نورة عبد الغني عيتاني.
حين أتأمَّل شجارات الأطفال وخلافاتهم، وأراهم يتسامحون ويتصالحون بعدها بأقصى سرعةٍ وكأنَّ شيئًا لم يكن -يتبادر إلى ذهني سؤالٌ غريب: لِمَ لا يفعل الناس مثلهم؟ لِمَ لا تكون خلافات الكبار تمامًا كخلافات الصِّغار خفيفةً هيِّنةً، سَرعان ما تمضي دون أن تترك أثرًا يُذْكَر؟
وتأتي الإجابةُ مصحوبةً دومًا بالسؤال: الناس لا يتشاجرون على أشياءَ بسيطةٍ كما يفعل الأطفال، فكلما تعقَّدت أسباب الشجار، طال زمن انقضائه، لكن الغريب في الأمر أنَّ بعضَ أسباب شجارات الكبار تكون ظاهريَّة التعقيد بسيطةً في أصلها، فمَن الذي عقَّدها يا ترى، وكساها هذا الطابع المستفحل؟ أليست نفوس الناس المريضة، وأطماعهم الكبرى هي التي وصمتها بهذا الطابع؟
أليست غفلتهم عن الغاية الكبرى، وشراهة نفوسهم هي مَن جَعَلَت هذه الشجارات تمتدُّ وتتجذَّر، وتتشابك وتتفرَّع دون أملٍ مِن إيقافِ هذا الامتداد المستفحل الذي لا علاج له، فحدُّه حد قطعه!
والخلافات الكبرى لا تُعالَج مِن الأغصان والفروع، بل تُجتثُّ مِن أصولها والجذور؛ لتدارُك ما تبقَّى منها، لكن أنَّى لجذر فاسدٍ داهَمَه المرض الخبيثُ أن يُجتثَّ ليُعالج؟ هل يملِك المرء أن ينزع سمًّا قاتلًا أصاب أحدَ جذوره، فاستشرى فيه وسرى بين خلاياه مجرى الدم في العروق، ليَفتك به ويُزيله عن بَكرةِ أبيه؟
في حقيقة الأمر إنَّ أمرًا معقَّدًا كهذا يمكن أن يتمَّ تداركُه وعلاجه بغاية البساطة والسهولة، إذا ما دقَّقنا قليلًا وتأمَّلنا الصورةَ كاملةً بلا اقتطاع أو تَشْذيب، فإذا أَعَدْنا عرضَ صورةٍ متكاملةٍ لشجار الأطفال، سنرى أنَّهم إذا اختلفوا يَعدِلون في استرداد حقِّهم، بمعنى أنهم لا يَتعدون حدَّ الظلم الواقع عليهم؛ ليكون الجزاء عندهم مِن جنس العمل، فيبادلوا الركلة بالركلة، والصفعة بالصفعة، وإذا ما استفحل الخلاف ووصل إلى أقصى حدٍّ، قد تصل الأمور بينهم للتشابك بالأيادي والأقدام، وانتفاش بعض الشَّعر، وتتوقَّف عند هذا الحدِّ الظاهريِّ السطحيِّ الذي يداهم الفروع والأغصان دون أن يمسَّ الجذور ويُتلفها.
والعجيب أنَّهم يتوقَّفون ويتراجعون ما إن يروا أحد هذه الفروعِ أُصيب بخللٍ ما، فلا يتمادون بعد ذلك أبدًا، بل حتى إنهم قد يَحزنون ويندمون ويتعاطفون، ويُشفقون على ما جَنَتْه أيديهم، وما أوقَعته مِن ضَرَرٍ بأغصان الآخَرين وفروعهم الممتدَّة المتطفِّلة، لذا فهم يعالجون الشجار سريعًا، عن طريق الندم والعطف والنسيان، وبلسمة الجراح؛ لأنهم لم يقصدوا مسَّ الجذور، ولا إلحاق الأذى بها، فتبقى الجذور فيما بينهم صحيحةً سالمةً متآلفةً.
غير أنَّ الكبار إذا تدخَّلوا في شجارات الصغار، سنجد الأمور ازدادت سوءًا وعمقًا؛ لأنَّ الكبار بطبعهم يحبُّون التعمُّق والتجذُّر في الخلاف، فهم يجيدون فنَّ صياغة الخلاف، وابتداعه من اللاوجود!
