د. جواهر عبد العزيز آل الشيخ.
الحب عاطفة إنسانية راقية، وإن كانت مخلوقات الله جميعها تكاد تشعر بها حسب الفطرة التي جُبلت عليها، بيد أن الحب البشري يحتاج لمجلدات لكي تفسّر عجائبه، وتفكّ طلاسمه، وكم تحدّث عن هذه العاطفة بأنواعها المتعددة علماء النفس والفلاسفة والشعراء.
ومن خلال مسارات الحياة المتنوعة نلحظ أن الحب كعاطفة “وجدانية” إنما يعني الحب الغرامي والمشاعر الجياشة، أو “إنسانية” تشمل الأمومة وهي أسمى معاني العواطف لدى المخلوقات جميعاًَ، أو تعني الأخوة أو الصداقة وما سار في هذا المضمار.
وبلا شك فإن أكثر العواطف ديمومة وبقاء، إنما هي “الحب في الله”؛ لأنها هي التي تتسامى على مشاعر الأنانية وعشق الذات، وهي التي يحفظ فيها الإنسان غيبة أخيه ويذبّ عنه في ظهر الغيب، ويحب له ما يحب لنفسه، وأعظم مثل لها تآخي “المهاجرين والأنصار” -رضوان الله تعالى عليهم- جميعًا الذين تشاركوا حتى في لقمة الطعام، بل تنازل الأنصار للمهاجرين عن بعض زوجاتهم وكذا ممتلكاتهم التي قد لا يجدون غيرها، إنه الحب في الله ما أعظمه !
قال تعالى : ( الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الزخرف: 67.
ومن دون ريب، فإن العاطفة الجياشة والمشاعر الملتهبة التي يخص بها شخص شخصً بذاته، ويكاد المحب يحصر اهتمامه بل يقصر حياته على المحبوب، فلا يرى الدنيا إلا من خلاله، فذلك هو البلاء العظيم الذي نسأل الله لنا جميعًا المعافاة من عبوديته وذله، (فالعبودية لله وحده) وهو الكامل المستحق لها، فهو الذي يزيد المتقرب منه عزًا.
أما بنو البشر فيزيدون إذلالاً من يشعرهم بنقاط ضعفهم؟ حقًا ما أشدّ ظلم الإنسان لأخيه الإنسان!
روي عن أحد الخلفاء العباسيين وهو “الواثق” أنه قال شعرًا في تجربة وقعت له في هذا المجال أنزلته من كرامة مُلْكِه الذي تفضل به عليه الخالق إلى ذل العشق لمن يعدّ في جملة ممتلكاته حتى انقلبت الحال بأن أصبح المعشوق مالكًا عزيزًا مذلاً لسيده وأي سيد هو، إذ يقول:
يا ذا الذي بعذابي ظلَّ مفتخرًا *** هل أنت إلا مليكٌ جارَ فاقتدرا
لولا الهوى لتجارينا على قدَرٍ *** فإنْ أَفِقْ مرةً منه فسوف ترى
وفي هذا المضمار روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: “إذا رفعْتَ امرءًا فوق قدْره، فتوقّع أن ينزلك دون قدرك”، وتكاد تكون هذه قاعدة من قواعد العلاقات البشرية إذا لم تكن في الله ولله وبالله ما بين الطرفين معًا، ولا سيّما أن كثيرًا من بني البشر يعتمدون في علاقاتهم الابتزاز المعنوي والعاطفي والغموض وتضخيم الذات، وتعمّد إهانة الطرف الآخر الذي أمنوا شرّه واطمأنوا لجانبه.
لذا فقد دعت الحكمة الحياتية إلى إحداث “التوازن” في العلاقات الإنسانية بعامة، فكم هو عظيم ذلك القول الرائد في الأثر الذي ينادي بأن: “أحْبِبْ حبيبك هونًا ما، فربما صار بغيضك يومًا ما، وأبغضْ بغيضك هونًا ما، فربما صار حبيبك يومًا ما”، إنه نداء للاعتدال النفسي والعاطفي، فصديق اليوم قد يكون عدوّ الغد، وعدوّ اليوم قد تمدّ معه الجسور غدًا، والكائن البشري مزيج من الخير والشر، والسعيد من استخرج من الآخرين أفضل ما فيهم.
ولكن هل في هذا الزمن العجيب مجال لمثل تلك العواطف الغيرية المتوازنة المتبادلة؟ أمْ اندثرتْ مع اندثار أصحابها؟ ولم يعد يوجد إلا “علاقات المصالح المكشوفة” التي تشبه المسرحية الهزلية ذات الفصول الفجّة، وهل كلّ البشر يستحقونها؟ أم أنهم “معادن مختلفة” ينطبق عليهم قول المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فبعضهم كالأرض الخصبة يُحيي مواتها أقل قطرة من المطر، أما الآخر فهو أرض جدباء مهما أجزلت له الحب والعطاء وأغدقت عليه صنوف الاهتمام فلا يزداد إلاّ نكرانًا وجحودًا.
ولعل إجابة التساؤلات السابقة كافة وغيرها، تكمن في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) الفرقان: 20، فعسانا ثم عسانا أن نتحمّل لعْق مرارة الصبر حتى نحرز ديمومة الرحمة الربانية.
المصدر: صيد الفوائد.