أسرار الصيام.

أسرار الصيام:
ضيف الحوار: الداعية هبة فارس.
أجرت الحوار: أمينة سعيد.

إن المتأمل في أركان هذا الدين يجد أسرارًا عظيمة، وحكمًا قويمة، وإعجازًا مبهرًا؛ فالله -سبحانه وتعالى- لم يخلق شيئًا عبثًا، ولم يأمر بعبادته إلا لحكمة فقد شرع الله لعباده صوم رمضان الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو بمثابة امتحان للإنسان للامتناع عما يحب، والإمساك عما يرغب، وذلك بالصيام عن المأكل والمشرب، وقبل ذلك صيام النفس، وتهذيب الروح، وإمساك الجوارح؛ فيعيش المسلم شهرًا كاملاً يزكي فيه نفسه، ويهذِّب روحه، ويصقل مشاعره، ويعرف مقدار نعم الله عليه، والصوم هو التعبد لله تعالى بالإمساك بالنية عن الأكل، والشرب، وسائر المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وبهذا التعريف بدأت الأستاذة هبة فارس الداعية في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في فلسطين حديثها عن أسرار الصيام الإسلامي مؤكدةً أن الصيام هو أحد أهم الشعائر الإسلامية، فرضه الله -جل جلاله- على الأمة الإسلامية مرة كل عام، في شهر رمضان المبارك الذي أُنزل فيه القرآن، وهو سنة ونافلة في باقي العام بأوقاتٍ مستحبة كصيام الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وغيرها من الأيام الفضيلة التي يُسن فيها الصيام.
وتابعت هبة فارس حديثها مع موقع “دعوتها” مبينةً أن الله -سبحانه وتعالى- لم يفرض الصيام على الأمة الإسلامية فقط بل فرضه على الأمم السابقة كما جاء في محكم التنزيل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 183، وأشارت إلى أن الصيام كان مفروضًا على الأمم السابقة لكن بكيفية مختلفة، بل إن الأمم القديمة مارست الصيام -بمبدئه الامتناع عن الطعام- باعتباره عملاً من الأعمال الحسنة كالفرس، واليونانيين، والمصريين القدامى.
وذكرت هبة فارس مثالاً بأن فيثاغورث الرياضي كان مقتنعًا بأن الصوم يساعد على العمليات الفكرية، كما ثبت أن بعض الفلاسفة من اليونانيين القدامى مارسوا الصيام عدة أيام متواصلة خلال العام، وكانوا يعتبرون الصيام خلال فترات معينة أحسن طريقة لتعليم النفس، وتهذيبها.
وأضافت أ. هبة أنه يوجد في الطب الحديث ما يُسمى ب”الصيام الطبي أو التجويع والحمية الطبية”، وهو نوع من أنواع العلاج يفرضه الطبيب على المرضى بطريقة معينة، بحيث يمتنع المريض امتناعًا جزئيًا أو كليًا عن الطعام والشراب لفترة يحددها الطبيب كلٌ حسب مرضه، ويضع هو شروطها.
وتابعت أما الصيام الإسلامي فقد حدده، وضبط شروطه رب العزة -جل جلاله- مؤكدةً أنه من باب اليقين بشرعنا الحنيف -قرآن وسنة- يُحتم علينا التسليم الكامل بأن شروط الصيام الإسلامي، وطريقته هي الأمثل والأنفع للإنسان، كيف لا؟ وقد فرضه خالق هذا الإنسان ومبدعه، وهو الأعلم بما يصلح له.
وكشفت عن الحكم العظيمة للصيام الإسلامي، فهو يجعل المسلم يزداد يقينًا بالشرع الحنيف، ويزداد التزامه وحبه للامتثال لأوامر الله سبحانه، مشيرةً إلى أن هذا لا يتنافى مع مبدأ الاستسلام للأمر الإلهي، وقالت: مبدؤُنا أننا نمتثل طالما أنه أمر من عند الله تعالى، فإذا علمنا الحكمة؛ فبها ونعمت، وإن لم نعلمها التزمنا وامتثلنا لأمر خالقنا، لكن لا ضير في محاولة فهم الحكم والفوائد العظيمة من وراء الأحكام الشرعية عمومًا، والصيام على وجه الخصوص، شعارنا في ذلك قول الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام: (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ …) البقرة: 260، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) البقرة: 183).