هم لا يريدون أن تمرَّ شجارات أولادهم مرورًا عاديًّا يعيد دورته بتلقائيَّة؛ ليترك فيهم أثرًا إيجابيًّا ويتعلَّموا الدرس… بل على العكس فهم يُصرُّون على تلقين كلِّ مَن يقترب من أبنائهم درسًا لا يُنْسى، لذلك تجدهم دومًا يشدُّون عضد أبنائهم عند الخلاف، ولو كانوا على باطلٍ، ويُمِدُّونهم بشتى العبارات المحرِّضة التي تثير العداوة والشحناء؛ مثل: (مَن ضربك اضربْه، لا تكن ضعيفًا خذ حقَّك بيدك… إلخ).
هكذا وبمساعدة الأهل تصل المشكلة إلى الجذور، وتلتصق بها وتتشابك، ويتشرَّب الأطفال من ذويهم معنى التعقُّد والطغيان والظلم، والتشبُّث بالخلافات.
إنَّ الحلَّ الأمثل والجذريَّ لعلاج خلافات الكبار هو البتر، بتر كلِّ فكرةٍ وكلِّ ذكرى سيئةٍ، ولو اضطر الأمر إلى بتر الجذر المصاب، مع مجاهدةِ النفس لنسيان ألَمِه؛ إنَّ هذا ليس بالشيء الهيِّن دون أدنى شكٍّ، فهو يحتاج منا لكثيرٍ من المصابرة وجهاد النفس، لكن نتائجه تحمل ثمارًا طيبةً مباركةً، ستعود علينا وعلى خصومنا بالنفع والرضا المرجو.
لنَعُد لأسباب الخلاف ونُحلِّلها، سنجد أنها كانت بسيطةً للغاية! ما الذي عقَّدها إذًا؟ إنها الظنون والأحقاد، واختلال موازين الحقائق؛ فالناس حين تحقد تَنسى العدل والإنصاف، وتنسى كلَّ جميل، ولا ترى إلا بعين الكُرْه والبغضاء، وقد صَدَقَ الإمام الشافعيُّ حين قال:
وعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ *** ولكنَّ عينَ السُّخطِ تُبدي المساوِيَا
فالإنسان حين يكره يَصير الشخص المكروه في عينه شيئًا فاسدًا بالكلية، لا بد من اقتلاعه وإزالته بالمرة! هكذا وبكلِّ بساطة تنقلب فضائل المرء في عين خَصمه مثالبًا، وتصير محامده في عُرفه نقائصَ ورذائلَ وعيوبًا!
والمشكلة العظمى أنَّ أغلب الناس يعلمون أنَّهم على باطل، ويعرفون أنهم ظالمون، باخسون، متعدُّون على حدود الآخَرين، إلا أنَّهم يصرُّون ويتمادون في غيِّهم وضلالهم، ويكابرون على الاعتراف بالحقِّ والحقيقة؛ لأنَّ عزَّة نفوسهم – بزعمهم – لا تسمح لهم بالتواضع والاعتراف بالخطأ، وحقيقة الأمر أنَّ هذه ليست بعزَّة نفس، إنما هي لفحة كِبرٍ قاتلة، تقتل المعتدي قبل غيره، وتَعصِف به وبجذوره؛ لتؤجِّج فيها شعلةَ الحقد المستعرة.
فالحقد نار موقدة، تَحرق صاحبها، وتُتلف جذوره، وتُشوِّهها تشويهًا ما بعده تشويه، والأدهى والأَمَرُّ أنها مع ذلك لا تَقتلعها اقتلاعًا، بل تتركها على عِلَّاتها قاحلةً جوفاءَ يابسةً، عالقةً متشبِّثةً بالفراغ، ممتلئةً بالفجوات والثقوب والتشوهات العميقة، لتُهَلْهِلَها الرياحُ وتَميل بها يَمينًا وشمالًا.
لذا كان أهم سببٍ وأعظم سبب يدخل الإنسان به الجنة، هو القلب السليم؛ إذ لا شيء بعده يفي بالغرض، فلا صلاةَ ولا صيام ولا عبادةَ تكفي أو تُكافئ تحقيق هذا المقصد الأسمى والأجل؛ فالقلب السليم هو أهمُّ وأغلى مطلوب يصل به المرء لأعلى الدرجات، ويسمو به إلى أرقى المراتب والقمم، فينال به السَّبق في الدارين؛ قال بعض السلف: (ما فضل أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة، ولكنه شيء وَقَرَ في قلبه، فبالقلب السليم وحده سَبَقَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وارتفع قدرُه وصار خيرَ هذه الأُمَّة، ولهذا أيضًا كان الكبرُ أخبثَ صفةٍ وأخطرَ مرض يُبعِد عن الجنة؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه: ((لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرَّة مِن كِبْر))، قال رجل: إنَّ الرجل يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً، قال: ((إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال، الكِبْر بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس))؛ “مسلم، الترمذي، أبو داود، ابن ماجه، أحمد”.
