معالم المنهج التربوي النبوي:د. محمد عبد الله الدويش.
1- الصبر وطول النفس:
يسهل على الإنسان أن يتعامل مع الآلة الصماء، ويستطيع الباحث أن يصبر ويكافح في دراسة هذه الظاهرة المادية أو تلك، لكن التعامل مع الإنسان له شأن آخر وبُعد آخر، ذلك أن الناس بشر لا يحكم تصرفاتهم ومواقفهم قانون مطرد، فتراه تارةً هنا وتارةً هناك، تارةً يرضى وتارةً يسخط.
ولهذا أجمع المختصون بأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة، وأن البحث فيها تكتنفه صعوبات عدة فكيف بالتعامل المباشر مع الإنسان والسعي لتقويمه وتوجيه سلوكه.
ومن يتأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى كيف صبر وعانى حتى ربّى هذا الجيل المبارك، كم فترة من الزمن قضاها صلى الله عليه وسلم؟ وكم هي المواقف التي واجهها -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك صبر واحتسب وكان طويل النفس بعيد النظر.
إن البشر مهما علا شأنهم فلن يصلوا إلى درجة العصمة، وهل أعلى شأنًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فهاهم يتنزل فيهم في بدر: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) وفي أحد (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) وفي حنين (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغنِ عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين).
وحين قسم -صلى الله عليه وسلم- غنائم حنين وجد بعض أصحابه في نفوسهم ما وجدوا، وكان -صلى الله عليه وسلم- يخطب فجاءت عير فتبعها الناس فنزل فيهم قرآن يتلى.
ومع ذلك يبقى هذا الجيل وهذا المجتمع هو القمة، وهو المثل الأعلى للناس في هذه الدنيا، فكيف بمن دونهم بل لا يسوغ أن يقارن بهم، إن ذلك يفرض على المربي أن يكون طويل النفس صابرًا عالي الهمة متفائلاً.
2- الخطاب الخاص:
وكما كان -صلى الله عليه وسلم- يوجه الخطاب لعامة أصحابه، فقد كان يعتني بالخطاب الخاص لفئات خاصة من أصحابه؛ فقد كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- حين يصلي العيد أن يتجه إلى النساء ويخطب فيهن، كما روى ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- قال خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عيد فصلّى ركعتين لم يصلِّ قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي القلب والخرص “رواه البخاري 1431 ومسلم 884”.
بل تجاوز الأمر مجرد استثمار اللقاءات العابرة؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النساء قلن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك، فواعدهن يومًا فلقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان مما قال: (ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابًا من النار). فقالت امرأة: واثنين فقال: (واثنين) “رواه البخاري 101 ومسلم 2633”.
وقد يكون الخصوص لقوم أو فئة دون غيرهم، كما فعل في غزوة حنين حين دعا الأنصار، وأكّد ألا يأتي غيرهم، وكما بايع بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئًا.
3- المشاركة العملية:
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصرًا على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يعيش مع أصحابه، ويشاركهم أعمالهم وهمومهم، فشاركهم في بناء المسجد، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم أربع عشرة ليلة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي -صلى الله عليه وسلم- معهم وهو يقول: (اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة) “رواه البخاري 428 ومسلم 524″، وشاركهم في حفر الخندق، فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب ويمر بنا فقال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة) “رواه البخاري 6414 ومسلم 1804″، وكان يشاركهم في الفزع للصوت، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: (لم تراعوا لم تراعوا) ثم قال: (وجدناه بحرًا أو قال إنه لبحر) “رواه البخاري 2908 ومسلم 2307”.
وأما مشاركته لهم في الجهاد، فقد خرج -صلى الله عليه وسلم- في (19) غزوة “رواه البخاري 3949 ومسلم 1254″، بل قال عن نفسه: (ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية) “رواه البخاري 36 ومسلم 1876″، وهي مشاركة لا تلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة.
إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيه أمر يجيده الجميع، لكن الدخول مع الناس في الميدان ومشاركتهم يرفع قيمة المربي لديهم، ويعلي شأنه، ويشعرون أنه واحد منهم، وذلك أيضًا يدفعهم لمزيد من البذل والهمة والحماس عكس أولئك الذين يدعون للعمل، ويربيهم بعيد عنهم، وقد عبر عن هذا المعنى ذاك الحداء الذي كان يردده أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا العمل المضلل
ثم إنه يشيع روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين المربي ومن يربيهم.
4- التربية بالأحداث:
من السهل أن نحدث الناس كثيرًا عن معاني عدة، وأن ننظر لجوانب متعددة، لكن ذلك وإن أثر يبقى أثره باهتًا محدودًا.
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فمع توجيهه لأصحابه في كل موطن، إلا أن تربيته كانت تتم من خلال الأحداث، فكان يضع الناس في الموقع والميدان، ويأتي التوجيه حينها.
يشكو إليه الحال أبو بكر -رضي الله عنه- وهما في الغار، فيقول صلى الله عليه وسلم: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، ويسأله رجل في الميدان والمعركة: أرأيت إن قتلت؟ فيجيبه إجابة تصل إلى شغاف قلبه فيتقدم حتى يستشهد، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: (في الجنة) فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل. “رواه البخاري 4046″، ويوصي عليًا -رضي الله عنه- بالدعوة ويذكره بفضلها متى؟ حين بعثه، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر: (لأعطين الراية غدًا رجلاً يفتح على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى فغدوا كلهم يرجوه فقال: (أين علي؟ فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه فقال أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم) “رواه البخاري 3009 ومسلم”.
أترى أن تلك التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم ستترك أثرها؟ إن مثل هذه التربية هي التي خرجت الجيل الجاد العملي، لم يكن ذلك الجيل يتربى على مجرد التوجيه الجاف البارد، إنما كان يعيش العلم والعمل معًا.
5- الاختيار والاصطفاء:
إن التربية كما أنها موجهة لكل أفراد الأمة أجمع مهما كان شأنهم، والدين خطاب للجميع صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً، إلا أن الدعوة تحتاج لمن يحملها ولمن يقوم بأعبائها، إنها تحتاج لفئة خاصة تختار بعناية وتربي بعناية؛ لذا كان هذا الأمر بارزًا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتربيته لأصحابه فثمة مواقف عدة في السيرة يتكرر فيها ذكر كبار أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى رأسهم أبو بكر وعمر مما يوحي أن هؤلاء كانوا يتلقون إعدادًا وتربية أخص من غيرهم، عن ابن عباس -رضي الله عنهم- قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيرًا ما كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كنت وأبو بكر وعمر وفعلت وأبو بكر وعمر وانطلقت وأبو بكر وعمر) فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب. “رواه البخاري 3677 ومسلم 2389″، وما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- حدثهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) “رواه البخاري 3675″، ومثله ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد) “رواه مسلم 2417″، ويحكي لنا أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن توجيه خاص بهم، حين بايعهم على أمر لم يعتد أن يبايع عليه سائر الناس، عن عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: (ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: (ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: (ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلامَ نبايعك؟ قال: (على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا، -وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئًا) فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه. “رواه مسلم 1403”.
وهذا الأمر لم يكن عامًا لأصحابه -رضوان الله عليهم- بل خاصًا بهؤلاء، فقد كان بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألونه ويعطيهم، ولم يكن يمنعهم، أو ينهاهم عن السؤال، ومن ذلك أنه كان لا يؤذن بالسؤال لخاصة أصحابه كما يؤذن لغيرهم، كما روى نواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال أقمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، قال فسألته عن البر والإثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) “رواه مسلم 2553”.
