هذا أَرْفَقُ بِالنَّاسِ مفهوم يحتاجه المفتي والداعية:أحمد عبد المجيد مكي.بسم الله الرحمن الرحيم
الرِّفْقُ هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضدّ العنف والحدّة والفظاظة والقسوة والجفاء والتعسير، وهو سبب كل خير؛ لأن به تَسْهُلُ الأمور، ويَحْصُلُ المطلوب بأيسر طريق وأسلم أسلوب، وله فوائد جليلة في الفقه والدعوة؛ فهو يَجْمَعُ القلوب، ويجذب الناس إلى دين الله، ويرغبهم فيه، وينمّي روح المحبّة والتّعاون بينهم، وينشئ مجتمعًا سالمًا من الغلّ والعنف، ويُثْمِرُ محبّة الله ومحبّة النّاس، كما أَنَّه دليل على فقه العبد، وحكمته، وصلاحه، وحسن خلقه.
مِنْ أَجْلِ هذه الفوائد وغيرها أرشد الله نبيه إِليه فقال له: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران: 159، أي: لو كنت قاسيًا جافًا ما تَأَلَّفَت حولك القلوب، ولا تجمعت حولك المشاعر، وإذا كان مِثْلُ هذا الكلام يوجه للرسول المعصوم الذي كان قلبه وحياته مع الناس، فكيف بغيره!
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق وبالغ فيه فقال: (مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ)، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الرفق بوابة كل خير فقال: (مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ)، كما بَيَّنَ أَنَّهُ زِينَةُ العمل فقال: (إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ).
ومِنْ أبلغ الزواجر عن الغلظة مع الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم دعاء النبي الكريم: (اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فأشقق عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فأرفق بِهِ)، وهذا دعاء مجاب كما أَنَّه حقيقة لا يشك فيه عاقل ولا يرتاب، فشواهد الأحوال التي تدل على هذا تفوق الحصر، إِذْ قلما ترى صاحب ولاية خاصم الرفق وعامل الناس بغلظة وفظاظة إِلا كان آخر أمره الوبال وانعكاس الأحوال.
أَلَا ما أحوج الدعاة والمفتين اليوم لاستحضار هذه المعاني والفوائد اقتداءً بنصوص الوحيَين، واهتداءً بما كان عليه السلف الصالح، فكثيرًا ما رجَّحوا رأيًا على آخر بقولهم: هذا أرفق بالناس، حتى وإن كان ذلك يخالف مذاهب أئمتهم.
وثَمَّة أمثلة كثيرة يمكن الاستشهاد بها في هذا الشأن، غير إني أكتفي ببعض النقول الصريحة في عصور مختلفة:
– فهذا هو مالك ابن أنس إِمَامُ دار الهجرة والمتوفى سنة 1798 يذكر في كتابه “الْمُدَوَّنَة 1/204” عن صلاة المريض: إذا كان أرفق به أن يجمع بين الصلوات جمع، وإنما ذلك لصاحب البطن أو ما أشبهه من المرض أو صاحب العلة الشديدة التي تضر به أن يصلي في وقت كل صلاة، ويكون هذا أرفق به، فهو أولى بالرخصة، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء في المطر للرفق بالناس، فالمريض أولى بالرفق؛ لما يخاف عليه من غير وجه.
– أَما الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ الفقيه الحنفي المشهور والمتوفى سنة 483 ه. في كتابه “الْمَبْسُوط 11/25” فقد رجَّح الأيسر في مسائل ثُمَّ عَلَّلَ ذلك بِقَوْلِهِ: هذا أرفق بالناس، وما كان أرفق بالناس فالأخذ به أولى؛ لأن الحرج مدفوع.
– وفي “تُحْفَة الفقهاء 1/86” للفقيه الحنفي أبي بكر علاء الدين السَّمَرْقَنْدِيُّ والمتوفى نحو 540 ه. في مسألة المسح على الجوربين يقول: إِن كَانَا ثخينيين قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يجوز، وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه رَجَعَ إِلَى قَوْلهمَا فِي آخر عمره، وَمَا قَالَاه أرْفق بِالنَّاسِ.
– وفي المرجع ذاته 1/156 يقول عن الصلاة قاعدًا في السفينة: وَلَو صلى فِي السَّفِينَة قَائِمًا بركوع وَسُجُود مُتَوَجهًا إِلَى الْقبْلَة حَيْثُمَا دارت السَّفِينَة فَإِنَّهُ يجوز؛ لِأَن السَّفِينَة بِمَنْزِلَة الأَرْض، أما إِذا كَانَ قَادِرًا على الْقيام فصلى قَاعِدًا بركوع وَسُجُود فَإِنَّهُ يجوز عِنْد أبي حنيفَة، وَقَول أبي حنيفَة أرْفق بِالنَّاسِ؛ لِأَن الْغَالِب فِي السَّفِينَة دوران الرَّأْس.
– أَما الْإِمَامُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ والمتوفى سنة 620 ه. فقد وَجَّهَ نهي النبي عن عَسْبِ الْفَحْلِ توجيهًا رائعًا في كتابه “المغني 4/160” فبعد أشار إلى أَنَّ الْإِمَام أَحْمَد أَخَذَ بعموم الحديث، فمنع أخذ صاحب الفحل أجرة أو هدية أو إكرامًا رأى بِنَظَرِهِ الفاحص أَنَّ في هذا الرأي تشديدًا على أهل زمانه، فأفتى هو بجواز أخذ الهدية، وعَلَّلَ رأيه بقوله: والذي ذكرناه أرفق بالناس، وأوفق للقياس، وكلام أحمد يُحْمَلُ على الورع، لا على التحريم، ولا يغيب عن ذهن القارئ أَنَّ عَسْب الْفَحْلِ، هو ماؤه، وأَنَّ الفحل: هو الذكر من كل حيوان: فرسًا أو جملاً أو تيسًا أو غير ذلك.