فالكبر هو أصل كلِّ المشاكل والأمراض الخبيثة المتجذِّرة في عمق القلوب، وهو أول مرض مستعصٍ عُضال، تسبَّب في طرد إبليس من الجنة؛ لأنَّه رأى نفسه أهمَّ وأعظم مِن آدم، فرَفَضَ لأجله الإذعان والانصياع لأوامر المولى عز وجل بالسجود لمن هو أعلمُ بمقامه، والسجود لآدم لم يكن إلا لتعظيم كلمةِ الله ومشيئته وإرادته؛ لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحدٌ على أحد، ولا يَفخَر أحدٌ على أحد))؛ “رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه”؛ فالحكمة – كل الحكمة – في تطويع هوى النفس، وتبديد أطماعها، وتعويد القلب على طاعة المعبود، وحبِّ الخير للناس، والتواضع لهم، وهذا مِن أصعبِ ما يكون؛ لأن الإنسان جَهول بطبعه، مجبولٌ على حبِّ نفسه، وتَمنِّي الصدارة والتميُّز لها دون غيرها، ولا يَثبُت الإيمان، وتَطمئن النفسُ وتستريح وتَسكُن، إلا بالتغلُّب على هذه الأنانية والشُّحِّ؛ قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: 9، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)) “متفق عليه”.
فإنَّ مَن يحبُّ الخيرَ لغيره، هو شخص تخلَّى عن نزعةِ الكِبْرِ الفتَّاكة تلك، وتخلَّصت نفسُه مِن أدران الأنانية وأعفان الحسد؛ لذا فإنَّه لن يرى في نفسه سببًا لنزاع المؤمنين الصالحين العابدين لله تعالى ومنافستهم على أمور الدنيا، بل على العكس فهو قادرٌ بسهولة على دعمهم وتقويتهم، والنصح لهم، والتعاون معهم، ونشر فضائلهم، والأخذ بأيديهم، وتشجيعهم، وتعزيز أعمالهم التي يرى فيها الخير العميم للناس، كلِّ الناس؛ فالمؤمن قنوع راضٍ، يؤمن تمامَ الإيمان بحِكْمة الله وعدل موازينه، وكذلك هو يعلم أنَّ المؤمنين هم إخوانه وأحبَّاؤه الذين تَجمعه معهم وَحدةُ الغاية الكبرى والهدف الأسمى، ألا وهو عبادة الخالق الواحد الأحد، والدعوة إلى الفضيلة والحقِّ والخير والجمال.
لذا فإنَّ المؤمن الصالح حقًّا يسعى لخيره ولخير غيره، ولا يضيره إن سبَقَه أحدٌ في نعيم الدنيا أو ساواه، لعلمه أنَّه سينال نصيبه من الخير في الدارين بقَدْر ما يتمنَّى من الخير للغير، وبقدر ما قَدَّر الله له أن ينال، وذلك كله مرتبطٌ بعدل الله ومشيئته وأقداره وسُنَنِه، ومدى قُرب المرء من الله، وتوجُّهه إليه والتضرُّع إليه دون سواه، ومدى ارتباطه بالدار الآخرة وعمله لها، ومدى رضاه بقسط الله وتقسيمه للأرزاق، ورضاه عن الناس، وغِبطته إياهم على ما حباهم الله من النِّعَم، وعدم شعوره بالخوف والتهديد من أهداف الآخرين وأحلامهم وطموحاتهم الذاتية الكبرى أو الصغرى، التي ضمن الله لهم حقَّهم في تمنِّيها وطلبها، واستثمارها في نُصرة الدين، وعدم محاولة تحطيمها أو إيقافها – حسدًا وجشعًا وطغيانًا – لأنَّ هذا من شِيَم الطامعين العاملين للدنيا، المتقاتلين على سرابها الزائف الزائل؛ قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) الأعلى: 16، 17.
وكذلك فإنَّ المؤمن الصالح الذي تخلَّى عن أطماع نفسه، هو الذي يكون دائمًا في تفكُّر بشؤون نفسه، مشغولًا بمراقبتها ومحاولة إصلاحها ودَحْر عيوبها على الدوام، فلا يجد الوقت الكافي ولا الدافع لمراقبة حياة الآخرين، وتتبُّع سيرهم وصعودهم، وملاحقتهم بثقل بالغ ومحاولة عرقلة خطاهم، أو التشويش عليهم وإزعاجهم في أثناء خلودهم للراحة والاستجمام الذي ضمِن الله لهم حقَّهم فيه كذلك، حين أوحى لرسوله في الحديث الشريف، فقال صلى الله عليه وسلم: ((روِّحوا القلوب ساعةً بعد ساعة، فإنَّ القلوب إذا كلَّت عمِيتْ)).
