د. عبد المعطي الدالاتي.
بروفسور أمريكي في الرياضيات، أسلم ووضع كتابه “الصراع من أجل الإيمان” الذي ضمّنه قصة إسلامه، وأصدر مؤخرًا كتاب “حتى الملائكة تسأل رحلة الإسلام إلى أمريكا”.
يحدثنا د. جيفري لانغ عن إسلامه:
“لقد كانت غرفة صغيرة، ليس فيها أثاث ما عدا سجادة حمراء، ولم يكن ثمة زينة على جدرانها الرمادية، وكانت هناك نافذة صغيرة يتسلّل منها النور، كنا جميعًا في صفوف، وأنا في الصف الثالث، لم أكن أعرف أحدًا منهم، كنا ننحني على نحو منتظم فتلامس جباهنا الأرض، وكان الجو هادئًا، وخيم السكون على المكان، نظرت إلى الأمام فإذا شخص يؤمّنا واقفًا تحت النافذة، كان يرتدي عباءة بيضاء، استيقظت من نومي! رأيت هذا الحلم عدة مرات خلال الأعوام العشرة الماضية، وكنت أصحو على أثره مرتاحًا.
في جامعة “سان فرانسيسكو” تعرفت على طالب عربي كنت أُدرِّسُهُ، فتوثقت علاقتي به، وأهداني نسخة من القرآن، فلما قرأته لأول مرة شعرت كأن القرآن هو الذي”يقرأني!”.
وفي يوم عزمت على زيارة هذا الطالب في مسجد الجامعة، هبطت الدرج ووقفت أمام الباب متهيبًا الدخول، فصعدت وأخذت نفسًا طويلاً، وهبطت ثانية لم تكن رجلاي قادرتين على حملي! مددت يدي إلى قبضة الباب فبدأت ترتجف، ثم هرعت إلى أعلى الدرج ثانية، شعرت بالهزيمة، وفكرت بالعودة إلى مكتبي .. مرت عدة ثوانٍ كانت هائلة ومليئة بالأسرار اضطرتني أن أنظر خلالها إلى السماء، لقد مرت عليّ عشر سنوات وأنا أقاوم الدعاء والنظر إلى السماء! أما الآن فقد انهارت المقاومة وارتفع الدعاء:
“اللهم إن كنت تريد لي دخول المسجد فامنحني القوة”.
نزلت الدرج، دفعت الباب، كان في الداخل شابان يتحادثان، ردا التحية، وسألني أحدهما: هل تريد أن تعرف شيئًا عن الإسلام؟ أجبت: نعم، نعم، وبعد حوار طويل أبديت رغبتي باعتناق الإسلام فقال لي الإمام: قل أشهد، قلت: أشهد، قال: أن لا إله، قلت: أن لا إله -لقد كنت أؤمن بهذه العبارة طوال حياتي قبل اللحظة- قال : إلا الله، رددتها، قال: وأشهد أن محمدًا رسول الله، نطقتها خلفه.
لقد كانت هذه الكلمات كقطرات الماء الصافي تنحدر في الحلق المحترق لرجل قارب الموت من الظمأ، لن أنسى أبدًا اللحظة التي نطقت بها بالشهادة لأول مرة، لقد كانت بالنسبة إليّ اللحظة الأصعب في حياتي، ولكنها الأكثر قوة وتحررًا.
بعد يومين تعلمت أول صلاة جمعة، كنا في الركعة الثانية، والإمام يتلو القرآن، ونحن خلفه مصطفون، الكتف على الكتف، كنا نتحرك وكأننا جسد واحد، كنت أنا في الصف الثالث، وجباهنا ملامسة للسجادة الحمراء، وكان الجو هادئًا والسكون مخيمًا على المكان!! والإمام تحت النافذة التي يتسلل منها النور يرتدي عباءة بيضاء! صرخت في نفسي: إنه الحلم! إنه الحلم ذاته، تساءلت: هل أنا الآن في حلم حقًا(! فاضت عيناي بالدموع، السلام عليكم ورحمة الله، انفتلتُ من الصلاة، ورحت أتأمل الجدران الرمادية! تملكني الخوف والرهبة عندما شعرت لأول مرة بالحب، الذي لا يُنال إلا بأن نعود إلى الله” (1).
برفّةِ روحي، وخفقةِ قلبي *** بحبّ سرى في كياني يلبّي
سألتكَ ربّي لترضى ، وإني *** لأرجو رضاك -إلهي -بحبي
وأعذبُ نجوى سرَت في جَناني *** وهزّتْ كياني “أحبك ربي”
(2)
وطبيعي أن تنهال الأسئلة على الدكتور جيفري لانغ باحثة عن سر إسلامه فكان يجيب:
“في لحظة من اللحظات الخاصة في حياتي، منّ الله بواسع علمه ورحمته عليّ، بعد أن وجد فيّ ما أكابد من العذاب والألم، وبعد أن وجد لدي الاستعداد الكبير إلى مَلء الخواء الروحي في نفسي، فأصبحت مسلمًا، قبل الإسلام لم أكن أعرف في حياتي معنى للحب، ولكنني عندما قرأت القرآن شعرت بفيض واسع من الرحمة والعطف يغمرني، وبدأت أشعر بديمومة الحب في قلبي، فالذي قادني إلى الإسلام هو محبة الله التي لا تقاوَم” (3).