6- التدرج:
إن الجوانب التي تتطلب التربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع والتعدد والتنوع ما يجعل تحصيلها في وقت وجهد أمر عسير ومتعذر؛ لذا فإن التدرج كان معلمًا مهمًا من معالم التربية النبوية، فخوطب الناس ابتداء بالاعتقاد والتوحيد، ثم أُمروا بالفرائض، ثم سائر الأوامر.
وفي الجهاد أُمروا بكف اليد، ثم بقتال من قاتلهم، ثم بقتال من يلونهم من الكفار، ومثل ذلك التدرج في تحريم الخمر، وإباحة نكاح المتعة ثم تحريمها، وهكذا.
لكن يبقى جانب مهم مع الإيمان بمبدأ التدرج، ألا وهو أن ما نص الشرع على تحريمه لا يجوز أن نبيحه للناس، وما نص على وجوبه لا يجوز أن نسقطه عن الناس.
7- تربية القادة لا العبيد:
وثمة سؤال يفرض نفسه ويقفز إلى أذهاننا: هل نحن نعنى بتعليم الناس وتهيئتهم ليكونوا أهل علم يستنبطون، ويبدعون، ويبتكرون؟ أم أننا نربيهم على تلقي أقوال أساتذتهم بالتسليم دون مراجعة وربما دون فهم لمضمون القول.
هل نرى أن من أهدافنا في التعليم أن نربي ملكة التفكير والإبداع لدى طلابنا، وأن نعودهم على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وعلى الجمع بين ما يبدو متعارضًا؟ وهل من أهدافنا تربيتهم على تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع التي يرونها؟
إن المتأمل في واقع التعليم الذي نقدمه لأبنائنا ليلحظ أننا كثيرًا ما نستطرد في السرد العلمي المجرد، ونشعر بارتياح أكثر حين نقدم للطالب كمًا هائلاً من المعلومات، وهو الآخر -لماغرسنا لديه- يقيس مدى النجاح والإنجاز بقدر ما يسطره مما يسمعه من أستاذه، والتقويم والامتحان إنما هو على أساس ما حفظه الطالب من معلومات، واستطاع استدعاء ذلك وتذكره.
وشيء من ذلك حق ولا شك، لكن توجيه الجهد لهذا النوع وهذا النمط من التعليم، لا يعدو أن يخرج جيلاً يحفظ المسائل والمعارف -ثم ينساها بعد ذلك- أو يكون ظلاً لأستاذه وشيخه، ولأن تعلم الجائع صيد السمك خير من أن تعطيه ألف سمكة.
وقد مثل ذلك في الأعمال الدعوية التي نقوم بها، فهل نحن نربي الناس على أن يكونوا عاملين مبدعين مشاركين، أم نربيهم على مجرد الاتباع والتقليد لما عليه كبراؤهم؟ أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت تربيته لأصحابه لونًا آخر، ففي تربيته العلمية لهم خرج علماء وفقهاء، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يقتصر على مجرد إعطاء معلومات مجردة، وكشف الواقع آثار هذه التربية النبوية، ففي ميدان العلم واجهت أصحابه قضايا طارئة مستجدة لكنهم لم يقفوا أمامها حيارى فاستثمروا نتاج التربية العلمية التي تلقوها لذا اجتهدوا في اتخاذ السجون وجمع القرآن وجلد الشارب والخراج وغيرهم، وفي ميدان الجهاد وإدارة الدولة والدعوة قضوا في شهور على المرتدين بعد أن حسموا الموقف الشرعي من قضية الردة، ثم اتسعت الدولة، ووطئت أقدام أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بلاد المشرق حتى وصلوا أذربيجان وما وراء النهر وبلاد المغرب حتى وصلوا غرب أفريقيا، ودفن من دفن تحت أسوار القسطنطينية، ولو تربّى أولئك على غير هذه التربية لما صنعوا ما صنعوا، فأين المربون اليوم الذين يترك أحدهم الفراغ حين يمضي؟ أينهم من هذه التربية النبوية.
