آية حاتم إسليم.الدنيا إن قلّت أو كثرت ليست مقياسًا للسعادةِ، ولا مدخلاً للنعيمِ؛ إنما هي مقياسٌ نِسبيٌّ؛ فهناك مَن كثُرَ مالُه، وكثُرَ همُّه وغمُّه وبُخلُه!، والبعضُ هادئُ البالِ مطمئنُ الفؤادِ، لديه ما يكفيهِ لدفعِ حاجاتِ الدنيا؛ فلا يُذِلُّ وَجهَه لأحدٍ، ولا يشكو من قلّةٍ أو حاجةٍ.
وفي حياتِنا نرى الأمثلةَ محسوسةً، والشواهدَ قائمةً، وأذكُرُ شخصًا يملكُ من الثرواتِ ما تكفي زكاةُ مالِه لألوفِ الأُسرِ المحتاجةِ، ويشكو آلامَه من حينٍ لآخَرَ من كَدرِ الدنيا، وقِلّةِ سعادتِه، وكثرةِ همومِه ومشاغلِه!، ولا يَعلمُ كم من أُسرةٍ ينقصُها بعضُ الدُرَيهِماتِ لتعيشَ حياةً بسيطةً، وتقضي بها أبسطَ احتياجاتِها.
كم من والدٍ تمنّى أن يكونَ معه شيقلاً واحدًا؛ ليعطيه مصروفًا لابنِه؛ ليُدخِلَ السرورَ على قلبِه أمام زملائه في المدرسةِ!، وكم من أبٍ تمنّى أن يكونَ معه دينارٌ واحدٌ؛ ليشتريَ عُلبةَ حليبٍ لابنِه المولودِ!، وكم من زوجٍ لا يمتلكُ ثمنَ علاجٍ له أو لزوجتِه.
ورغمَ ما يتمنّى الإنسانُ ولم يدرك ما يحتاجُه؛ إلّا أنّ أصحابَ الدخلِ البسيطِ ترى الابتسامةَ الدائمةَ على محياهُم وعلى وجوهِهم، ويغمرُ الرضا تفاصيلَ حياتِهم دونَ تأفُفٍ أو تذمُرٍ، ويعيشونَ على قاعدةِ (من يتقِ اللهَ فهو حَسْبُه) فَهِمَ وعدَ اللهِ للمتقينَ من عبادِه؛ أن يكونَ وكيلَهم في شتّى تفاصيلِ حياتِهم.
وأمّا صاحبُ المالِ فيبقَى يجمعُ المالَ، وينسَى أنّ عُمرَه يمرُّ بلا توقُفٍ، وعندما يريدُ أن يَسعدَ بمالِه؛ يأتيهِ الموتُ بَغتةً؛ فلا هو هَنِئ بحياتِه، ولا استعدَّ لآخِرتِه، ولا سَعِدَ بأموالِه.
فعلينا أن نشعرَ بنِعمِ اللهِ علينا، ونشكرَ اللهَ عليها قولاً وفعلاً، ولا يجبُ أن نضعفَ ونجحدَ نِعمَ اللهِ علينا لِنَقصٍ وُجدَ في حياتِنا؛ فكلُّ أمرِ المؤمنِ خيرٌ له، فلا أحدَ يمتلكُ كلَّ مقوّماتِ الحياةِ الكاملةِ، والابتلاءُ تعرّضَ له الأنبياءُ والرُسلُ، فكيف بنا نحن!(ويأتي الابتلاءُ على قدر الإيمانِ، وإذا اكتملتْ كلُّ الأماني، وتحقّقتْ كلّ الأحلامِ؛ فكيف يكونُ اسمُها دُنيا)، وماذا تبَقَّى للآخِرةِ؟
وفي واقعِنا هذا أصبحنا نرقِعَ دُنيانا بتمزيقِ دينِنا!، يقولُ بعضُ الحكماءِ: “عَجِبتُ لِمن يحزنُ على نقصانِ مالِه، ولا يحزنُ على نقصانِ عُمرِه، وعَجبتُ لِمن الدنيا مُدبِرةٌ عنه، والآخِرةُ مُقبلةٌ عليه، كيف يشتغلُ بالمُدبِرةِ، ويُعرِضُ عن المُقبِلةِ! ومن أرادَ الدنيا أضرَّ بالآخِرةِ، ومن أرادَ الآخِرةَ أضرَّ بالدنيا، يا قومِ فأضِرّوا بالفاني للباقي”.
ويُحكَى أنّ حسّان بن أبي سنان مرَّ بغُرفةٍ فقال: متى بُنيتْ هذه؟ ثم أقبلَ على نفسِه فقال: تسألينَ عمّا لا يَعنيكِ؟ لأعاقِبنّكِ بصومِ سنةٍ!، فصامَها.كم سنصومُ من السنينَ لو حسَبنا حسابَه، وسلكْنا طريقَه! والرضا هو السياجُ الذي يحمي المُسلمَ من تقلُّباتِ الزمنِ، وهو البستانُ الوارفُ الظلالُ الذي يأوي إليه المؤمنُ من هجيرِ الحياةِ، والإنسانُ بدونِ الرضا يقعُ فريسةً لليأسِ، وتتناوشُه الهمومُ والغمومُ من كلِّ حدَبٍ وصوبٍ.
ومن ثمارِ القناعةِ الجليلةِ: سلامةُ القلبِ من داءِ الحسدِ، والحقدِ، والأنانيةِ، وحبِّ الذاتِ، ومَن راقبَ الناسَ مات همًّا وغمًّا، -كما قيلَ- وتلك أمراضٌ تجعلُ عيشَ صاحبِها نكِدًا، وحياتَه ندَمًا؛ فلا تَجدُ المسلمَ حاسدًا؛ لأنه يَعلمُ أنّ الرزقَ مقسومٌ، والأجلَ محتومٌ.
إنّ القناعةَ تَعني أن يرضَى العبدُ بما قسَمَه اللهُ وأعطاهُ من النِعَمِ، من صحةٍ وعافيةٍ، ومالٍ، ومسكنٍ، وزوجةٍ، وأن يرَى أنه أفضلُ من جميعِ خَلْقِ اللهِ، وأن يلهجَ لسانُه دائمًا بالذِكرِ والشكرِ للمُنعِم، فيقولُ: (الحمدُ للهِ الذي فضَّلني على كثيرٍ من عبادِه المؤمنين)، وألا يَسخطَ من المَقدورِ، ويزدريَ نعمةَ اللهِ ومِنَّتَه عليه، ويَستصغرَها، أو أن يرى أنه يستحقُ أكثرَ من ذلك.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وراقبوهُ في السرِّ والنجوى، واحمَدوهُ على نِعَمِه وآلائه، واشكروهُ على أفضالِه ومِنَنِه، وتمسَّكوا بهَدْي نبيِّكم، واهتدوا بهديه، وتمسّكوا من الإسلامِ بالعُروةِ الوُثقَى، واعلَموا أنّ اللهَ قسّمَ الأرزاقَ والأقواتَ بينَ الخلائقِ.