في نور آية كريمة : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).أمير سعيد.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) النحل (90) .
آية جامعة، تُجمِل أوامر الله ونواهيه، وتستنبط منها قواعد عامة تسير حياة كاملة للمؤمنين، بمفرداتها الدقيقة توضع القواعد العامة للمجتمع المسلم، بل لكل البشر الذين ترتسم أمامهم منارات المنهج الرباني الذي يتحقق به العدل والطمأنينة والأمن، يقول العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام عن هذه الآية “إنها أجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها، والزجر عن المفاسد بأسرها قوله تعالى: (إن الله يأمر…) الآية ؛ فلا يبقى من دقيق العدل وجليله إلا اندرج في الآية”.
يبدؤها الله سبحانه بتوكيد، ثم اسمه العظيم ليأخذ النفس إلى عظمة الآمر الناهي سبحانه وتعالى، ثم يجمل الله -عز وجل- من بعد أوامره ونواهيه، موضحًا أهمية وعظه بها، و”العدل” هو “القسط والموازنة”، كما قال الحافظ ابن كثير، أو هو “شهادة أن لا إله إلا الله” كما نقله الحافظ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أو هو “الإنصاف” كما قاله أبو حيان، أو هو “فعل كل مفروض من عقائد، وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف، وإعطاء الحق”، مثلما نص ابن عطية الأندلسي.
وفي المعنيَين المتقدمَين: الإنصاف، وكلمة التوحيد، تقارب وشمول عظيمَين؛ فإن كمال العدل في توحيد الله سبحانه، وهو خطاب يوجه للناس أجمعين، كما أن الإنصاف لا يتقنه إلا الموحدون.
والإحسان، الإجادة والإتقان والإتيان بالأعمال المشروعة على أحسن الوجوه وأكملها، وهو ما يزيد في الفضل عن العدل، وعنه يعقب ابن عطية على تعريفه السابق بقوله: “والإحسان: فعل كل مندوب إليه”، ويذكر الزمخشري فائدة بذكر الأمر بالإحسان بعد العدل، بأنه “الإحسان الندب، وإنما علق أمره بهم جميعًا؛ لأن الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب”، وفي الحديث الذي رواه مسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء…)، وهو الذي قال عنه الإمام النووي: “هذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام”، ولهذا فالقرطبي ذكر معنيَين للإحسانأحدهما متعد بنفسه كقولك: أحسنت كذا، أي حسنته وكملته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء.وثانيهما متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به ، ثم يقول: قلت: وهو في هذه الآية مراد بالمعنيَين معًا؛ فإنه تعالى يحب من خَلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك، وهو تعالى غني عن إحسانهم، ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن، وهو في حديث جبريل بالمعنى الأول لا بالثاني؛ فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة والمكملة، ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار، وهو المراد بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
ويذكر الباحث سامي القدومي في كتابه “التفسير البياني” في سورة النحل من دقائق المعاني نكتة لطيفة فيما يتعلق بقوله تعالى: (ذي القربى)، وأنه لم يقل “أولي القربى”، بأن الثانية خاصة بالقرابة القريبة، والثانية أعم في القرابة عمومًا، فقال: “وجاء التعبير عن القرابة بالمفهوم الأوسع في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان …)؛ لأنها آية عامة، ولذلك فهي تتكلم عن الموضوع الخاص (وإيتاء ذي القربى) بعموم أيضًا.قال القرطبي عن “إيتاء ذي القربى”: “الصلة … وإنما خص ذا القربى؛ لأن حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب؛ لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته”.
أما في النهي فيجمل سفيان بن عيينة في تفسير الآية بقوله: “العدل في هذا الموضع: هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملاً، والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته”، ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره.
وفرّق الأصولي ابن عاشور في التحوير والتنوير بين الفحشاء والمنكر بقوله: “ونهى الله عن الفحشاء، والمنكر، والبغي، وهي أصول المفاسد، فأما الفحشاء: فاسم جامع لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس لفساده من الآثام التي تفسد نفس المرء من اعتقاد باطل، أو عمل مفسد للخلق، والتي تضر بأفراد الناس، بحيث تلقي فيهم الفساد من قتل أو سرقة أو قذف أو غصب مال، أو تضر بحال المجتمع وتدخل عليه الاضطراب من حرابة أو زنى أو تقامر أو شرب خمر، فدخل في الفحشاء كل ما يوجب اختلال المناسب الضروري ، وأما المنكر: فهو ما تستنكره النفوس المعتدلة، وتكرهه الشريعة من فعل أو قول، والاستنكار مراتب، منها مرتبة الحرام، ومنها مرتبة المكروه، فإنه منهي عنه، وشمل المنكر كل ما يفضي إلى الإخلال بالمناسب الحاجي، وكذلك ما يعطل المناسب التحسيني بدون ما يفضي منه إلى ضر” أي أنه فرق بين مراتب الإخلال بالضرورات في الفحشاء، والحاجيات والتحسينات في المنكر، ثم قال: “وخص الله بالذكر نوعًا من الفحشاء والمنكر، وهو البغي، اهتمامًا بالنهي عنه، وسدًا لذريعة وقوعه؛ لأن النفوس تنساق إليه بدافع الغضب، وتغفل عما يشمله من النهي من عموم الفحشاء بسبب فشوه بين الناس”.
والفحشاء في لغة العرب: الخصلة المتناهية في القبح، وفسر ابن عباس -رضي الله عنهما- الفحشاء بالزنى، والبغي هو الاعتداء في المعاملة، والمنكر قد تقدم ذكره.
(يعظكم لعلكم تذكرون)، قال الألوسي: “يعظكم أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه، (لعلكم تذكرون) طلبًا لأن تتعظوا بذلك وتنتبهوا”، ويذكر هنا الشنقيطي تنبيهًا مهمًا فيما يخص الوعظ ومجاله، يقول في أضواء البيان: “فإن قيل: يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي وذكر الأدلة على هذا من آيات القرآن الكريم مع أن المعروف عند الناس أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك، لا بالأمر والنهي، فالجواب: أن ضابط الوعظ هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم ونواهيه؛ فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله، وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه؛ فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال، فلانت قلوبهم للطاعة خوفًا وطمعًا”.
في الأخير، جاءت هذه الآية لتبين أصول ما تقوم عليه المجتمعات والأفراد والدول، وتضع معيارًا دقيقًا لتحديد مدى اقتراب ممارسات هؤلاء من منهج الله سبحانه وتعالى أو ابتعادهم عنه، ولقد فهم الأولون هذا المعنى جيدًا، فلقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح: “أخرج البخاري في الأدب المفرد ، قال شتير بن شكل لمسروق: “حدث يا أبا عائشة وأصدقك. قال: هل سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما في القرآن آية أجمع لحلال وحرام وأمر ونهي من هذه الآية : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) ؟ قال نعم” (وسنده صحيح) .فمتى ما تحقق العدل، وفشا الإحسان، وأعطيت القرابات ووصلت، فثم منهج الله وشريعته.المصدر: موقع المسلم.