الداية : الابتلاء تمحيص وتكفير للسيئات، ورفع وارتقاء للدرجات.
البلهيد: على المسلم أن يلتزم الشرع، ولا يخالف أمر الله ؛ فلا يتسخط ولا يسب الدهر.
تحقيق : أمينة سعيد.
كثيرة هي الابتلاءات التي يواجها الإنسان في حياته، فقد يبتلى الإنسان في جسده، أو يبتلى في ماله، أو يبتلى في أهله وولده، فهي تعد سنّة من السنن الكونية، ووقوع الابتلاء على الإنسان يعد اختبارًا له، وتمحيص لذنوبه ، وتمييز بين الإنسان الصادق من الكاذب، وقيل في هذه القضية أكمل الناس إيمانًا أشدهم ابتلاءً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) أخرجه الإمام أحمد وغيره .
ولكن الإنسان يقف عاجزًا أمام هذه الابتلاءات فكيف يمكن أن يتعامل معها؟
للإجابة على هذا السؤال تابعوا معنا التحقيق الآتي :
يقول د. سلمان الداية: أن الابتلاء سنة قدرية كونية لا مناص من مكابدتها، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة : 214.
ويؤكد الداية أن للابتلاء فوائد فمن الذكرى أن يعلم المؤمن أن الابتلاء تمحيص وتكفير للسيئات، ورفع وارتقاء للدرجات، وأنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، فعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَعُودُهُ فِي نِسَاءٍ، فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم) أخرجه أحمد في سننه .
وخلال حديثه تطرق الداية للحديث عن السبيل للنجاة من الابتلاءات قائلًا: إن النجاة من هذه الابتلاءات يكون بأمور أهمها :
1- سؤال الله العافية ؛ فإنّ العافية من خير النعم التي يُعطاها الإنسان في الدنيا والآخرة، فعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ أوَّلَ، فَقَالَ: (إِنَّ ابْنَ آدَمَ لَمْ يُعْطَ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنَ الْعَافِيَةِ، فَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَة) صحيح ، أخرجه أحمد في مسنده .
وما أكثر سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه العافية، كان يسألها في صباحه ومسائه ، فعن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (وُكِلَ بِهِ سَبْعُونَ مَلَكًا، فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي) أخرجه ابن ماجه في سننه، صححه الألباني.
2- التقرب إلى الله بأذكار تفريج الكرب، ولقد أُوحي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأذكار نصح بها أمته، ودعاهم أن يستدفعوا همومهم وغموهم وكروبهم بها، منها: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا نَزَلَ بِي كَرْبٌ أَنْ أَقُولَ: (لَا إِلَهَ إِلا اللهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللهِ، وَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) رواه أحمد في مسنده ، وقال محققه : صحيح .
3- الصبر على المصيبة واحتسابها عند الله ، وأعون شيء على الصبر العلم بأجره وثوابه عند الله، وهاك بعض ما جاء في ذلك :
قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون) البقرة: 155-157، وقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر: 10.
4- دفع البلاء بالعمل الصالح، كالصلاة، والصوم، والصدقة، والاستغفار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا) أخرجه مسلم في صحيحه ، وعنه -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تُنْظَرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفَنِّدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرّ) أخرجه الترمذي في سننه، وصححه الألباني.
5- الابتلاء سبب لتكفير الذنوب : والابتلاء مع الصبر تمحو الذنب، قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِين) البقرة: 155، وقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر: 10، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا يَزَالُ البَلَاءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) صحيح ، أخرجه : الترمذي في سننه ، وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) صحيح ، أخرجه: الترمذي في سننه ، من جانبه قال صالح كمال أبو طه محاضر أكاديمي لدى كلية دار الدعوة للعلوم الإنسانية ، إن الابتلاءات سنة من سنن الله في الكون، ويتعامل معها الإنسان بالصبر والثبات والاستعانة بالله تبارك وتعالى، وينبع ذلك من قوة إيمانه وعلاقته مع الله، ومن طبيعة محيطه وتربيته، لافتًا على الصعيد ذاته أن الأسرة التي تربى فيها وعاش معها لها دور كبير في مساعدته للتعامل مع الابتلاءات ، هذا بالإضافة إلى مدى التزامه بأخلاق الإسلام ، والعادات والتقاليد العرفية .
بدوره قال خالد سعود البليهد في مقالته عن الابتلاء بأنه نعمة ، وقسم الناس حين نزول الابتلاء إلى ثلاثة أقسام :
أولها : محروم من الخير، يقابل البلاء بالتسخط ، وسوء الظن بالله واتهام القدر.
الثاني : موفق، يقابل البلاء بالصبر، وحسن الظن بالله.
الثالث : راض يقابل البلاء بالرضا والشكر وهو أمر زائد على الصبر.
وأكّد في مقاله أن المؤمن كل أمره خير؛ فهو في نعمة وعافية في جميع أحواله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له) رواه مسلم .
وختم البلهيد حديثه بالأمور الواجب على العبد اتباعها حين وقوع البلاء منها:
أن يتيقن أن هذا من عند الله ؛ فيسلّم الأمر له، وعليه أن يلتزم الشرع، ولا يخالف أمر الله؛ فلا يتسخط ولا يسب الدهر، كما يجب عليه أن يأخذ بالأسباب النافعة لدفع البلاء، وعليه أن يستغفر الله، ويتوب إليه مما أحدث من الذنوب.