د. خالد رُوشه.
أبناؤنا مكون قابل للتشكيل والتقويم ما دام في مراحله الأولى من حياته، كما أنهم مكون قابل للتأثر من جميع المؤثرات التي تحيط بهم.
تتراكم في ذاكرتهم شتى المواقف السلبية والإيجابية، وتلتقي مع مكوناتهم النفسية ونتاج العملية التربوية التي يتعرضون لها؛ فتتكون شخصياتهم المتفردة، ومع مرور الوقت وتتابع الأحداث تترسخ الصفات الإيجابية كما تجد الصفات السلبية طريقها إلى تلك الشخصيات الصغيرة.
إنهم يولدون على الفطرة الطاهرة النقية، ثم يتأثرون -بيئيًا- بما يلاقونه من المجتمعات من حولهم، ومن المربين، ومن الآباء والأمهات، كما أنهم يكونون هدفًا للشيطان الرجيم لنفخه ونفثه ووسوسته وتزيينه وإضلاله.
وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- صريح في ذلك؛ مما رواه مسلم (يولد المولود على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، والحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين)، من هنا كانت أهمية الدور النفسي والتربوي للوالدين؛ إذ أنه يمثل الإطار الأول الذي تتشكل على اعتباره شخصية الأبناء، وتترسخ على إطاره صفاتهم.
الصحة النفسية للأبناء تكاد تكون أهم من الصحة البدنية؛ إذ معها يصح القلب، ويطهر الصدر، ويقبل الابن على السلوك القويم، وينفر من الانحرافات بشتى أشكالها.
ومع الأسف فإن بعض الآباء يكتفون بدور الإنفاق وكفالة الأمان لأسرته والقيام ببعض الأعمال التي تدور في فلك الاسترزاق والحماية، ويغفل كثيرون منهم عن الدور النفسي الذي هو الأهم على الإطلاق؛ فقد يكتفي الأبناء بالقليل من الرزق إذا كان عندهم الكفاية القلبية والنفسية، وقد يكتفون بالقليل من التأمين إذا قويت قلوبهم واستطاعوا مواجهة تقلبات الأيام، وما القوة النفسية والقدرة على مواجهة المشكلات إلا أثرًا من آثار قوة القلب التي هي أثر من آثار تربية الوالدين.
كثير من الآباء يعتبرون أبناءهم نماذج مكررة أو آنية فارغة، ويغفلون عن كونهم تركيبات نفسية مستقلة تتأثر بما يحيط بها، وتكّون أحجار أسسها مما يمر بها من أحداث وخبرات.
وصحة الأبناء النفسية هي الدافع وراء النجاح في الحياة بشتى مظاهرها الإيجابية، بل هو دافع حسن للرؤية الصالحة، ولتكوين الشخصية المسلمة النافعة.
والأب له دور كبير في التكوين النفسي لأبنائه عبر مناحٍ مختلفة؛ نتيجة معايشته إياه خصوصًا والأبناء في فترات حياتهم الأولى تكون نفوسهم أشبه بالأطباق الهوائية التي تلتقط كل ما يبث من حولها غير مستطيعة لانتقاء الصواب من الخطأ والحسن من القبيح؛ كذلك يتأثر الأبناء بالآباء كونهم يرونهم قدوتهم الكبرى عبر سن حياتهم الأولى؛ فيتعلقون بتلك القدوة، ويصيبهم الإحباط عندما يجدون الإساءة منها أو الإهمال أو يجدونها شخصية ضدية وخصمية لهم، أو يستشعرون منها القسوة أو غيره في المراحل الأولى، ويهتم الأبناء بتقليد الآباء تقليدًا سببه الإعجاب والتعلق؛ فيصير الابن وكأنه صورة مصغرة من والده حتى إنه ليتقمص دوره وشخصيته أثناء اللعب ويلبس ملابسه أثناء غيابه، ويقلده في طريقة الأكل والشرب والنوم بل والضحك والسخرية، ويقلده في الإيجابيات أيضًا الصلاة والذكر وغيرها.