8- التوجيه الفردي والجماعي:
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين التربية والتوجيه الفردي من خلال الخطاب الشخصي المباشر، وبين التربية والتوجيه الجماعي، قال ابن مسعود رضي الله عنه: “علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التشهد كفي بين كفيه”، “رواه البخاري 831 ومسلم 40″، ومن ذلك ما ورد عن غير واحد من أصحابه: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك حديث معاذ رضي الله عنه: “كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال: (يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟، وقد كان هذا الحوار والتوجيه له شخصيًا، بينما نجد أنه -صلى الله عليه وسلم- في مواقف أخرى يوجه توجيهًا عامًا، كما في خطبه ولقاءاته وتوجيهاته لعامة أصحابه وهي أشهر من أن تورد وتحصر.
وهاهنا مأخذ مهم في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إذ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاه وناقشه لوحده، بينما نجده في موقف آخر شبيه بهذا الموقف يعالج الأمر أمام الناس، فحين سأل طائفة عن عبادته وتقالوها وقالوا ما قالوا صعد المنبر وخطب في الأمر، عن أنس -رضي الله عنه- أن نفرا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) “رواه مسلم 1401″، ومثل ذلك في قصة الذي قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فعن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- قال استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد يقال له ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر -قال سفيان أيضًا فصعد المنبر- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر) ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه (ألا هل بلغت) ثلاثًا”، “رواه البخاري 7174 ومسلم 1832”.
إذًا فهناك جوانب يمكن أن تطرح وتناقش بصورة فردية، ولا يسوغ أن تطرح بصفة عامة، ولو مع عدم الإشارة إلى صاحبها لأنها ربما كانت مشكلات فردية لا تعني غير صاحبها، بل قد يكون إشاعتها ضرره أكثر من نفعه، وهناك جوانب يجب أن تطرح بوضوح وبصورة عامة وتعالج وتناقش أمام الجميع، والمربي الناجح هو الذي يضع كل شيء موضعه.
9- التعويد على المشاركة والعمل:
اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء، فهو في المنزل يقدم له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه، فساهم ذلك في توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسؤولية.
وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة فلا بد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات، وقلّ مثل ذلك في كثير من المحاضن التربوية.
إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلا بد من تعويده من البداية على المشاركة، وتحمل المسؤولية: في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة، وفي المدرسة بأن يبذل جهدًا في التعلم.
وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم، وأن يسعوا إلى أن يتجاوزوا في برامجهم التي يقدمونها القوالب الجاهزة، وأن يدركوا أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسؤولية، وألا يبقوا كلاً على غيرهم في كل شيء، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها.
وحين نعود لسيرة المربي الأول سنرى نماذج من رعاية هذا الجانب، فهو -صلى الله عليه وسلم- يعلم الناس أن يتحملوا المسؤولية أجمع تجاه مجتمعهم، فليست المسؤولية لفرد أو فردين فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأسًا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم) “رواه البخاري (2686)”
ومن ذلك أيضًا استشارته -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في كثير من المواطن، بل لا تكاد تخلو غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك، وفي الاستشارة تعويد وتربية لهم، وفيها غرس للثقة، وفيها إشعار لهم بالمسؤولية، ولو عاش أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على خلاف ذلك، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم؟
وعلى المستوى الفردي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يولي أصحابه المهام، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم، فأرسل رسله للملوك، وبعث معاذًا إلى اليمن، وأمَّر أبا بكر على الحج، بل كان يؤمر الشباب مع وجود غيرهم، فأمر أسامة على سرية إلى الحرقات من جهينة.“رواه البخاري (4269) ومسلم (96)”، ثم أمره على جيش يغزو الروم، “رواه البخاري (4469) ومسلم (2426)”، وولى عثمان بن أبي العاص إمامة قومه “رواه مسلم (468)”، وهكذا فالسيرة تزخر بهذه المواقف.
فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا -بإذن الله- جيل جاد يحمل المسؤولية ويعطيها قدرها.