مع آيات السكينة

فرحان العطار.

إن البشرية اليوم تحتاج إلى من يفتح لها نوافذ السكينة لتدلف النفوس إلى واحات الرحمة، ولتذوق طعم الراحة والطمأنينة، لتُشرق حينئذ الحياة وتُذاق لذتها، فلا يضر المرء حينها أن يعيش في وسط هذا الزخم المذهل من جمود الحياة وتقلص سعادتها، فالعبد يحتاج إلى كل ملطف يلطف به أرجاء نفسه لتصفو، ويطرق كل باب يستطيعه ليترقى في درجات الفلاح ويعلو، وإن القرآن الكريم أعظم ما تطمئن به القلوب وترتاح، وأنجع ما تُدفع به الهموم والاتراح، ونقتبس من معينه في هذه الكلمات آيات السكينة، ونسلط عليها الضوء لنعرف الحق ونستبينه، قال ابن القيم رحمه الله: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة ا.هـ وهذا من فقهه للكتاب والسنة على ما سنذكره من الآيات، وقد استفاد ابن القيم من هذه الفائدة العظيمة من شيخه فعمل بها حيث يقول “وقد جربت أنا أيضًا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته” ا.هـ
يالله! ما أشد حاجتنا إلى هذا العلاج القرآني، وحالات القلق والهموم والاضطرابات العصبية والأحزان، قد عصفت بكثير من أبناء الجيل، فجعلتهم ما بين جريح وقتيل، مع أن العلاج بسيط جدًا، والوصفة يملكها كل مسلم.
وهذه الآيات التي سأذكرها هي أحد بنود هذه الوصفة، إذا قرأها موقنًا بها قلبه، فإنها -بإذن الله- من أعظم الأسباب في سكون القلب وتلاشي اضطرابه، وهي تشمل كل ما ذكر من لفظ السكينة في القرآن، جُمعت هنا ليسهل حفظها، مع تذكير سريع بالأجواء التي نزلت فيها ليتيسر فهمها وهي كالتالي:
1- (قَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) البقرة: 248، قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير هذه الآية: ” و(التَّابُوتُ) شيء من الخشب أو من العاج يُشبه الصندوق، ينزل ويصطحبونه معهم، وفيه السكينة -يعني أنه كالشيء الذي يُسكنهم ويطمئنون إليه- وهذا من آيات الله” وقال ” وصار معهم -أي التابوت- يصطحبونه في غزواتهم فيه السكينة من الله سبحانه وتعالى: أنهم إذا رأوا هذا التابوت سكنت قلوبهم، وانشرحت صدورهم”.
2- في يوم حنين وفي تلك الساعات الحرجة، التي قال الله عنها: (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) {25} ) نزلت السكينة فقال تعالى: (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) التوبة: 26،.
3- ولو نظر أحد المشركين إلى ما تحت قدمه في يوم الهجرة لرأى النبي وصاحبه قال ابن سعدي: “فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر على بال” فقال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة :40،.
4- وفي الحديبية تزلزلت القلوب من تحكم الكفار عليهم فنزلت في تلك اللحظات السكينة فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) الفتح:4، والظاهر -والله أعلم- بأن الحديبية كانت من أشد المواقف التي أُمتحن فيها المسلمون، يدل على ذلك تنزّل السكينة فيها أكثر من مرة كان هذا الموقف أحدها.
5- وهذا الموقف الثاني الذي ذكر الله فيه تنزّل السكينة في الحديبية، عند بيعة الرضوان حيث قال تعالى:  (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتح: 18.
6- وهذه الآية السادسة والأخيرة وهي المرة الثالثة الذي ذكر الله تنزّل السكينة فيها في الحديبية فقال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) الفتح:26،.
فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أهمية السكينة، وأن بعض المواقف تحتاج إلى تنزّل السكينة أكثر من مرة لأهميتها في تجاوز ذلك الموقف والموفق من وفقه الله.
فتأمل نزول السكينة في الساعات الحرجة ولحظات الاضطراب، ثم تأمل حساسية المواقف التي نزلت فيها تلك الآيات وتنوع أشكالها، لعلك تُدرك أثر السكينة في تثبيت النفس وسكون اضطرابها، وعميق ما تُخلفه من ظلال وارفة على القلب قد آتت ثمارها.
فهذه آيات السكينة في القرآن، وهذا بعض أثرها على قلبك أيها الإنسان، فلتحفظها ولتكن منك على بال، ولنقرأها على أنفسنا وأزواجنا والأطفال، فإن الأثر عظيم، والنتيجة معلومة.
اللهم لولاك ما اهتدينا       و لا تصدقنا ولا صلينا
فأنزل سكينة علينا       و ثبت الأقدام إن لاقينا
اللهم اجعلنا ممن تتنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة، واجعلنا ممن تذكره عندك عندك في الملأ الأعلى. آمين، آمين.

المصدر: صيد الفوائد.

 

 

Scroll to Top