أ. إيمان المهداوي.
أولاً- التجريد:
وهو إخلاص العمل لله، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف: 110، يقول ابن كثير رحمه الله: “(فليعمل عملاً صالحًا) أي ما كان موافقًا لشرع الله (ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا)، وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصًا لله صوابًا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وقال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) “رواه مسلم”.
وقيل: الإخلاص سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.
نعم؛ إن الإخلاص هو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، فمتى أفرده العبد ربه بالطاعة، ونسي رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، فقد تحقق له الإخلاص؛ فإن الخبير إذا اطلع على الضمير فلم يجد في الضمير غير الخبير، جعل فيه سراجًا منيرًا.
فالإخلاص هو مسك القلوب وماء حياتها، ومدار فلاحها.
وإنما تُحفظ الأمة وتنصر بإخلاص رجالها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم”) “رواه النسائي وغيره”، فنجاة هذه الأمة بألا يمازج عمل أفرادها ما يشوبه من شوائب وحظوظ نفس؛ إما بطلب التزيين في قلوب الخلق، وإما طلب مدحهم وثنائهم، والهروب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم وخدماتهم، أو لمحبتهم، أو غير ذلك من العلل والشوائب.
فما أجمل بالداعية حينما يقبل على تعلم الإخلاص؛ فوالله إن تعلمه خير العلم، وتفقهه كل الفقه، قالت رقية العابدة: “تفقهوا في مذاهب الإخلاص؛ ولا تفقهوا فيما يؤديكم إلى ركوب القلاص”، ذكر الدكتور عبد الفتاح أبو غدة في كتابه صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، ص: 17-18: “عن خير وسيلة لإشعال العزائم وإثارة الروح الوثَّابة وقدح المواهب وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق، والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفاسفها، والتأسي بالأسلاف الأجلاء هو قراءة سير النُبغاء والصُّلحاء، والتملي من اجتلاء مناقب الصالحين الربانيين، والاقتراب من العلماء النُبهاء العاملين المجدِّين؛ فذلك مهماز لرفع الهمم، وشد العزائم، وسمو المقاصد، وإنارة القلوب، واحتلال ذُرَى المجد الرفيع، واغتنام الباقيات الصالحات، وإخلاص النيات”.
وحتى نشحذ الهمم ونرتفع بالغايات ونسمو بالنفوس فها هو غيض من فيض، نقطة من بحار سلفنا الصالح ومواقفهم الرفيعة، ارفعها إلى قلبك الزاكي، وإن كان البعض منا يرى تلك المواقف البيضاء غريبة في عالمنا اليوم.
علامات إخلاص العمل لله تعالى:
سئل بعض السلف عن علامات إخلاص العمل لله فقال: “أن يستوي سرك وعلانيتك، وأن تستوي خلوتك وجلوسك مع الناس، يعني أن تكون حالك مع الله تبارك وتعالى في خلوتك كحالك عند اجتماعك بالناس واختلاطك بهم، ويجب أن يكون سرك وعلانيتك أو ظاهرك وباطنك سواء”، وما أجمل ما أوجزه سهل بن عبد الله التستري حينما قال: نظر الأكياس في تفسير الإخلاص، فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى لا يمازجه شيء؛ لا نفس، ولا هوى، ولا دنيا”.
الورع الكاذب:
الامتناع عن الدعوة على الله خشية الوقوع في الرياء، إن من أعظم مداخل الشيطان وحيله وتلبيسه على من أراد أن يجتهد في طاعة الله عامة أن يأتيه من هذا الباب، وقد نلاحظ هذا في الحقل الدعوي بشكل ملحوظ؛ فإذا فتح الله باب الدعوة لأحد الدعاة وجعل الله لدعوته القبول فإذا هو قد شمر عن ساعديه واجتهد في دعوته، حينها لا يستطيع الشيطان عدو الله أن يأتي إليه فيثنيه؛ لأنه خبيث، وقد علم من إقباله وهمته أنه قد عزم وعقد النية واجتهد، وعلم أنه لو أراد أن يثنيه لما سمع له، ولكننا نجده يأتيه من باب آخر فيقول له من باب النصح (وهو الكافر الجاحد!) لو عملته لكان لغير الله…!! فيأتيه من باب الورع الكاذب!! ومتى كان عدو الله ناصحًا لك! ومتى كان الشيطان حاثًا على الورع؟ أو على الإخلاص؟ وإحسان العمل؟ وللداعية أن يتذكر: أنه ما دام أن الله قد شرع له هذا العمل وافترضه عليه كما وأن مصلحة الدين فيه فلا يمكن لعدو الله وعدوه -الذي قال الله فيه: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) فاطر: 6، أن يدله على خير أو أن يثنيه عن عمل؛ لأنه شر أو لأنه ضار به أبدًا، وإنما هذا نوع من حيل الشيطان ومن تلبيسه نعوذ بالله من شركه.