وأكدت أ. هبة أن المتأمل بالتعاليم الإسلامية الخاصة بهذه العبادة الرائعة، وكذلك التعريف الاصطلاحي للصيام الإسلامي يجد الكثير من النصائح الثمينة التي لو راعاها المؤمن وعمل بها لحقق عظيم الأجر والفائدة التي تعود على نفسه، وجسده، وسلوكه، وجميع مناحي حياته.
في ذات الإطار أشارت إلى القواعد والشروط الهامة للصيام الإسلامي وهي النية، والامتناع عن الطعام والشراب معًا، أما مدة الصيام وهي مقترنة بطلوع الشمس وغروبها.
هذا وأوضحت الداعية هبة فارس أن معرفة أهمية شرط أن يكون الامتناع عن الطعام والشراب معًا وهو أحد أسرار الصيام الإسلامي، منوهةً إلى أنه لا بد أن نلجأ إلى الطب لمعرفة أهمية هذا الشرط حيث يشكل الماء حوالي (65-70%) من وزن الجسم للبالغين، وينقسم قسمين رئيسين: قسم داخل الخلايا، وقسم خارجها بين الخلايا: في الأنسجة والأوعية الدموية والعصارات الهضمية وغير ذلك، وبين القسمين توازن دقيق، والتغير في تركيزات الأملاح -وخصوصًا الصوديوم الذي يتركز وجوده في السائل خارج الخلايا- ينبه أو يثبط عمليتين حيويتين داخل الجسم، وهما: آلية إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول(ADH)، وآلية الإحساس بالعطش.
وتابعت إن تناول الماء أثناء الامتناع عن الطعام -في الصيام- يؤدي إلى تخفيف التناضح (osmolarity) في السائل خارج الخلايا، وهذا بدوره يؤدي إلى تثبيط إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول؛ فيزداد الماء الخارج من الجسم في البول مع ما يصحبه من الصوديوم وبعض الأملاح الأخرى، وفي هذا تهديد لحياة الإنسان، ولذلك كان الامتناع عن شرب الماء في نهار رمضان؛ للمحافظة على الأملاح والعناصر الهامة خاصة أننا لا نستطيع تعويض هذه العناصر بسبب امتناعنا عن تناول الطعام أثناء الصيام.
وأكدت أن مدة الصيام محددة غير متروكة لاجتهاد المجتهدين؛ وإنما مرتبطة بشيء ثابت ألا وهو وقت طلوع وغروب الشمس، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكد على الالتزام بهذه المدة بقوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من أخلاق النبوة تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمين على الشمال في الصلاة)، موضحةً أن في هذا بيان واضح لأهمية تأخير السحور وتعجيل الفطور، وتأكيد على الالتزام بمدة الصيام، بل إن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) أمرٌ نبوي واضح للمؤمن بالسحور؛ فلا يصوم المسلم على فطور الأمس مثلاً، أو يأكل وينام، مبينةً أنه كأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أراد أن نحصر الصيام والامتناع عن الطعام وسائر المفطرات بالمدة الشرعية دون زيادة سواء كانت هذه الزيادة من خلال تأخير الإفطار أو تقديم التسحر أو عدم السحور أساسًا.
ووضحت أن هناك الكثير من الحكم من فريضة الصوم مركزةً خلال حديثها على أهمية ذلك لجسم الصائم، وذلك من خلال فهم مراحل التمثيل الغذائي في جسم الإنسان، حيث تبدأ بمرحلة الامتصاص وتتراوح من (3-5) ساعات تبعًا لكمية ومحتويات الوجبة الغذائية المتناولة في السحور حيث يرتفع مستوى الجلوكوز والدهون والأحماض الأمينية في الدم، ويكون التأثير الكلي لوجبة الغذاء -في السحور- هو تقديم مخزون للجسم من الكربوهيدرات في الكبد، والعضلات، ومخزون من الدهن (ثلاثي الجليسرول) في النسيج الشحمي، والكبد، واستخدام الأحماض الأمينية في تصنيع البروتين في كل أنسجة الجسم، وخاصة بالكبد، وتقديم الأحماض الدهنية الأساسية والفيتامينات والمعادن، والتي لا يمكن للجسم أن يصنعها بداخله، وتتوقف عليها عمليات الاستقلاب الأساسية.
