟ الجواب: هو شر من وجه، وخير من وجه؛ فهو شر من وجه لأنه شر للمُبتَلَى من جهة الآلام والأحزان وما شابه ذلك، وخير من وجه؛ لأنه به تُرفع الدرجات، وتُكفر السيئات، وبه تكون العِبَر والعِظَات.
المثال الثاني- خلق إبليس : وجود إبليس هو شر، ولكن يترتب على هذا الشر خير كمجاهدة النفس، وتثقيل موازين المؤمنين، فضلًا عن اختبار العباد، ومعرفة مَن الصادق المِطْوَاع لله، ومَنْ الكاذب المُتَبِع لشيطانه وهواه …إلخ.
خلاصة الكلام:
ربنا لم يخلق شرًا محضًا، وإنما ربنا إذا خلق يخلق ما فيه الخير وما فيه الشر.
نعود إلى السؤال: هل يجوز أن ننسب الشر إلى الله تبارك وتعالى؟
اعلم أخي الحبيب -رحمنا الله وإياك- أنَّ مردَّ هذه المسألة يتعلق ببعض الأدلة التي ظاهرُها التعارض في هذه الباب.
فهناك أدلة تثبت أن من القدر ما هو خير ومنه ما هو شر، وهناك أدلة تنفي الشر عن الله.
أولًا- أدلة فيها إثبات الشر في القدر: والأدلة في هذا الباب تنقسم إلى قسمين:
أ- أدلة خاصة، ومنها:
الدليل الأول: قال جل جلاله في قصة نوح عليه السلام: (لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هود: 34، وجه الاستدلال: إثبات الإغواء في تقدير الله، وهو شر.
الدليل الثاني: حديث جبريل -في الصحيح- عندما سأله جبريل عن الإيمان حيث قال: أخبرني عنِ الإيمانِ، قالَ: (الإيمانُ أن تُؤْمِنَ باللَّهِ وملائِكَتِهِ وَكُتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخرِ، والقدرِ كلِّهِ خيرِهِ وشرِّه) (5)، وجه الاستدلال: قوله: (خيره وشره)، وهذا فيه تصريح بأن القدر فيه الشر.
الدليل الثالث: عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ يقولُ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ شيءٍ بقَدَرٍ، حتَّى العَجْزِ وَالْكَيْسِ -أَوِ: الكَيْسِ وَالْعَجْزِ-) (6)، العجز: هو عدم القدرة، وقيل: هو ترك ما يجب فعله بالتسويف، والكيس: هو: ضد العجز، أي: النشاط والحنك في الأمور والعقل في الأمور، ووجه الاستدلال: أنَّ العجز من الشر، برهان ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من العجز: كما ورد عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من: العجزِ، والكسلِ، والجبنِ، والبخلِ، والهرمِ، والقسوةِ (7)، والغفلةِ (8)، والعيْلةِ (9)، والذلةِ (10)، والمسكنةِ (11)، وأعوذُ بك من: الفقرِ، والكفرِ، والفسوقِ، والشقاقِ (12)، والنفاقِ (13)، والسمعةِ (14)، والرياءِ ((15)، وأعوذُ بك من الصممِ (16)، والبُكمِ (17)، والجنونِ (18)، والجُذامِ (19)، والبَرَصِ (20)، وسيِّئِ الأسقامِ) (21)، وجه الاستدلال: أن هذه الأمور التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم كالعجزِ، والكسلِ، والذلةِ والقسوةِ، والغفلةِ، والعيْلةِ، والمسكنةِ، والكفرِ، والفسوقِ، والرياء والشقاقِ، والنفاقِ، والسمعةِ، والبُكمِ، والجنونِ، والجُذامِ، والبَرَصِ، وسيِّئِ الأسقامِ شر، وهي من تقدير الله.
الدليل الرابع: قال الله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يونس: 107، وجه الاستدلال: أنَّ ما يصيب الإنسان من الخير والضرر، فهو بتقدير الله وهذا يدل على أن قدر الله فيه الشر؛ لأن الضرر شر.
ب- الأدلة العامة، ومنها:
قال الله: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)القمر: 49، وجه الاستدلال: (كُلَّ شَيْءٍ)، “كل” من صيغ العموم، فتشمل الخير والشر.
فهذه أدلة فيها أن تقدير الله فيه الخير والشر، وهناك أدلة فيها نَفْي الشر عن الله.
