“مواقف العلماء عبر العصور في الدعوة إلى الله تعالى”

كتاب: “مواقف العلماء عبر العصور في الدعوة إلى الله تعالى

تأليف: الفقير إلى الله تعالى د. سعيد بن علي بن القحطاني.

 المقدمة:
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرً، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في ((مواقف العلماء في الدعوة إلى الله تعالى عبر العصور)) بيّنت فيها نماذج من المواقف المشرِّفة في الدعوة إلى الله تعالى،  واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف:
حرر ضحى يوم الخميس 25/2/14258

   المبحث الأول:مواقف الإمام منذر بن سعيد البلُّوطي.
منذر بن سعيد البلُّوطي له مواقف حكيمة في دعوته إلى الله -تعالى- تدلُ على حكمته، وفضله، وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن هذه المواقف الحكيمة على سبيل المثال ما يأتي:

– موقفه الحكيم مع سلطان الأندلس:
دخل المنذر بن سعيد يومًا على الناصر لدين الله وقد فرغ من بناء المدينة الزهراء وقصورها، حيث ساق إليها أنهارًا، نقب لها الجبل، وأنشأها مدوَّرةً، وعدد أبراجها ثلاث مئة بُرج، شرفاتها من حجر واحد، وقسَّمها أثلاثًا: فالثلث المسند إلى الجبل قصورهُ، والثلث الثاني دور المماليك والخدم، والثلث الثالث بساتين تحت القصور، وعمل مجلسًا مُشرفًا على البساتين، صَفّح عُمُدَه بالذهب، ورصَّعه بالياقوت، واللؤلؤ، وفرشه بمنقوش الرخام، وصنع أمامه بحيرةً مستديرة ملأها زئبقًا، فكان النور ينعكس منه إلى المجلس، وقعد في هذه القبة المزخرفة بالذهب والبناء البديع الذي لم يُسبق إليه، وجلس عنده جماعة من الأعيان رؤوس دولته وأمراؤه، فقال لهم: هل بلغكم أن أحدًا بنى مثل هذا البناء؟ فقال له الجماعة: لم نرَ ولم نسمع بمثله، وجعل جميع من حضر يثنون على ذلك البناء ويمدحونه وأثنوا وبالغوا، ومنذر بن سعيد القاضي ساكت مطرق لا يتكلم، فالتفت إليه الملك وقال: ما تقول أنت يا أبا الحكم؟ فبكى القاضي وانحدرت دموعه على لحيته، وقال: والله ما كنت أظن يا أمير المؤمنين أن الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله وفضلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين. فقال له الخليفة: انظر ما تقول وكيف أنزلني منازل الكافرين؟ فقال: قال الله تعالى: (وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) فنكس الناصر رأسه طويلاً، وبكى، ثم قال: جزاك الله عنا خيرًا وعن المسلمين، وأكثر في المسلمين مثلك، الذي قلت هو الحق. ثم قام عن المجلس وأمر بنقض سقف القبة، ونزع الذهب والجواهر.

المبحث الثاني: مواقف سلطان العلماء: العز بن عبد السلام.
العز بن عبد السلام، الملقب بسلطان العلماء، له مواقف حكيمة كثيرة في دعوته إلى الله -تعالى- فقد أزال بإنكاره الحكيم كثيرًا من المنكرات، وباشر تبطيل بعضها بنفسه، ومن ذلك: إبطاله كثيرًا من البدع المنتشرة، وذوده الحكيم عن أموال المسلمين، ومن ذلك أن السلطان وعساكره -عندما داهمت التتار البلاد عقب وقعة بغداد- استشاروا الشيخ فقال: اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر. فقال السلطان: إن المال في خزانتي قليل وأنا أريد أن أقترض من التجار، فقال الشيخ عز الدين: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام وضربته سكة ونقدًا، وفرقته في الجيش، ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا. فأحضر السلطان والعسكر ما عندهم من ذلك وامتثلوا أمره فانتصروا -بإذن الله تعالى-.

المبحث الثالث: من مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية.
ظهر شيخ الإسلام في عصر قد اضطربت فيه السياسة والحكم، وظهرت فيه انحرافات في العادات والتقاليد والسلوك والحياة، واشتدت فيه غربة الإسلام، وتفرقت كلمة المسلمين، وظهرت الفرق المخالفة لما كان عليه السلف الصالح في العقائد والفروع، وخيَّم الجمود الفكري والتقليد الأعمى، فأثر في الجو العلمي، وظهرت فرق الشيعة، والصوفية المنحرفة، والقبورية، وغيرها من الفرق المخالفة، والشيخ وقف مواقف حكيمة لإظهار علم الكتاب والسنة، وقمع أهل البدع والأهواء، ومن مواقفه في رفع وإزالة هذا البلاء الواقع ما يلي:
1- عنايته بالعلم قبل العمل.
2- بث النور ونشر العلم ونفع الأمة.
3- مواقفه الحكيمة مع قازان وقوات التتار.
له مواقف بطولية فذة حكيمة مع السلاطين، تدل على صدقه وإخلاصه وشجاعته في الحق، وقد ظهرت حكمة ابن تيمية في أثناء لقائه مع التتار وقائدهم في النقاط الآتية:
1- طلبه الأمان لأهل دمشق.
2- إصراره على رد جميع الأسرى من المسلمين وأهل الذمة.
3- جرأته وشجاعته.
4- تذكيره لقازان بنقضه للعهد.
5- عدم أكله من الطعام الذي قدمه قازان.
6- دعاؤه الذي دل على حكمته وعدله ونصرته لدين الله تعالى.
7- حثه الناس على الجهاد.