هذا وتأتي بعدها فترة ما بعد الامتصاص: تبدأ هذه المرحلة بعد تناول وجبة السحور بحوالي (4-6) ساعات بعدما تمتص جميع محتويات الأمعاء الدقيقة وتتراوح فترة ما بعد الامتصاص من (6-12) ساعة من امتصاص الطعام، وقد تمتد حتى (40) ساعة، وبما أن الصيام الإسلامي يبدأ من بداية مرحلة الامتصاص وعلى اعتبار أن الصوم في المناطق المدارية حوالي (15) ساعة، فإن عدد ساعات الصيام الإسلامي لن تتعدى غالبًا فترة ما بعد الامتصاص، بمعنى أن الجسم يكون بأمان طيلة فترة المرحلتين؛ لكن بعد ذلك يبدأ الخطر على جسم الإنسان.
وأكدت أ. هبة فارس أن فترة الصيام مع الالتزام بتعاليم ديننا الحنيف حول التسحر وتأخير السحور وتعجيل الفطور، هي الفترة المثالية لامتناع الإنسان عن الطعام والشراب، دون الشعور بالتعب أو حدوث خلل بمخزون الجسم، إلى جانب تحقيق أقصى استفادة ومنفعة صحية من وراء الصيام.
وأشارت إلى النصيحة النبوية الثمينة في قوله صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَ سُحورُ المؤمنِ التمرُ) فالتمر من العناصر الغذائية التي ينصح بها الأطباء، خصوصًا للأشخاص الذين يشعرون بالدوخة، والتراخي، وزوغان البصر؛ لما يحتويه التمر من قيمة غذائية متكاملة، فكل 100 جرام من التمر يحتوي على: مواد سكرية 70.6%،  مواد دهنية 2.5%، مواد بروتينية 1.9%، أملاح معدنية 1.2%، ألياف 10%، ماء 13.8%، مع احتوائه على عدد من الفيتامينات التي تحمي الإنسان من أمراض سوء التغذية، كما يميز الرطب والتمر بصفة عامة وجود نسبة معقولة من عنصرَي الماغنيسيوم والمنجنيز، وما يميز هاذين العنصرَين دورهما الكبير في تهدئة الإنسان، وزيادة مشاعر الحب، والإخاء، والسكينة، وهذا ما يحتاجه الصائم في نهار رمضان، وليله، مبينةً أن أقصى استفادة من التمر تحقق عند الالتزام بالسنة النبوية عند الإفطار حيث يقول صلى الله عليه وسلم:  (إذا أفطر أحدُكم فليُفطِر على تمرٍ، فإن لم يجِد فليُفطِر على ماءٍ فإنَّه طَهورٌ)، وتأتي أهمية الإفطار على تمر من ضرورة تنبيه المعدة والجهاز الهضمي لاستقبال الطعام بشيء يسهل امتصاصه، وبالوقت نفسه مصدر سكري سريع يمد الجسم بالطاقة، منوهةً إلى أن أسرع المواد الغذائية التي يمكن امتصاصها، ووصولها إلى الدم هي المواد السكرية؛ فإن من أهم نتائج التجارب الكيميائية والفسيولوجية -كما يذكر الدكتور أحمد عبد الرؤوف هشام، والدكتور علي أحمد الشحات- أن تناول الرطب أو التمر عند بدء الإفطار يزود الجسم بنسبة كبيرة من المواد السكرية، فتزول أعراض نقص السكر، وينشط الجسم، وأن خلو المعدة والأمعاء من الطعام يجعلهما قادرَين على امتصاص هذه المواد السكرية البسيطة بسرعة كبيرة، مضيفةً إن احتواء التمر والرطب على المواد السكرية في صورة كيميائية بسيطة يجعل عملية هضمها سهلة جدًا فإن ثلثَي المادة السكرية الموجودة في التمر تكون على صورة كيميائية بسيطة، وهكذا يرتفع مستوى سكر الدم في وقت وجيز.
وختمت حديثها منوهةً إلى أن هذا جزء ضئيل من الأسرار، والحِكم العظيمة للصيام الإسلامي؛ لأننا مهما بحثنا في أسرار الصوم لا ننتهي، ومهما عددنا فوائد الصيام لا نحصيها، ومهما درسنا منافع هذه العبادة والخير الكثير الذي يأتي بسببها لا يمكن أن نعددها ولكن البيان الإلهي يلخص لنا كل هذه الفوائد بكلمات بليغة ورائعة يقول فيها تبارك وتعالى مخاطبًا البشر جميعًا: (وَأَنْ تَصُومُوا خَير لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة: 184.

Scroll to Top