ثانيًا- أدلة فيها نفي الشر عن الله، ومنها:
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا استَفتَح الصَّلاة يُكبِّرُ، ثُم يقولُ: (….لبَّيْكَ وسَعدَيْكَ، والخَيرُ كلُّه في يدَيْكَ، والشَّرُّ ليس إليكَ، أنا بكَ وإليكَ، تبارَكْتَ وتعالَيْتَ، أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ) (22)، وجه الاستدلال: التصريح بنفي الشر عنه جل جلاله.
وبسبب تعارض النصوص -في الظاهر اختلفت مسالك الناس في الجواب عن هذا السؤال: هل يجوز أن ننسب الشر إلى الله تبارك وتعالى؟
اعلم أنَّ العلماء -رحمهم الله- لهم مسالك مع هذه النصوص في هذه المسألة؛ فإنهم يقولون أنَّ الله خلق الخير والشر، وإنما الإشكال سيكون في نفي نسبة الشر عن الله (والشر ليس إليك).
وهل النفي نفيٌ لخلق الشر أو ماذا؟
وقبل أن نذكر هذه المسالك هناك مسلك آخر، وهو مسلك القدرية.
مسلك القدرية في المسألة:
اعلم أن القدرية ينقسمون إلى طوائف ثلاث:
الطائفة الأولى: القدرية الأوائل “غلاة القدرية” (23)، وهم الذين ينفون عنه جل جلاله لعلمه بأفعال العباد وكذلك الخلق، يقولون: أنَّ الله ما علم وما خلق شيئًا من أعمال العباد (24)، فهم ينفون خلق الله للخير والشر، مع نفيهم لعلمه بأعمال العباد.
الطائفة الثانية: القدرية المتأخرون (25)، يقولون أنَّ الله تبارك وتعالى لم يخلق أفعال العباد عمومًا من الخير ومن الشر، ولكنهم يثبتون العلم أي أن الله يعلم كل أعمال العباد.
الطائفة الثالثة: وهم القسم الثاني من متأخري القدرية، قالوا أن الله خلق الخير، ولم يخلق الشر وعلى هذا جماعة من أهل الحديث الذين كانوا يقولون بالقدر: يقولون أن الله خلق الخير، ولم يخلق الشر، ولعل هذا مقصد الإمام أحمد: عندما قال: “لو فتشت أهل البصرة وجدت ثلثهم قدرية”. (26)
مسالك العلماء في معنى حديث: (والشر ليس إليك):
اعلم -رحمنا الله وإياك- أن العلماء لهم مسالك في الجواب عن السؤال: هل يُنْسَب الشر إليه جل جلاله؟
القول الأول: قالوا: (الشر ليس إليك) يعني: الشر لا يُتقرب به إليك (27)، وهذا مذهب: الخليل بن أحمد، والنضر بن شميل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وابن خزيمة، والأزهري، والطحاوي (28).
القول الثاني: قالوا: (والشر ليس إليك) يعني: الشر لا يُضاف إليك على انفراده أي: لا يصح أن نقول: يا خالق الشر، أو يا رب الشر، أو خالق النجاسات، أو يا خالق الخنازير والقردة، أو يا مقدِّر الشر، فلا يصح أن نقول ذلك، إنما نقول: الله خالق كل شيء (29)، فنقول ذلك على العموم، ولا نفرد الله تبارك وتعالى بخلق الشر، وهذا مذهب أبي عثمان الصابوني (30)، وحُكي عن بعض الشافعية، وقال به غيرهم من أهل العلم (31).
القول الثالث: معنى الحديث (والشر ليس إليك) يعني: الشر لا يصعد إليك (32)، وهذا قريب من القول الأول الذي قالوا فيه: الشر لا يُتقرب به إليك؛ لقول الله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ).
القول الرابع: (والشر ليس إليك) يعني: ليس شرًا بالنسبة لحكمتك (33)؛ فالله لم يخلق شرًا محضًا، وإنما الشر الذي يخلقه الله تبارك وتعالى ليس شرًا بالنسبة إليه؛ لأنه صادر عن حكمة بالغة؛ فقضاء الله تبارك وتعالى كله خير، لا شر فيه بوجه من الوجوه بالنسبة لله، وإنما يكون الشر في المقضيّ الذي هو مفعول لله ومخلوق لله تبارك وتعالى، وعلى هذا ذهب جماعة من أهل التحقيق: كابن تيمية (34) وابن القيم (35) رحمهما الله.