وهنا يحتاج الأبناء من الآباء نوعًا معينًا من الدعم النفسي يقوم مقام المصفىي ” الفلتر” الذي ينقي الوارد من الخارج، بحيث يفهمه الصواب من الخطأ، ويقول له بصراحة ووضوح ” نعم افعل هذا فهو صواب ” و” لا لا تفعل ذلك فهو خطأ “، هاهنا يلزم الأب ألا يكتفي بمقولة خطأ أو صواب، وإنما عليه أن يبين السبب ببساطة ويربط ذلك بالفضائل وبحب الله وبتشجيعه هو نفسه؛ فالدعم النفسي للأبناء في هذه المرحلة يجب أن يهتم أيضًا ببناء الثقة بين الآباء والأبناء، ويجب ألا تتغير معاملة الآباء لأبنائهم فجأة لمجرد الخطأ، بل عليه أن يكرر التحذير مرات ومرات ثم يبدأ في العقوبة، ويجب أن تكون العقوبة متدرجة من البسيط إلى الأصعب، ويجب ألا يكون من بينها الضرب إلا بنذر يسير جدًا مع عدم الغضب أثناءه.
كذلك يجب ألا يكون الأبناء موجودين في محيط مشكلات الوالدين معًا؛ لأنه قد يسمع ما يكرهه من أبيه أو أمه، أو من أحدهما تجاه الآخر؛ مما يمكن أن يبقى في مخيلته سنين طويلة لا يمحى.
التفسير هو الآخر مبدأ هام في تلك المرحلة بمعنى تفهيم الولد سبب غضب أبيه منه أو سبب سعادته منه، والتفسير ههنا يعتبر نوعًا من الدعم النفسي إذ إنه يبني معنى المبادئ في قلوب الأبناء ويفهمهم معنى القيم والمثل العليا، وإنما تبنى القيم في هذه المرحلة بالخصوص على أفضل وجه.
وكلما كبر الابن عامًا كان محتاجًا لزيادة دعمه النفسي؛ ففي المرحلة الوسطى تبدأ شخصية الأبناء في التكوين والبلورة، وههنا يجب على الآباء استعمال أنواع جديدة من الدعم النفسي؛ فالتشجيع نوع مهم من أنواع الدعم النفسي لهم، ويجب أن يكون التشجيع متعلقًا بالإنجاز، ويمكن أن يبدأ التشجيع ببحث الأب مع ابنه عن مميزاته الشخصية، فيساعده على معرفة نفسه، ويقول له: أنت متميز في أشياء كثيرة ولكني أريدك أن تركز لي على أكثر الأشياء التي تحبها وهي مقربة إلى قلبك، وعليه أن يدعمه في ذلك بأن يشتري له كتابًا في مجال تميزه أو يصطحبه معه لشراء هدية في مجال تميزه، أو أن يلحقه بدورات متخصصة أو مثال ذلك.
وبث معنى التفاؤل وعدم اليأس في نفس الابن نوع آخر من الدعم النفسي؛ فيجب أن يتعلم الأبناء أن يجربوا ويخطئوا ويكرروا محاولاتهم حتى يصلوا إلى النجاح، والأب هاهنا داعم لهم مع كل خطأ حتى يصل لنجاح تجربته فعندئذ يستغل الأب الموقف ويجزل له الثواب.
وفي مرحلة المراهقة يحتاج الأبناء إلى تعامل خاص من آبائهم، ذلك التعامل القائم على المحبة والاحترام وشيء من الصداقة؛ فالأب الذي ينجح أن يقيم بينه وبين ابنه محبة واحترام وصحبة فقد نجح في المرور بابنه من مرحلة المراهقة بسلام، فيجب أن يكون داعمًا له في اختيار أصدقائه، ليس عن طريق اختيار الأسماء والأشخاص، بل عن طريق تفهيم طبائع الناس وكيفية الحكم عليهم، وكيف يختار صديقه، وكيف يتعامل مع المواقف السلبية من الأصدقاء، وكيف يكون قائدًا لا مقودًا بين أصدقائه، وكيف يخرج السلبي من سلوكهم ويبتعد عنه، وكيف يستطيع أن يكون عنصر إصلاح بينهم، وغير ذلك.
وهناك جانب آخر هام في مجال الدعم النفسي للأبناء خصوصًا في مرحلة المراهقة وهو ما يتعلق بالمال وإنفاقه؛ فيجب ألا يشعر الابن ببخل أبيه عليه في الإنفاق، بل يشعره بحبه أثناء عطائه، وإن كان الأب فقيرًا، وعليه أن يفهمه أنه يبذل جهده لأجل سعادته، ولكن مع ذلك يجب أن يستمع الأبناء إلى دروس خفيفة في حسن إنفاق المال، ووضعه في مكانه، وقيمة المال في يد المرء الصالح وغيرها، وإن طريقة العطاء البخيل تنتج شابًا بخيلاً أيضًا محبًا للمال، وطريقة عطاء الكريم تنتج شابًا كريمًا محبًا للعطاء والصدقة والنفع للآخرين.
المصدر: موقع المسلم.