ولما كانت دعوة الغيب تعود على الداعي بمثلها، إذ الملائكة تدعو له بمثل ما تمنَّى لغيره – كانت الدعوةُ للمؤمن في ظهر الغيب هي الداعي الأكبر للفوز برضا الله والاستمتاع بمنزلة القرب منه؛ لأنَّ حبَّ النفع للناس، واستجلاب الخير لهم، هو امتثال لأوامر الله، وإقرار بطاعته، وتواضعٌ لعظمته، وإذعانٌ لمشيئته، واستسلام كامل لقضائه وقَدَرِه، وهو بهذا يُشبه كثيرًا السجود لآدم الذي فعلته الملائكة، وأحجم عنه إبليس اللعين كبرًا وتعجرفًا وسخطًا على مشيئة الله.
فكلما جاهدت نفسك على تَمنِّي الرِّفعة للآخَرين، والدعاء لهم بالخير، ومنَعْت نفسك من الحسد والحقد، والسخط على ما مَنَّ الله به عليهم مِن نِعَم – كان مردودك من الخير أعلى وأعظم، وازددت قربًا من الله، هذا مع عدم نسيان حظِّ نفسك من الدعاء والطلب، وتمنِّي الرفعة لها، فقد كفَل الله للمؤمنين الحقَّ في طلب سعادة الدارين، وتمنِّي ما يشاؤون من الطيبات التي أحلَّها لهم، وهو الكفيل بإجابة دعائهم وتحقيق جلِّ أمانيهم؛ (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) إبراهيم: 20؛ فاطلُب من الله ولا تَيْأَس، وتيقَّن من قرب الإجابة.
لتكن لك نفس طيبة، تحبُّ الخيرَ للناس وتدعو لهم بالمزيد، ليكن لك لسان حلو طيبٌ، يُلقي الكلمة الطيبة؛ ليحصد أثَرَها الخير الباقي الذي ينمو ويسكن في جذور النفوس؛ ليُبلسِمَها ويُريحها، ويبثَّ فيها البهجة والسرور، ويَجلوَ عنها الأكدارَ والأحزان، ويزيل بها الأحقاد والشحناء، ويقضي على كلِّ الخلافات؛ قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) البقرة: 83، وقال جل من قائل: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) الإسراء: 53.
لتكن سريرتُك كعلانيتك، مستذكرًا كلامَ ربِّك جلَّ وعلا: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) البقرة: 77، فلا تُلقِ الكلمة المسمومة المتخفية هنا وهناك، وتَدُسَّها في زوايا الكلمات، وبين الحروف وطياتها والْتِواءاتِها الملتفة المتعرِّجة؛ لتؤجِّج بها نارَ الفتنة في النفوس، وتُشعل جُذوة الأحقاد في جمرات جذورك أكثر، فالنفس كالكانون كلما أَلقيتَ فيها الحطَبَ، اشتعل الجمرُ أكثرَ، وتأجَّجت فيه نيرانُ البُغض والكُره والغضب، جرِّب أن تُخمِد نارَ الكانون القابع في أعماق نفسك، وتَخلَّص من جمراتك القديمة المشتعلة المخفيَّة تحت الرماد، أَفِضْ عليها ببعضٍ مِن ماء المحبَّة والمودَّة والتسامح؛ لتتمكَّن من إصلاح الغير، وغرس بذرة الخير والحكمة في النفوس المتعطِّشة لها.
إنَّ بذرةَ الخير موجودةٌ فيك، مدفونة في أعمق بُقعة، فاستخرجها لتنعمَ بالثمار وتزخَر، قل ما تفعل، وافعَل ما تقول! لا تردِّد كلامَ الأُسُود من الرجال، وتفعل أفعال الحِملان، لا تتحدَّث عن الأخلاق كثيرًا، دعْ أخلاقَك تُحدِّث عنك، إذا ما أدركتْك لعنةُ فساد الخَلق، جرِّب أن تتخلَّص من السمِّ الذي أفسد طبعَك، وأعمى بصرَك والبصيرة، لا أن تُصدِّره للغير وتنمِّيه وتجعله يتكاثر، واذهَب إلى أفضل وأقرب علاج: القرآن وذكر الله، فإنَّ فيه شفاءً لرُوحك، وطمأنينةً لنفسك؛ قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد: 28ّ.