فهناك فرق بين فعله جل جلاله الذي فَعَلَه، وبين مَفْعُولات الله ومخلوقاته؛ فالنظر يكون من جهتين:
الجهة الأولى- جهة المُقَدِّر “وهو جل جلاله الذي قَدَّر”.
الجهة الثانية- جهة المُقَدَّر “وهو مفعولات الله ومخلوقاته”، فالأول، وهو: “فِعل الله” النظر فيه من جهة المُقَدِّر “وهو جل جلاله الذي قَدَّر”، وحكمه: هذا كله خير، والثاني، وهو: “مفعولات الله”، وحكمه: فيه الخير وفيه الشر.
تطبيق للبيان: خَلْق إبليس: خَلْق الله لإبليس الذي هو فعل الله: هذا خير بنسبته لله وفيه الكثير من المنافع (36)، لكن في المفعولات: فهو شر لبعض المخلوقات؛ لأن من المخلوقات من أغواهم إبليس، ودخلوا النار؛ بسبب إغوائه.
خلاصة الكلام:
الشر في المفعول “المخلوق” وليس في فعل الله، وكما سبق وبينَّا أن الشر ينقسم إلى قسمين، وهما: شر محض، وشر نسبي: فيه الخير وفيه الشر ككالبلاء هو شر مِن وجه من ناحية الآلام والأحزان، وهو خير من وجه آخر؛ لأن البلاء تُرفع به الدرجات، وتُكفر به السيئات، (37)؛ فالله لم يخلق شرًا محضًا فبالنسبة إلى فعله، فلا يُنسب إليه الشر، فكل ما قدره جل جلاله من جهة فعله فلا شر يُنسب إلى فعله، بل كله خير، وأما من جهة المُقَدَّر عليه -وهو المخلوق- ففيه خير وفيه شر؛ فربنا جل جلاله لم يخلق شرًا محضًا، وباعتبار فعله جل جلاله وحكمته؛ فيُعد هذا خيرًا محضًا، ولكن قد يكون هذا الخير شرًا بالنسبة لبعض الناس كما ضربنا المثل في هذا الباب؛ فربنا مُنزَّهٌ عن الشر المحض الكُلي فِعلًا وخَلْقًا، ومُنَزَّهٌ عن الشر النسبي فِعلًا، لا خَلْقًا، والشر صار شرًا؛ لانقطاع نسبته إليه جل جلاله لكن إذا نُسبَ إليه جل جلاله فعلًا فهو خير.
الترجيح:
الراجح -في نظري- والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان:
أن جميع المعاني السابقة صحيحة -في الأصل- أما المعنى الأدق والأشمل والذي يتضمن التنزيه الكامل هو المعنى الرابع “الشر ليس في أفعاله وإنما في مفعولاته ومخلوقاته” وإليك بيان ذلك:
أ- فالشر ليس إليه جل جلاله يعني: لا يُتقربُ إلى الله بالشر، وهذا وإن تضمن تنزيه الله عن التقرب بالشر إليه، لكن لا ينفي أن يكون فعله فيه شر تعالى الله عن ذلك.
ب- والشر ليس إليه جل جلاله يعني: لا يصعد الشر إليه، هذا وإن تضمن تنزيه الله عن صعود الشر إليه لكن لا ينفي أن يكون فعله فيه شر تعالى الله عن ذلك.
ج- والمعنى الأشمل والأدق الذي يتضمن التنزيه، الموافق للفظ المعصوم الصادق المصدوق، (والشر ليس إليك) فإنه يتضمن تنزيه الله عن نسبة الشر إليه بوجه من الوجوه، لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ ولكن في مخلوقاته ومفعولاته (38)؛ لأن فعل الله كله خير، وإنما الشر في مفعولات الله كما بيّنه المحقق المحرر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وغيرهم رحمهم الله؛ فلا منافاة بين كل هذه المعاني، وكلها معانٍ صحيحة يشملها الحديث.
سؤال: هل لنا أن نقول أن جل جلاله خلق الشر؟ لنا أن نقول ذلك في مقام الرد على أهل البدع (39)؛ لأنه جل جلاله خالق كل شيء، وهو صانع كل صانع وصنعته تعالى وفعله كله خير، وأما نسبة الشر إليه من جهة الخلق عمومًا (40) فتنسب إلى الله بضوابط وآداب.
