شهر الدعاء:أيمن الشعبان.الحمد لله الذي خصنا بشهر الطاعات، وأجزل لنا فيه المثوبة ورفع الدرجات، وَعَدَ من صامه إيمانًا واحتسابًا بتكفير الذنوب والسيئات، وشرّف أوقاته على سائر الأوقات، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير البريات، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد، وبعد:
من معاني هذا الشهر العظيم وخصائصه، أنه شهر الدعاء، حيث وردت آية الدعاء في ثنايا آيات الصيام، بل وردت بطريقة السؤال والجواب، وفي ذلك تنبيه للأذهان وإشارة إلى الاهتمام بها، ولفت للأنظار إليها، مع أنه سبحانه في جميع الآيات التي فيها سؤال للنبي عليه الصلاة والسلام جاءت بصيغة (يسألونك)، أما الآية التي معنا قال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ث فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) البقرة: 186ّ.
الآية تشير لأهمية عبادة الدعاء، وتزداد قيمتها والاهتمام بها في شهر رمضان المبارك، بدليل ذكرها ضمن آيات الصيام، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثُ دَعَواتٍ مُستجاباتٍ: دعوةُ الصائِمِ، ودعوةُ المظلُومِ، ودعوةُ المسافِرِ) “صحيح الجامع [3030]”.
فالدعاء عبادةٌ؛ لأنَّه تذلُّل وخُضوع وافتقار والتجاء إلى الله تبارك وتعالى؛ فهو حبلٌ متين وكنز ثمين، وعروةٌ وُثقَى وصِلةٌ ربانيَّة، وسلاح من لا سلاح له.
كان يحيى بن معاذ الرازي يقول: “إلهي أسألك تذللًا، فأعطني تفضلًا”.
وقد جعل عليه الصلاة والسلام الدعاء هو العبادة كلها إذ يقول: (أفضلُ العبادةِ الدُّعاءُ) “السلسلة الصحيحة [1579]”، ويقول عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة) “صحيح الجامع [3407]”.
وقد حذّر عليه الصلاة والسلام من إهمال الدعاء والغفلة عنه، فيقول: (أعجَزُ النَّاسِ من عجزَ عَنِ الدُّعاءِ، وأبخَلُ النَّاسِ من بخِلَ بالسَّلامِ) “صحيح الجامع [1044]”.
في شهر رمضان يكون هنالك إقبال من العبد على الله، وتزداد عبادته سيما الصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه في حالة السجود، وقد حث عليه الصلاة والسلام استثمار واستغلال ذلك بكثرة الدعاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء) “صحيح مسلم [482]”.
الله سبحانه وتعالى يحب من العبد كثرة السؤال والدعاء بل والإلحاح بذلك، والله يرضى عن العبد كثير الدعاء، بل يغضب على من يزهد في الدعاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنه من لم يسألِ اللهَ تعالى يغضبْ عليه) “صحيح الجامع [2418]”، وفي رواية: (مَنْ لمْ يدعُ اللهَ يَغْضَبْ عليهِ) “السلسلة الصحيحة [2654]”.
وحتى نتميز في هذا الشهر بهذه العبادة الجليلة، ينبغي استثمار أوقاته بالدعاء، وانتقاء مواطن الإجابة، مع أهمية استحضار القلب والانكسار بين يدي الله، والأخذ بأسباب استجابة الدعاء، وعدم الاعتداء كما هو حال الكثير في هذا الشهر.
قال عليه الصلاة والسلام: (سيكونُ قومٌ يعتدونَ فِي الدعاءِ) “صحيح الجامع [3671]”.
وحتى تتميز ينبغي استحضار أنك كلما استكثرت من الدعاء فإنك تزداد كرمًا عند الله، يقول عليه الصلاة والسلام: (ليس شيءٌ أكرمَ على اللهِ تعالى من الدعاءِ) “صحيح الجامع [5392]”.