كن لنفسك ناصحًا مرشدًا حين تفكِّر أن تنصَح الآخرين نصيحةً، طبِّقها أولًا؛ لئلا تَفقِد مصداقيَّتك، وتَسقط من عيون الآخرين وقلوبهم، وليكونَ لنُصحك أثرٌ بيِّنٌ وجليٌّ، ولله درُّ الشاعر حين قال:
الصدقُ في أقوالنا أقوى لنا *** والكِذْبُ في أفعالنا أفْعى لنا
وما أروع شعر أبي العتاهية وأحكمه حين قال:
يا واعظَ الناسِ قد أصبحتَ مُتَّهمًا إذ عِبتَ منهم أمورًا أنت تَأْتيها
أصبحتَ تَنصَحُهم بالوعظ مُجتهدًا فالموبقاتُ لعَمْري أنتَ جانِيها
تَعيبُ دنيا وناسًا راغبينَ لها وأنت أكثرُ منهم رغبةً فيها
قد تستطيع أن تخدَع الناس دهرًا بالحروف وبالكلمات الرنَّانة المنمَّقة والأقوال الرائعة المقطوفة من أعلى الشجرات وأغناها، لكنك أبدًا لن تقدر على خداعهم بالمواقف والأحداث؛ فالمواقف تكشف الناس وتُجلِّي أخلاقهم الحقيقية.
باختصار: الجذر هو الأساس، فإن صلَح صلَحَت معه كلُّ الأمور الباقيات المتفرِّعات الأخرى؛ لذا إن رُمتَ صلاحَ العباد والإصلاح فيما بينهم، فلا تُتعب نفسك في حلِّ الخلافات الظاهرية، بل غامر قليلًا، وغُصْ نحو النقطة الأعمق والأبعد، اقترِبْ نحو الجذر، “جذرك أنت/ قلبك”، حاول أن تعالجه، صُبَّ عليه الكثير مِن ماءِ التواضع والقناعة، علِّمه أنَّ الطمع شيءٌ مهلك وبغيضٌ، يُتعب الأغصان والأوراق ويجعلها مرهقةً متخمةً!
علِّمه أنَّ الري بالنعم يكون دومًا عادلًا موزونًا، خاضعًا لقانون محكم متوازن، وضَعَه اللهُ العادل جلَّ في علاه، وأنَّ شيئًا من الراحة والاستجمام ضروريٌّ أيضًا للإنسان؛ لئلا يتعدَّى على حدود الآخَرين، ويطمَع بانتزاع سعادتهم وسكونهم، وراحة بالِهم التي فَقَدَها وأضاعها جرَّاء رَكْضِه في متاهات الحياة وقِفارها وفَيافيها، والتشرُّد بين تِلالِها والهضَبات؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) المائدة: 87ّ.
أخيرًا وليس آخِرًا، راقِب نفسك أكثر، ووجِّه إليها سهام النقد، لا تَجلِدْها، بل هذِّبها، اجلِس إليها، حاسِبها وجاهدها؛ لتتزكَّى، لتتطهَّر، لتتعلَّم حبَّ الخير أكثر، اعرِض عليها أخلاق العلماء والعظماء والصالحين، واعرِض عليها براءة الأطفال والأزهار والطيور، وتآلُف الطبيعة وعناصرها، علَّها تتعلَّم وتَرِق وتترقَّى، اقتطع فترةً بسيطةً من نهارك ولو دقائقَ معدوداتٍ للترويح عن النفس، والتأمُّل في جمال خلق الله وبديع صُنعه، اجعلها ساعةَ مكاشفةٍ ومحاسبةٍ، ومحاولةً لاكتساب علمٍ من كتابِ الوجود الواسع والتجمُّل به.
مجالسة العلماء والشيوخ لن تفيدك في شيءٍ ما لم تجاهد نفسك على أن تُزكيها أنت بنفسك؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم) الرعد: 11ّ.
ليكن لك مكانٌ هادئ في بيتك تَخلو فيه، وتدعو الله أن يُحسِّن خُلُقَك، وينقِّي سريرَتك، ويشفي نفسك ويزكِّيها، ويَهديك للطيِّب مِن القول، اسأله أن يرزقَك حبَّ المسلمين، وتَمَنَّ الرِّفعةَ والصلاحَ لهم، فما سبق السلف إلا بصدقِهم، وسلامة صدورهم، وصفاء نواياهم، وتَحابُبهم في الله، واجتماعهم وتعاونهم على البِرِّ والتقوى، وسعيهم الدؤوب لعزِّ الإسلام ووَحدة المسلمين، كل المسلمين.
إشراقة: إذا شئتَ أن تُنير الدرب للناس، فأَوْقِدْ قِنديلَك أولًا!