سؤال: وما هذه الضوابط في نسبة الشر إلى الله من جهة الخلق؟
الجواب:
ذكر أهل العلم أنَّ الشر لم يُنسب إليه جل جلاله مفردًا قط إلا على ثلاثة وجوه (41) وهي:
الوجه الأول: على جهة عموم المخلوقات، كأن يقال: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الزمر: 62، و”كل” من صيغ العموم، فيدخل في ذلك الشر.
الوجه الثاني: أن يُضاف الشر إلى السبب المخلوق، كما في قول الله: (قل أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق من شَرِّ مَا خَلَقَ) الفلق: 1-2، فأضافة الله إلى من خَلَقَه من مخلوقاته -وهو السبب- وهو مفعولات جل جلاله.
الوجه الثالث: أن يُحذف الفاعل، ويكون لما لم يُسمَّ فاعله كما قال تعالى عن الجن أنهم قالوا: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) الجن: 10، فلما ذكروا الشر قالوا: أُريد، ولم ينسبوه لله تعالى من باب التأدب معه جل جلاله، وكما قال الخضر كما في قوله تعالى في سورة الكهف: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) الكهف: 79، فنسب العيب لنفسه، مع أنه في آخر الآيات قال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) الكهف: 82، وعندما جاء ذكر الخير قال: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا) الكهف: 82، ومن ذلك قول إبراهيم الذي ذكره الله: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الشعراء: 80، مع أن الله هو الذي خلق المرض وقدَّره، ونسبه إبراهيم عليه السلام لما لم يُسمَّ فاعله من باب التأدب مع الله.
إذن: فالشر لا يُنسب إليه جل جلاله فهو ليس في أفعاله -على وفق ما بيّناه- لأن فعل الله كله خير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك).
الخلاصة:
لنا أن نقول: الشر ليس في قضاء الله (42)، إنما يكون في المقضيّ (43).
سؤال: هل يصح أن نقول: أراد جل جلاله الشر الموجود في الدنيا؟
الأصل في ذلك أننا لا ينبغي أن نقول ذلك من باب التأدب مع الله وتعالى -مع أن الشر أُريد كونًا-، ولكن في معرض الرد على أهل البدع نقول: أنَّ الله أراد الشر، ولم يُرِد الشر.
سؤال: وما معنى أن أراد جل جلاله الشر ولم يُرِده؟
الجواب: أراده كونًا، ولم يُرِده شرعًا؛ فالظلم والقتل بغير حق والكفر …إلخ شر، وقد أراده الله كونًا، ولم يرده شرعًا.——————————
———–
(1) كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، الأعراف: 180، كما قال تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) طه: 8.
(2) كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) النحل: 60، على وجه من وجوه التفسير: أن معنى المثل الأعلى: الوصف الأعلى.
(3) كما قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) السَّجْدَةِ: 7، وَقَالَ: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) النَّمْلِ: 88.
(4) ومن هذه الدلائل:
أ- قوله تعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) البقرة: 269، وجه الاستدلال: واهب الكمال أَوْلى به.
ب- آيات فيها التعليل بصوره كما قال تعالى: ٌرُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ، وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء: 165، وجه الاستدلال: (لِئَلَّا) هذه لام التعليل، واعلم أنه قد وردت في القرآن آيات كثيرة بلام التعليل على وَفق هذا المنوال، وقد تأتي بصيغة أخرى، ومنه قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ …) المائدة: 32، وغير ذلك من النصوص الكثيرة في الباب.
(5) رواه أحمد (367)، مسلم (8)، وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، والنسائي (4990)، وابن ماجه (63)، وهذا لفظ أحمد.
(6) رواه مسلم (2655).
(7) هي: غلظة القلب، وأن يتصف الإنسان بأنه قاسي القلب لا ينتفع بالموعظة، ولا يرحم مَن يستحق الرحمة.
(8) هي: غياب الشيء عن بال الإنسان، وعدم ذِكره.
(9) هي: الفقر.
(10) هي: الهوان على الناس، وأن ينظروا إلى الإنسان بعين الاحتقار والاستخفاف به.
(11) هي: قلة المال وسوء الأحوال.
(12) مخالفة الحق.
(13) أن يُظهِر الإنسان خلاف ما يُبطِن، وهو قسمان: نفاق أكبر: وهو النفاق الاعتقادي، وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر، ومنه الأصغر: وهو النفاق العملي.