– وفي شرح مختصر خَلِيل لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْخَرَشِيِّ المالكي والمتوفى سنة 1101 هـ، وهو يتحدث عن وقت خروج الْإِمَام لصلاة العيد، يقول في 2/102 ما نَصُّهُ: وَأَمَّا الْإِمَامُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَ خُرُوجَهُ عَنْ خُرُوجِ الْمَأْمُومِينَ إذَا كَانَ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا مِنْ الْمُصَلَّى، فَيُؤَخِّرُ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَتَحِلَّ النَّافِلَةُ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ قَلِيلًا إنْ كَانَ ذَلِكَ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ.
– وما زالت مسيرة الرفق بالناس تَغُذُّ سَّيْرَها إلى الله، كيف لا والرفق من ميراث النبوة، ومَنْ أَحَقُّ بهذا الميراث غير العلماء والدعاة والمفتين!! فها هو العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والمتوفى سنة 1420 ه. يتحدث في مجموع فتاواه 11/322 عن عدد ركعات القيام، ويَرَى أَنَّ الأفضل في صلاة الليل في رمضان وفي غيره إحدى عشرة، وهذا العدد أرفق بالناس وأعون للإمام على الخشوع في ركوعه وسجوده وفي قراءته، وفي ترتيل القراءة وتدبرها، وعدم العجلة في كل شيء.
ولَمَّا كانت الْعِلَّةُ التي ذكرها الشيخ قد لا تحقق أحيانًا إِنْ الْتَزَمَ الْإِمَامُ العدد المذكور، بل قد تتحقق -هي وغيرها- بغير هذا العدد كما في الحرمين الشريفين؛ لذا لَمْ يُضَيِّقُ -رحمه الله- على من زاد على ذلك فقال: وإِنْ صلى بثلاث وعشرين كما فعل ذلك عمر والصحابة -رضي الله عنهم- في بعض الليالي من رمضان فلا بأس، فالأمر واسع.
وفي الموضع ذاته يتحدث -رحمه الله- عن التسليم بين الركعات فيقول: والأفضل أن يُسَلِّم مِنْ كل اثنتين ويوتر بواحدة، هذا هو الأفضل وهو الأرفق بالناس أيضًا، فبعض الناس قد يكون له حاجات يحب أن يذهب بعد ركعتين أو بعد تسليمتين أو بعد ثلاث تسليمات، فالأفضل والأولى بالإمام أن يصلي اثنتين اثنتين ولا يسرد خمسًا أو سبعًا.
– وعلى النهج ذاته سار الفقيه الهُمَام العلامة بن عثيمين والمتوفى سنة 1421 هـ، فيتحدث في مجموع فتاواه 12/360 عن جواز الطواف في الحج على غير وضوء وما أحوجنا إلى هذا الفقه في هذا الزمان فيقول رحمه الله: “يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الطواف على طهارة أكمل وأفضل، لكنها ليست بواجبة، ولا شك أن كلام شيخ الإسلام في الوقت الحاضر في أيام الزحام هو الأنسب، وهذا القول أرفق بالناس؛ لأنه لا دليل على أن الطواف لا بد فيه من الوضوء.
وفي سؤال له عن الوسواس: هل يبطل الصلاة؟ فأجاب: الوسواس لا تبطل الصلاة به، وهذا القول أرفق بالناس، وأقرب إلى ما تقتضيه الشريعة الإسلامية في اليسر والتسهيل؛ لأننا لو قلنا ببطلان الصلاة في حال غفلة الإنسان، وعدم حضور قلبه؛ لبطلت صلاة كثير من الناس.
– وفي الموسوعة الفقهية الكويتية 40/362 في حكم نظَر غير المسلمة إِلَى الْمُسْلِمَةِ: عَلَّلَ المجيزون اختيارهم بأنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مُنِعَ به الرجال مِنَ النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ غير موجود في النَّظَرِ بَيْنَ النِّسَاءِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الدِّينُ أَم اختلف، وَلأِنَّ هَذَا الْقَوْل أَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَيَرْفَعُ حَرَجًا عنهم، إِذْ لا يكاد يُمْكِنُ احتجاب الْمُسْلِمَاتِ عن الذِّمِّيَّاتِ.
مِنْ خلال هذه النصوص والنماذج، وهي غيض من فيض، يتضح لنا -بما لا يدع مجالاً للشك- أَنَّ الرفق في الدعوة والفتوى هو منهاج القرآن والسنة في هداية الخلق ودلالتهم على طريق الله، وأَنَّه مسلك إسلامي أصيل سلكه الدعاة والمفتون وما زالوا.
ومِمَّا يجب لفت الأنظار إليه أَنَّ الرفق لا يعني التراخي أو التباطؤ في الأخذ بأحكام الشريعة، أو التسيب أو الفوضى أو التساهل المذموم، أو الترخص المفضى إِلى الانحلال من ربقة الدين بل لا بد أَنْ يكون جاريًا على أصول الشريعة محققًا لمقاصدها.
اللهم اجعلنا حكماء رفقاء، وانزع من قلوبنا الغلظة والفظاظة، آمين.