ومما يعين الداعية على الإخلاص:
– العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فالعبد كلما كان لله أعرف كان له أرجى وأخوف.
– استشعار مراقبة الله تعالى واطلاعه على مكنونات نفسه؛ فإنه تعالى يعلم كل شيء لا تخفى عليه خافية، لا فرق عنده بين ما هو سر وعلانية، وبين ما هو غائب وشاهد.
– الاطلاع على سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم إمام المخلصين، ودرة الموحدين، وسير أصحابه، ليأخذ هذا العلم من منبعه ويتعلم الحرص عليه، ويتعلم كيف ينميه.
– أن يعلم أن الناس لا يملكون لأنفسهم جلب نفع ولا دفع ضر فلا يرجى بعمله رضى وزير أو قرب أمير.
– إذا وجد لنفسه في عمل يبذله حظًا أن يجاهد نفسه ويقاومها وإلا تركه نجاة بنفسه.
– البعد عن صحبة أهل الرياء من الذين يحبون الثناء بما يفعلونه وما لم يفعلوه، ومجاهدة النفس عن ذلك وعن حبه؛ فإن مصاحبة العبد لأمثال هؤلاء عامل من عوامل تعلق القلب بالمخلوقين، وإنما كما قال تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) آل عمران: 188ّ.
– مصاحبة المتقين من عباد الله من المخلصين الذين يؤدون الأعمال لله تعالى ولا يغترون بما عملوا؛ بل إنهم يخافون من رجوعهم إلى الله ولقائه، خوفًا يندفعون إلى المزيد من الأعمال الصالحة وقد جاءت الآيات بوصف حالهم فقال تعالى عنهم في كتابه: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون: 61ّ.
– مذاكرة الآخرة ودوام التفكر فيها والاستعداد للرحيل إليها.
ثانيًا- العلم:
ونقصد به هنا العلم الشرعي والذي به يتمكن العبد من تحقيق العبودية لله الواحد الديان -جل في علاه- فهو الكاشف الجلي عن الشبهات والمهذب لجميع الشهوات.
والحاجة إلى العلم فوق كل حاجة فلا غنى للعبد في عبادته عنه طرفة عين، يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: “الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، فالرجل يحتاج إلى الطعام والشراب مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه”، ورحم الله ابن القيم حينما قال: “العلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات، فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها”.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن فضل العلم وأهله: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) “أخرجه الترمذي في باب العلم”.
وطلبة العلم هم وصية رسول الله؛ فقد قال لأصحابه -صلى الله عليه وسلم-: (سيأتيكم أقوامٌ يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبًا بوصية رسول الله وأفتوهم) “رواه ابن ماجه عن أبي سعيد وحسنه الألباني”.
لعله قد انجلى لنا الآن أهمية العلم وفضله؛ فطلبه قربه إلى الله ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، والبذلة به صدقة، ومدارسته تعدل الصيام والقيام بفضل الله، مع أهميته للقلب والعمل، يقول بعض العلماء: “من شرف العلم وفضلِهِ: أن كل من نسب إليه فرح بذلك وإن لم يكن من أهله، وكل من دُفع عنه ونُسب إلى الجهل عزَّ عليه ونال ذلك من نفسه وإن كان جاهلاً”.
والأمة فضلاً عن دُعاتها هي اليوم أحوج ما تكون إلى العلم الصحيح المبني على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
وأما عن شغفهم وحرصهم على العلم فهذا الإمام الشافعي رحمه الله لما سئل عن طلبه للعلم يقول: “أود أن لأعضائي أذان حتى تتلذذ بالعلم كما تتلذذ الأذن”، ويقول علي بن أبي طالب: “اغد عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا أو محبًا ولا تكن الخامس فتهلِك، اللهم وفقنا إلى العلم النافع والعمل الصالح”.
وطلب العلم ليس له حدود، لا يحده كم أو عمر، وها هم شموس الأمة وأقمارها قد ضربوا الأرض شرقًا وغربًا، شبابًا وشيبةً في طلب العلم؛ فلم يوقفهم حدًا بلغوه، أو يقعدهم عمرًا وصلوه.
وقد حفظ البخاري كتب ابن المبارك، ووكيع، وعرف كلام أصحاب الرأي لما طعن في ست عشرة سنة، وقد صنف كتابه “التاريخ” وهو ابن ثمانية عشر عامًا، ويقول عن نفسه: “صنفت كتابًا لاعتصام في ليلة”، وقال عنه محمد بن يوسف الفريرى رواية: “البخاري صاحب الحديث الذي سمعه تسعون ألف رجل!”، فلله درهم ما أعلى همتهم وما أقوى عزيمتهم.