(14) أن يعمل العمل خفية، ثم يُنوِّه بالعمل؛ ليسمعه الناس.
(15) إظهار العبادة؛ ليراها الناس، فيحمدوه.
(16) انسداد الأذن وثقل السمع.
(17) وهو: الخرس وعدم القدرة على الكلام.
(18) فقدان العقل وعدم التمييز.
(19) تآكل أطراف الأعضاء شيئًا فشيئًا، وربما يفقد صاحبه الشعور بها، وهو مرض يصيب بالعدوى.
(20) هو: بياض يظهر على الجلد كبقع، ثم ينتشر في باقي الجلد حتى يعمَّه؛ بسبب انحباس الدم في الجلد، وهو داء يستقذره الناس ويسبب آلامًا نفسية للمريض.
(21) صحيح: رواه الحاكم (1944)، والبيهقي في الدعوات الكبير (348)، والطبراني في الصغير (316).
(22) رواه أحمد (803)، ومسلم (771)، وأبو داود (760)، والترمذي (3421)، والنسائي (897)، وهذا لفظ أحمد.
(23) الطائفة الأولى: غلاة القدرية “القدرية الأوائل أو المجوسية”، وهم الذين ينفون عنه جل جلاله العلم “علم ما سيفعله العباد، وإنما يعلمه بعد وقوعه”، والخلق “خلق أفعال العباد” فهم ينسبون القدر إلى العبد “أى أن العبد هو الذي يخلق أفعاله” وينفونه عن الرب “أي: ينفون خلق الله لأفعال العبد -تعالى الله عن ذلك-” ويقولون أن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وقوعها، وقد سُموا بالمجوسية؛ لأنَّ طائفة منهم يقولون: أن أفعال الخير خلقها الله، وأما أفعال الشر: فخلقها العبد، فشابهوا المجوس الذين يقولون أن هناك إلهًا للخير وإلهًا للشر، وظهرت القدرية في أواخر عهد الصحابة في زمن الفتنة بين ابن الزبير وبني أمية سنة 70 هـ ؛ فغلاة القدرية ينكرون علمه جل جلاله المتقدم ومشيئته السابقة، ويقولون أن الله تعالى أمر ونهى، وهو لا يعلم مَن سيطيعه ممن سيعصيه، ويقولون أن الأمر أُنُف أي: مُستأنَف فنفوا عنه جل جلاله العلم والخلق، والله تعالى يقول: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات: 96، وحكمهم: وهم كفار نوعًا وعينًا، ولا يحتاجون لإقامة الحجة؛ لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة؛ فمَن وصف الله بالجهل لا يحتاج لإقامة الحجة، وأقوال الأئمة فيهم: قال ابن عباس: (كلام القدرية كفر) وابن عمر (لعنهم، وتبرأ منهم) كما في الصحيح في مطلع حديث جبريل، والتبرؤ هنا يعني: الخروج من الملة، وقال: (لو برزت لى القدرية في صعيد واحد لضربتُ رقابهم) قيل لعليٍ: إن هاهنا رجلاً يتكلم في المشيئة، فقال: (يا عبد الله، خلقك جل جلال هذا شاء أم إذا شئت؟ فقال: إذا شاء، قال: ويمرضك إذا شاء أم إذا شئت؟ فقال: إذا شاء، قال: ويشفيك إذا شاء أم إذا شئت؟ فقال: إذا شاء، قال: ويميتك إذا شاء أم إذا شئت؟ فقال: إذا شاء، قال: ويدخلك حيث شاء أم حيث شئت؟ فقال: حيث شاء، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ بِالسَّيْفِ، قَالَ: ثُمَّ تَلَا: (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) المدثر: 56، قال الحسن البصري: (مَن كذَّب بالقدر فقد كذب بالحق أي: القرآن)، قال نافع: (يُستتابون وإلا قُتلوا) وورد مثله عن عمر بن عبد العزيز رجاء بن حيوة: أفتى رجاء بن حيوة بقتلهم،قال الأوزاعي: كَفَر غيلان القدري، وقال لهشام بن عبد الملك: (دمه في عنقي)، وقال الشعبي: (القدرية نصارى)، وقال سعيد بن جبير: (القدرية يهود)، وقال أبو حنيفة: ( نقول لهم: هل علم الله ما يكون قبل أن يفعله؟ فإن قالوا: لا، كفروا؛ لأنهم جهلوا ربهم، وإن قالوا: نعم، نقُل لهم: هل شاء الله خلاف ما علم؟ فإن قالوا: نعم، كفروا؛ لأنه شاء أن يكون جاهلًا، وإن قالوا: لا، رجعوا إلى قولنا)، وسُئل مالك: عن تزويج القدري، فقال: (ولَعَبد مؤمن خير من مشرك)، قال الشافعي: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن تابوا وإلا كفروا)، الإمام أحمد سُئل: يُستتاب القدري ؟ فقال: (أرى أن يستتيبه إذا جحد العلم)، انظر إلى هذه الآثار في: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة اللالكائي (3/711: 706) باب: (ما رُوي من المأثور في كفر القدرية وقتْلهم، ومَن رأى استتابتهم ومَن لم يرَ).