  المبحث الرابع: مواقف الإمام محمد بن عبد الوهاب.
كانت حالة المسلمين قُبيل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حالة لا يرضاها مؤمن؛ حيث كان الشرك الأكبر قد انتشر في نجد خاصة، وفي غيرها من بلاد المسلمين عامة، وكان الناس يقصدون قبر زيد بن الخطاب  في قرية الجبيلة يدعونه لتفريج الكرب، وكشف النوائب، وقضاء الحاجات، وانتشر الشرك في الحرمين الشريفين، وفي الطائف، وجدة، ومصر، واليمن، فكيف يعمل محمد بن عبد الوهاب في إزالة هذه العظائم، وما هو موقفه الحكيم لتغيير هذه الشركيات والخرافات(!
خطواته الحكيمة في إصلاح الأمة وتبديد الظلام:
عندما رأى الشيخ هذه المنكرات علم أنه لا يزيلها إلا قوة عظيمة، وعلم مبنيٌّ على فهم الكتاب والسنة، وعند ذلك عمل الخطوات الحكيمة الآتية:
1- عنايته بالتوحيد وتطبيقه.
2- بدأ بدعوته في عشيرته.
3- بحثه عن دعم قوة الدعوة بالسلطان.
4- غَرْسُ التوحيد في قلوب الناس وتصحيح عقيدتهم.
5- خطواته الحكيمة في الرجوع بالناس إلى الكتاب والسنة.
من المواقف الحكيمة والاستنباطات السديدة:
(أ) بيَّن للناس وأرشدهم إلى ما به الفلاح والنجاح، وجعل ذلك في أربع مسائل تسهل على كل مسلم فيحفظها، ويفهم معانيها، وفهمها من مقتضى الإسلام، وهي كالآتي:
المسألة الأولى: العلم، ثم بيَّن المراد به بأنه معرفة الله، ومعرفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
المسألة الثانية: العمل بالعلم.
المسألة الثالثة: الدعوة إليه.
المسألة الرابعة: الصبر على الأذى فيه.
(ب) أرشد الناس، وبيّن لهم أنه يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم ثلاث مسائل، ويعمل بهن:
المسألة الأولى: أن الله خلق العباد ورزقهم.
المسألة الثانية: أن الله لا يرضى أن يُشرك معه أحد في عبادته، لا ملكٌ مقربٌ، ولا نبي مرسل.
المسألة الثالثة: أن من أطاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووحد الله لا تجوز له موالاة من حادّ الله ورسوله ولو كان أقرب قريب.
(ج) بيّن الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم معرفتها.
(د) لم يغفل الشيخ الفروع والاعتناء بالفقه.
6- آخر مواقف الحكمة: الجهاد بالسيف والسنان:
بعد أن بدأ أعداء التوحيد بتكفير الشيخ وإهدار دمه ومن تبعه، وبعد أن بيّن لهم الشيخ نواقض الإسلام بأدلتها من الكتاب والسنة، فأعرضوا عن ذلك كله وكذبوا به، ورفضوا التوحيد، وحينئذ يكون آخر الطب الكي، فأمر الشيخ بالجهاد لمن عادى أهل التوحيد وسبه وسب أهله، ولم ينْقَدْ لشرع الله، ولم تنفع فيه الآيات البينات، واستمرت الحروب سنين عديدة، وكان النصر -بإذن اللَّه- حليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، فكانت القرى والعشائر تسقط واحدة تلو الأخرى بيده، فنشر الله الدعوة وأظهرها ونصرها، وقمع الباطل، وأذل أهله الذين عارضوا التوحيد.
ثم توفي الشيخ -رحمه الله- يوم الإثنين آخر شهر شوال سنة 1206 ه. وله من العمر نحو 92 سنة، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء؛ فقد أنقذ الله بمواقفه الحكيمة هذه الجزيرة وما جاورها من الشرك، وبدد الظلام، وأنار البلاد بنور التوحيد الخالص.

وهكذا ينبغي لكل داعية يرجو الله واليوم الآخر أن يكون حكيمًا في مواقفه، ناصرًا لدين الله، صابرًا محتسبًا مخلصًا، وبذلك يربح ويفوز في الدنيا والآخرة، والله المستعان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

Scroll to Top