د. خالد رُوشه.
قليل من الكبار من ينسى حكايات أمه، ونادر منهم من لا تناوشه ذكرياته كل فترة حول قصة قصتها له أمه بينما كان صغيرًا.
حضن الأم الدافئ، وشعور بالأمان بجوارها، وخيال الطفل الخصب، ورغبته في تصديق كل ما يقال له، كل ذلك يُكون بيئة نفسية ملائمة لنقش قصص الأم التي تقصها عليه كل حين في صدره؛ فتارةً قبل نومه، وتارة عند غضبه، وتارةً لإقناعه بشيء ما.
نستطيع نحن أن نساهم في بناء وجدان الطفل من خلال هذا المفتاح السهل البسيط، وأن نوجه المسيرة النفسية لأطفالنا في بدايتها، تلك التي تتشكل عبر ما يأتيها من بيئتها المحيطة ومما يصلها من قناعات.
لك أن تتخيل شخصية الطفل الصغير وتكوينه النفسي الهش الرقيق مع كل ما يلقى إليه من جانب يثق فيه تمام الثقة -وهي أمه- ويتكرر ذلك بصورة شبه يومية على مسامعه، تاركًا لخياله العنان لفترات طويلة لتصور تلك القصص واقعيًا، إن ذلك التأثير ليُحفر ولا شك في وجدان الطفل وذاكرته شئنا أم أبينا.
لا شك أن جانبًا كبيرًا من ذلك الفعل الإيجابي -فعل القصص من الأم لابنها الصغير- قد أُسيء استخدامه كثيرًا، تارةً بسبب جهل الأم بدورها، وتارةً بسبب جهلها علميًا وثقافيًا، وتارةً بسبب رغبتها في الانصياع لطلبات الطفل في الحكاية، فظلت كثير من الأمهات يقتصرن في حكايتهن لأطفالهن حول خيالات وهمية، ومواقف منبتة عن الواقع، ويصعب الاستفادة منها وتطبيقها في الحياة.
ومن أسوأ ما انتشر عبر عقود في حكايات الأمهات ما وردنا من تراث بعيد عن الإسلام حول قصص “سندريلا، وطرزان، الغول، والساحرة الشريرة” وغيرها من القصص التي لطالما رددتها الأمهات على مسامع الصغار فأورثت فيهم أنواع البلاهة، وعمقت فيهم معاني التيه، التي ظلت راسخة في وجدانهم حتى الكبر.
لقد علمنا المنهج الإسلامي التربوي كيف نستغل القصة في تربية أبنائنا، بل وفي تربية الكبار وتوجيههم، قال سبحانه: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، لكن القصص الإسلامي يتميز بميزات تربوية إيجابية كفيلة بحسن تنشئة وجدان الأطفال وتقويم نفوسهم، وترسيخ الفضيلة في عمق قلوبهم؛ إذ تتميز بالصدق والواقعية، وتتميز بكونها تهدف للصلاح والإصلاح.
وهذان نموذجان للقصة الهادفة أرجو أن يكونا بيانًا لما نريده:
النموذج الأول:
ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ: لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، فَقَالَ: الَّذِي شَرَى الأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ، فَقَالَ: أَحَدُهُمَا: لِي غُلامٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، فَقَالَ: أَنْكِحِ الْغُلامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا)، وواضح من القصة ما فيها من التربية على النقاء والشفافية، مع إعلاء قيمة الحق وبذله، وقمع الطمع، مع ترسيخ لفكرة المشاركة في الخير، وتحسين لصورة القضاء العادل وغيرها.
النموذج الثاني:
روى البخاري رحمه الله في صحيحه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ “في رِوَايَة أَبِي سَلَمَة” (أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل كَانَ يُسْلِف النَّاس إِذَا أَتَاهُ الرَّجُل بِكَفِيلٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ قَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَقَالَ (سُبْحَان اللَّه نَعَمْ ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ) أَي: الْأَلْف دِينَار، (إِلَى أَجَلٍ مُسَمى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ) وفِي رِوَايَة: (فَرَكِبَ الرَّجُل الْبَحْر بِالْمَالِ يَتَّجِر فِيهِ فَقَدَّرَ اللَّه أَنْ حَلَّ الْأَجَل وَارْتَجَّ الْبَحْر بَيْنهمَا، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا)، زَادَ فِي رِوَايَة أَبِي سَلَمَة (وَغَدَا رَبّ الْمَال إِلَى السَّاحِل يَسْأَل عَنْهُ وَيَقُول: اللَّهُمَّ اُخْلُفْنِي وَإِنَّمَا أَعْطَيْت لَك، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا) أَي: حَفَرَهَا، وَفِي رِوَايَة: (فَنَجَرَ خَشَبَة، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ)، وجاء في حديث آخر: (فَعَمِلَ تَابُوتًا وَجَعَلَ فِيهِ الْأَلْف، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا)، وَزَادَ فِي حَدِيث، (فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَدِّ حَمَالَتك، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ) أَي: دَخَلَتْ فِي الْبَحْر، (ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ)، وَفِي رِوَايَة أَبِي سَلَمَة (وَغَدَا رَبّ الْمَال يَسْأَل عَنْ صَاحِبه كَمَا كَانَ يَسْأَل فَيَجِد الْخَشَبَة فَيَحْمِلهَا إِلَى أَهْله فَقَالَ: أَوْقِدُوا هَذِهِ، فَكَسَرُوهَا فَانْتَثَرَتْ الدَّنَانِير مِنْهَا وَالصَّحِيفَة، فَقَرَأَهَا وَعَرَفَ)، قال صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا)، وفي رواية: (قَدْ أَدَّى اللَّه عَنْك، وَقَدْ بَلَغَنَا الْأَلْف فِي التَّابُوت، فَأَمْسِكْ عَلَيْك أَلْفك)، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وَلَقَدْ رَأَيْتنَا عِنْد رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَكْثُر مِرَاؤُنَا وَلَغَطنَا، أَيّهمَا آمَن(.
فتلك قصة فيها من معاني الأمانة والتوكل على الله والعدل وطهارة المعاملة وحسن الخلق والوفاء بالعهود ما هو غني عن البيان وكيف تفاعل الصحابة مع القصة لدرجة محاورتهم حولها في أي الرجلين أكثر أمانة، وأنا أراه المدين صاحب الخشبة، فتدبروا.
المصدر: موقع المسلم