(24) انظر: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، ابن بطة 1/171 دار الراية- الرياض.
(25) وهم ينقسمون إلى قسمين: قسم يقول: الله لم يخلق أفعال العباد من الخير والشر، وقسم يثبتون لله خلق الخير دون الشر.
(26) تاريخ بغداد ( 12 / 195 ) دار الكتب العلمية- بيروت.
(27) معالم السنن، للخطابي ( 1 / 170 ) رقم ( 239 ) دار الكتب العلمية-بيروت، شرح النووي على صحيح مسلم ( 3 / 52 ) دار الكتب العلمية-بيروت، شرح سنن أبي داود، بدر الدين العيني ( 2 / 435 ) دار الكتب العلمية-بيروت، مرقاة المصابيح شرح مشكاة المصابيح ( 2 / 493 ) دار الكتب العلمية-بيروت.
(28) السنن الصغير، للبيهقي ( 1 / 147 ) رقم (374 )، ط منشورات جامعة الدراسات الإسلامية، شرح مشكل الآثار، الطحاوي ( 4 / 223 ) رقم ( 1563 ) مؤسسة الرسالة-بيروت، شرح النووي على صحيح مسلم ( 3 / 52 ) دار الكتب العلمية-بيروت، البدر التمام شرح بلوغ المرام، ( 3 / 33 ) تحقيق : علي بن عبد جل جلالهلزين.
(29) شرح النووي على صحيح مسلم ( 3 / 52 ) دار الكتب العلمية-بيروت، شرح سنن أبي داود، بدر الدين العيني ( 2 / 435 ) دار الكتب العلمية-بيروت، البدر التمام شرح بلوغ المرام، ( 3 / 33 ) تحقيق: علي بن عبد جل جلالهلزين.
(30) عقيدة السلف وأصحاب الحديث، الصابوني ص28، دار العاصمة-الرياض.
(31) شرح النووي على صحيح مسلم ( 3 / 52 ) دار الكتب العلمية-بيروت، البدر التمام شرح بلوغ المرام، ( 3 / 33 ) تحقيق: علي بن عبد جل جلالهلزين.
(32) شرح النووي على صحيح مسلم ( 3 / 53 ) دار الكتب العلمية-بيروت، شرح سنن أبي داود، بدر الدين العيني ( 2 / 435) دار الكتب العلمية-بيروت، البدر التمام شرح بلوغ المرام، ( 3 / 33 ) تحقيق: علي بن عبد جل جلالهلزين.
(33) شرح النووي على صحيح مسلم ( 3 / 52 ) دار الكتب العلمية-بيروت، شرح سنن أبي داود، بدر الدين العيني ( 2 / 435 ) دار الكتب العلمية-بيروت.
(34) مجموع الفتاوى ( 14 / 266 ) الطبعة الثانية ( 1399) هـ.
(35) شفاء العليل ص515 المكتبة التوفيقية-القاهرة.
(36) انظر: ص134 فيها الإجابة عن هذا السؤال.
(37) وسبق وذكرنا أمثلة على ذلك، وانظر: ص18 .
(38) انظر: بدائع الفوائد، ابن القيم ( 2 / 444 ) دار الحديث-القاهرة.
(39) كالقدرية الذين ينفون خلق الله للشر، وهم “طوائف ثلاث” كما بيناه من قبل بحول الله.
(40) والمقصود في غير معرض الرد على أهل البدع.
(41) شفاء العليل ص515 المكتبة التوفيقية-القاهرة.
(42) لأنه فعل الله، وفعل الله كله خير.
(43) لأنه مفعولات، ومخلوقات الله.