حاجات أساسية في تربية الأبناء:د. خالد رُوشه.يهتم المربون كثيرًا أثناء العملية التربوية بالتقويم، والاستقامة، والأمر بالصواب، والعقاب على الخطأ، وغيره من الممارسات التربوية المعروفة، لكن قليلاً منهم من يرعى اهتمامًا بالحاجات الأساسية في التربية على الرغم من أهميتها الكبيرة كأساس للعملية التربوية برمتها، فلا يمكن لعملية تربوية أن تنجح بدون الأرض الخصبة التي تقوم عليها تلك الأرض الخصبة التي تروى وتُغذّى بتلبية الاحتياجات التربوية ابتداءً، وببث روح العطاء ثانيًا، ولدينا عدة حاجات أرى أنها لا يمكن البناء التربوي بدونها:
أولها- الحاجة إلى العلم: فلا يمكن أن يقوم الآباء والمربون بتربية أبنائهم أو مربيهم بغير أن يبثوا فيهم معنى العلم النظري والتطبيقي لكل ما يدعونهم للتربية عليه؛ فالتربية بمجرد الأمر تربية مؤقتة لا جذور لها، ولكي تتجذر الجذور يجب أن يعلم الأبناء سبب الأمر التربوي، وسبب النصح، ومعنى التوجيه، وهدفه، ومصدره، فمثلاً إذا أردنا أن نأمرهم بخلق البشاشة وحسن اللقاء، فمن المهم بمكان أن نعرفهم مصدر ذلك الأمر -كونه من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم- ونعرفهم ثواب الفعل، (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، ونعلمهم أثره؛ فالبشاشة تحبب الناس في البشوش، وتحسن العلاقة بينهم، وتقرب القلوب، وتيسر الأمر بالمعروف والخير، وتساعد على العفو والصفح، ونعلمهم الفرق بين البشاشة والسفاهة والتفاهة، ومعنى الجدية والوقار، وكيف الجمع بين البشاشة والوقار… وهكذا، ومع الأسف فالاهتمام بالحاجة العلمية التربوية لا يلقى سوى القليل من الاهتمام، ولا يعتمد في بثه إلا على سؤال الأبناء وإجاباتهم، فإذا سكتوا فلا علم يصل إليهم، والخطورة هنا أنهم إذا لم يجدوا سدًا لحاجاتهم العلمية سيبحثون عن سدها في وسائل أخرى، ولا يخفى علينا مدى الخطورة المتوقعة من تلقي العلوم التربوية من الوسائل التي يقودها أصحاب المناهج الخربة، بالطبع فالتلقي العلمي التربوي من الآباء والمربين لن يردع الأبناء من تلقي المعلومات الخارجية كوننا نعيش في عالم مفتوح، وفي حالة سيولة معلوماتية ثائرة، لكننا نكون باهتمامنا بسد الحاجات العلمية التربوية لدى أبنائنا قد بثثنا البذرة الأولى الحسنة، وأقمنا أساسًا في فهم السلوك المأمور به، ووضعنا دواءً وقائيًا مبدئيًا تجاه الانحراف.
ثانيًا- الحاجة إلى القِيَم: قد يختلف معي البعض في كون الحاجة إلى بناء القيم حاجة أساسية في التربية، لكنني أؤكد على صواب ذلك؛ فهناك فراغ نفسي لا يمكن أن يسد إلا بترسيخ القيم، وتثبيتها في نفس الأبناء وقلوبهم، كما أن شخصية الأبناء لا يكتمل بناؤها إلا ببناء القيم فيها، والمربون عندما يهملون بناء القيم في نفوس أبنائهم إنما يتركونهم لتلقي القيم غير الموجهة وغير المقومة من الخارج، في حالة عشوائية غير مطلوبة، خصوصًا وأن هناك اغترابًا لقيم الفضيلة وانتشارًا لقيم الرذيلة في المجتمعات المحيطة بنا، والقيم التربوية التي أؤكد عليها هنا هي الأحكام العامة الفاضلة المتفق عليها، والمرغوب فيها دينيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وتشمل كل الفضائل والمحاسن الفكرية والتطبيقية، والحقيقة أن ديننا الإسلامي الرائع قد جمع القيم الفاضلة جمعًا، ولطالما تتبعت الرؤى القيمية الغربية والشرقية عبر مؤلفاتهم أو تطبيقاتهم القيمية، فلم أجد من قيمة خير إلا وقد سبق إليها الإسلام ودعا إليها الحبيب الكريم -صلى الله عليه وسلم- ومن المهم في المراحل التربوية المختلفة أن يحرص المربون على بث تلك القيم بأساليب مختلفة لا تقتصر على مجرد التوجيه، أو مجرد القول والتكرار والنصح، لكن ينبغي التأكيد عليها عبر المواقف الحياتية المختلفة، والوقوف مع الأبناء مواقف جادة وحازمة عند التفريط فيها والتهاون في الالتزام بها.