“الإسلام هو الخضوع لإرادة الله، وطريق يقود إلى ارتقاء لا حدود له، وإلى درجات لا حدود لها من السلام والطمأنينة .. إنه المحرك للقدرات الإنسانية جميعها، إنه التزام طوعي للجسد والعقل والقلب والروح” (4).
“القرآن هذا الكتاب الكريم قد أسرني بقوة، وتملّك قلبي، وجعلني أستسلم لله، والقرآن يدفع قارئه إلى اللحظة القصوى، حيث يتبدّى للقارئ أنه يقف بمفرده أمام خالقه (5)، وإذا ما اتخذت القرآن بجدية فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة، فهو يحمل عليك، وكأن له حقوقًا عليك! وهو يجادلك، وينتقدك ويُخجلك ويتحداك، لقد كنت على الطرف الآخر، وبدا واضحًا أن مُنزل القرآن كان يعرفني أكثر مما أعرف نفسي، لقد كان القرآن يسبقني دومًا في تفكيري، وكان يخاطب تساؤلاتي، وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت أكتشف الإجابة في اليوم التالي، لقد قابلت نفسي وجهًا لوجه في صفحات القرآن” (6).
“بعد أن أسلمت كنت أُجهد نفسي في حضور الصلوات كي أسمع صوت القراءة، على الرغم من أني كنت أجهل العربية، ولما سُئلت عن ذلك أجبت: لماذا يسكن الطفل الرضيع ويرتاح لصوت أمه؟ أتمنى أن أعيش تحت حماية ذلك الصوت إلى الأبد” (7).
“الصلاة هي المقياس الرئيس اليومي لدرجة خضوع المؤمن لربه، ويا لها من مشاعر رائعة الجمال، فعندما تسجد بثبات على الأرض تشعر فجأة كأنك رُفعت إلى الجنة، تتنفس من هوائها، وتشتمُّ تربتها، وتتنشق شذا عبيرها، وتشعر وكأنك توشك أن ترفع عن الأرض، وتوضع بين ذراعي الحب الأسمى والأعظم” (8).
“وإن صلاة الفجر هي من أكثر العبادات إثارة، فثمة دافع ما في النهوض فجرًا -بينما الجميع نائمون- لتسمع القرآن تملأ سكون الليل، فتشعر وكأنك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجّد الله عند الفجر” (9).
ونختم الحديث عن د. جيفري لانغ بإحدى نجاواه لله: “يا ربي إذا ما جنحتُ مرة ثانية نحو الكفر بك في حياتي، اللهم أهلكني قبل ذلك وخلصني من هذه الحياة، اللهم إني لا أطيق العيش ولو ليوم واحد من غير الإيمان بك” (10).
* * *
من كتاب “ربحت محمدًا ولم أخسر المسيح ”
——————————-
(1)
نقلاً باختصار عن كتابيه (الصراع من أجل الإيمان) و(حتى الملائكة تسأل) وقد يعجب القارئ من هذا الجَيشان العاطفي للدكتور جيفري ، وهو أستاذ الرياضيات ! ولكن متى كانت الرياضيات أو الفيزياء بمعزل عن العاطفة ، يقول الفيلسوف برناردشو “من ذا الذي يجرؤ على القول بأن الرياضيات ليست عواطف(!” ويقول ألكسيس كارليل “لا غنى عن العاطفة لتَقدُّم العقل ، فالحب ينبه العقل عندما لا يبلغ هدفه” ويقول غوته “المعرفة ستكون من الإحاطة والعمق بقدر ما يكون الحب” ، ويقول لافارج : “إن العاطفة تشكل حياة العالم” فالبصيرة والعاطفة تضيء للعقل طريقه ، ويقول الإمام محمد عبده “الدين الكامل علم وذوق وفكر ووجدان ، فلا فرق بين العقل والوجدان ، في الوجهة ! فهما عينان للإنسان ينظر بهما” .
(2)
الأبيات من ديوان ؟ أحبك ربي) د.عبد المعطي الدالاتي ص(91) .
(3)
(حتى الملائكة تسأل) د. جيفري لانغ ص (211-280) .
(4)
نفسه ص (75) .
(5)
نفسه ص (209) .
(6)
(الصراع من أجل الإيمان) ص (34) .
(7)
نفسه ص (120) .
(8)
(حتى الملائكة تسأل) ص (366) .
(9)
(الصراع من أجل الإيمان) ص (111) .
(10)
(حتى الملائكة تسأل) ص (234) .
المصدر: صيد الفوائد.