ولتحقيق تميز وارتقاء في تلك العبادة، ينبغي تعاهد قلبك ونفسك من حيث اليقين بما تدعو به، وأن تختلي بالله في أوقات يسهو فيها الناس ويلعبون وهم غافلون عن تلك الطاعة، وأنسب موسم وأفضل وقت لتأهيل النفس وترويضها على ذلك هذا الشهر الكريم فتأمل: يقول عليه الصلاة والسلام: (ادْعُوا اللهَ وأنتمْ مُوقِنُونَ بالإجابةِ، واعلمُوا أنّ اللهَ لا يَستجيبُ دُعاءً من قلْبٍ غافِلٍ لَاهٍ) “صحيح الجامع [245]”.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَن سَرَّهُ أن يستجيبَ اللهُ له عندَ الشَّدائدِ والكُرَبِ، فلْيُكثِرِ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ) “صحيح الجامع [6290]”.
قيل للإمام أحمد: كم بيننا وبين عرش الرحمن؟ قال: “دعوة صادقة من قلب صادق”.
لاستجابة الدعاء أسباب، كما أن هنالك العديد من الموانع من أهمها، أكل الحرام، ففي صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكَر (الرجل يُطِيلُ السَّفر، أشعث أغبر يمدُّ يدَه إلى السَّماء: يا رب، يا رب، ومطعَمُه حَرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، ومَلبَسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحَرام، فأنَّى يُستَجاب لذلك(!) “صحيح مسلم [1015]”.
عن وهب بن منبه قال: “مثل الذي يدعو بغير عمل، مثل الذي يرمي بغير وتر”.
وعنه قال: “من سَرَّه أن يستجيب الله دعوته فليطب طعمته”.
ويقول أبو ذر رضي الله عنه: “يكفي من الدعاء مع البر، كما يكفي الطعام من الملح”.
وترك الدعاء من التكبر ومدعاة لغضب الله عز وجل إذ يقول: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) الفرقان: 77ّ.
وصاحب الهمة والموفق من وفقه الله للدعاء دون النظر والتدقيق في الإجابة، فالمطلوب منك الدعاء والله سبحانه يتولى الإجابة، يقول عمر رضي الله عنه: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه.
ومن النماذج التي تبين مدى تأثير الدعاء وتحقيق مراد صاحبه إذا حقق أسبابه وموجباته، قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين في الجنة وكان مجاب الدعوة، يقول جابر بن سمرة: شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاَةَ العِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلا يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ” “صحيح البخاري [755]”.
وقال ابنٌ ليحيى بن خالد البرمكي -وهم في السجن والقيود-: يا أبتِ بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال!
فقال: يا بني دعوة مظلوم سَرَتْ بليل ونحن عنها غافلون، ولم يغفل الله عنها، ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غَدَوا في نعمةٍ *** زمنًا والدهرُ ريانُ غَدَق
سَكَتَ الدهرُ زمانا عنهمُ *** ثم أبكاهم دمًا حين نَطَق
ومع ذلك لم يكن موغلًا في الظلم، ولديه من الحسنات والأعمال الصالحة الشيء الكثير، كما يذكر عن سفيان بن عيينة، وَقَدْ كَانَ يَحْيَى بن خالد هذا يُجْرِي عَلَى سُفْيَانَ كُلَّ شَهْرٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ سُفْيَانُ يَدْعُو لَهُ فِي سجوده يقول: اللهم إنه قد كفاني المؤنة وفرغني للعبادة فَاكْفِهِ أَمْرَ آخِرَتِهِ.
فَلَمَّا مَاتَ يَحْيَى رَآهُ بعض أصحابه فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِدُعَاءِ سُفْيَانَ “البداية والنهاية”.
وللدعاء ثمار عديدة ومنافع فريدة، وتأثيره عجيب وسهمه سديد، في كشف الضر ودفع البلاء وجلب النفع، بشرط الاستحضار وعدم الاعتداء وتحقيق شروط الاستجابة.