ثالثًا- الإتقان:
إذا ما اجتمع بفضل الله- للداعية الإخلاص والعلم؛ فما أجمل به أن يغلف هذا كله بإتقان العمل وإحسانه لله بالتدرب على تنمية مهاراته الدعوية فهي ولا شك خطوته الأخيرة للنجاح.
وإتقان العمل وإحسانه مطلبٌ شرعي في جميع أعمالنا؛ وهو رمز للمسلم وعلامة وجود من إتقان العبادة والطاعة والمعاملة، إلى إتقان المهام والواجبات في العمل وفي البيت وفي المجتمع وفي الأمة، وفي النفس وفي الأهل وفي الأولاد وفي البشر أجمعين. يقول الله تعالى: (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة: 95، وقال -النبي صلى الله عليه وسلم-: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) “رواه مسلم”، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) “رواه أبو داود”، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) “السلسلة الصحيحة”.
والدعاة كغيرهم لا بد لهم من إتقان أعمالهم وبرامجهم ومهاراتهم، حتى تحصل لهم الغاية من الدعوة وهي نفع الناس بإذن الله.
والواقع اليوم يشهد بأن المهارات الدعوية صارت تحتاج إلى متطلبات مختلفة ومعقدة لا يسد احتياجاتها العلم الشرعي فقط؛ فالدعوة تحتاج إلى المربين المصلحين لمختلف الأعمار والفئات، والذي يتعهد الأطفال والصبية الصغار ليس كمن يربي الشبيبة والشباب، ومن هو معني بمواجهة المنصرين ومجابهة العلمانيين والليبراليين لن يكون لديه مزيدًا من الوقت للاهتمام بسد حاجة الفقراء المسلمين مثلاً.
ومع اختلاف المهام والوظائف تكون الحاجة ملحة لاكتساب المهارات المختلفة التي تسد حاجة هذه الوظائف، ومن أهم الجوانب التي يتعين الداعية إتقانه:
– المهارات الاجتماعية التي تعينه على بناء علاقات جيدة وقنوات اتصال فعالة مع الناس؛ فتجعله شخصية مقبولة، ومحبوبة، مرحب بها.
– المهارات الدعوية، كمهارة الحوار، والإقناع، والتأثير، والاتصال… وغيرها، ويوجد الآن العديد من الدورات المتخصصة في تنمية هذه الجوانب.
– المهارات الشخصية التي يحتاجها الداعية لتعينه على تنظيم حياته ووقته بما يخدم نجاح دعوته كالتخطيط، وإدارة الوقت، وإدارة الأزمات… ونحو ذلك.
– التنويع في طرق الدعوة بما يناسب حالة الشخص المتلقي وبما يتناسب مع الزمان والمكان.
– مهارات الإلقاء المؤثر والتي تعطي الداعية جانب من التنوع المطلوب بما يطرد الملل والرتابة عند المتلقي.
– مجالسة أهل العلم من العلماء الربانيين، للتعلم من سمتهم والانتفاع بخبراتهم.
– الالتقاء بأصحاب التجارب الدعوية الناجحة والبارزة والاستفادة من تجاربهم.
– مراعاة حال المدعوين، إذ ليس من الحكمة والكياسة استخدام أسلوب واحد في الدعوة مع الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والمتعلم والجاهل، والقريب والبعيد، والرئيس والمرؤوس،
والصحيح والمريض، والهادئ والغضوب؛ فلا بد من تنويع الأساليب كلٌ بما يناسبه، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) إبراهيم: 4ّ.
– تقنيات الحاسب الآلي وبخاصة في ظل هذه الثورة المعلوماتية التي أتاحها الحاسب الآلي لنا الآن، حتى وجدنا بفضل الله- آلاف الكتب التي كان يظل يجمعها طلبة العلم في عشرات السنين مخزنة في قرص من أقراص الحاسب الآلي المدمجة.
– مهارات التعامل مع الإنترنت والبحث في الشبكة العنكبوتية، للاستفادة من كنوزه المتوالدة تارة، ومن استغلاله في الدعوة إلى الله، فبعد أن كانت الطريقة التقليدية في الدعوة تقتصر على اللقاءات الجماهيرية، يستطيع الداعية اليوم -وبفضل الله- أن يصل ليس لمئات؛ بل لآلاف وربما لملايين البشر عبر الإنترنت ومن خلال غرف المحادثات.
– عقد الاجتماعات الدورية للدعاة وبصفة مستمرة للوقوف يطرح من خلالها مستجدات الأمور والقضايا المعاصرة والتي تتعرض لها الأمة، وكذلك قضايا المجتمعات، يرسمون من خلالها آليات تتناول هذه القضايا.
– إنشاء مراكز بحوث متخصصة في الدعوة وشؤونها تعمل على تقديم المعلومات والإحصائيات المطلوبة، والتي تضفي على الدعوة جانب كبير من الموضوعية والثراء.
هذا وصل الله على نبيينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.