ثالثًا- الحاجة إلى الأمن والطمأنينة: فلكي ينجح المحضن التربوي في أداء دوره يجب أن يوفر الأمن للأبناء والمتربين فيه، والحالة التربوية الفاقدة للأمان هي حالة سلبية التأثير تترك آثارها أمراضًا في شخصية الأبناء، وتشويهًا في نفوسهم، وربما طفح هذا التشوه إلى جوارحهم، والأسرة هي المحضن الأول والأهم في هذا الشأن، والأبوان هما المسؤولان الأول عن بث شعور الأمان في قلوب أبنائهم، وإشعارهم بالطمأنينة في حياتهم، ومن أهم ما يشعر الأبناء بالأمان مساندة الأبوَين لهم، ودعمهم لخطواتهم، وتعبيرهم عن تقديرها، وإعطائهم الفرصة لإنجاح تجاربهم الحياتية، وتكوين مهاراتهم، والصبر عليهم في تكرارها، والمساندة في لحظات الفشل والإخفاق والانكسار حتى الوصول لخطى النجاح والإنجاز، ويستوي في ذلك الصغير والكبير، ومما يبث الشعور بالأمان إقامة العدل بين الأبناء، وعدم التفريق بينهم، ونشر روح الرحمة والرفق، وتنقية البيت من مشاعر الغضب والصراخ، وكذلك بث روح المسامحة، وعدم التدقيق في العقوبة لكل خطأ صغير، بل العفو والصفح مع التوجيه والنصح والتقويم وغيرها، والثقة في الأبناء تُوجِد الطمأنينة، وتُقوِّم الشخصية، وتنبت الرجولة، وتبعث على الثقة في النفس، كما أن تقديرهم على آرائهم وأفكارهم مهما كانت صغيرة نوع من بناء الثقة والأمن، وإن الاهتمام بما سبق وغيره مما لا يتسع له المقام معين مهم على تربية شخصية جادة شجاعة، ومساعد بالغ الأثر في تجنب أخلاق سلبية كالتردد والعناد والانطواء وغيره.
رابعًا- الحاجة إلى الاهتمام والمحبة: هذا النوع من الحاجات يغلط كثير من المربين في فهمه وتطبيقه؛ فيتصورون أن الحاجة إلى الاهتمام والحب معناهما تلبية جميع مطالب الأبناء، والحرص على عدم إغضابهم، وكثرة الالتصاق بهم، والمبالغة في الرفق في معاملتهم مهما ارتكبوا من مخالفات، وهي مفاهيم خاطئة كل الخطأ؛ فلا شك أن الأبناء في حاجة للقرب والمصاحبة والمصادقة والمعايشة والحوار والمناقشة وتداول الأفكار والمشاركة في اللعب صغارًا، والمشاركة في المواقف المختلفة شبابًا وكبارًا، وإنما أرجو أن يكون التطبيق لسد الحاجة إلى المحبة والاهتمام تطبيقًا علميًا مثقفًا قائمًا على المعرفة والفهم التربوي لا على مجرد المشاعر المرتعشة؛ فإننا يمكننا أن نوصل معنى الاهتمام بالأبناء من دون تدليل مفسد لشخصياتهم، ولا ترقيق بالغ يُضعِف نفوسهم في مواجهة الحياة، وإن الأصل فيما أريد توضيحه هنا هو توصيل معنى العطاء للأبناء، ورفض معنى البخل عليهم سواءً بالمال أو بالوقت أو بالاهتمام، فنحن نعطيهم من المال نعم، ولكن نعلمهم كيف ينفقونه، وكيف يدخرون بعضه، وكيف أن هذا المال له أدوار أخرى كثيرة غير التي يرغبونها، وبالتالي فتحديد العطاء في المال يكون تحديدًا واعيًا لا يترك في نفس الأبناء معنى البخل عليهم، بل يترك معاني الشكر والامتنان للوالدَين، ويدعو إلى الإيثار والصدقة وغيرها، وقلّ مثل ذلك في تلبية شتى المطالب للأبناء، فلنشعرهم باهتمامنا لتلبية مطالبهم بشرط أن تكون نافعة، ومهمة، ومطلوبة، وأن يكون لها أولوية، وألا تكون بمجرد الشهوة النفسية للشراء أو الامتلاك أو لتقليد الآخرين، بل لمعنى صحيح نافع، وتقدير لإمكاناتنا، وتفهم لها، وعندئذٍ يجدوننا معهم نلبيها بقدر استطاعتنا، وههنا معنى هام أيضًا هو معنى الحزم، وأريد أن أقول: أن المربي الناجح هو الذي يستطيع أن يجمع بين العطاء والحزم، وبين الاهتمام والتقويم، وبين الحرية والمتابعة، ويجب أن يستخدم الحزم استخدامًا في موضعه؛ لئلا يتحول لضغط وترهيب وتخويف، بل الحزم يعني الدعوة للتوقف عند الخطوط الحمراء التي قد سبق وبيّنها المربي في بنائه للقيم والمبادئ.