سامي بن خالد الحمود.

مقدمة:
الحمد لله الكريم المنان، الرحيم الرحمن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أيها الأحبة الكرام: أهلاً وسهلاً بكم.
فاتحة الكلام: هذه الحادثة المؤثرة لسيد الخطباء  .
ها هو  يعودُ من غزوة حنين، ويعطي الأموال الجزيلة للمؤلفة قلوبهم من سادات قريش وقبائل العرب، ويترك الأنصار فلم يعطهم منها شيئًا.
وجد الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة، وينتشر الخبر، فيدخل سيد الخزرج سعد بن عبادة على رسول الله فيقول: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء فقال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
ينطلق سعد فيجمع الأنصار، فيدخل عليهم النبي، ويخطُبهم خُطبة مؤثرة مبكية، تأخذ بمجامع القلوب، انتصب قائمًا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (يا معشرَ الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجِدَةٌ وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله؟ وعالةً فأغناكم الله؟ وأعداءً فألف بين قلوبكم. قالوا: بَلِ اللهُ ورسولُه أمَنُّ وأفضل، قال: (ألا تجيبونني يا معشر الأنصار).
قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل، قال: (أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقتم وصُدِّقتم، أتيتنا مكذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لُعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرةُ لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناءَ الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار).
الله أكبر بهذه الكلمات اليسيرة هيج النبي صلى الله عليه وسلم مشاعر الأنصار، ومحى كل ما في قلوبهم من الوجد والانكسار.
إنها كلمات، نعم كلمات، لكنها تخرج من فمه الشريف قذائف وبراكين، لتقلب الموازين، وتسحر المخاطبين، فماذا كانت النتيجة؟
يقول الراوي في بيان حال الأنصار بعد هذه الخطبة: “فبكى القوم حتى أَخْضَلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قِسمًا وحظًا” والحديث رواه أحمد بإسناد حسن.
هذه الخطبة البليغة لسيد الخطباء، هي خير ما نستفتح به الكلام عن هذا الموضوع، افتتاحية اشتملت على إثارة الانتباه بالسؤال (ما قالة بلغتني عنكم)، ثم استفهام تقريري (ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله)، ثم مضمون بليغ يلامس القلوب (أوجدتم في أنفسكم في لُعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قومًا ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم)، ثم خاتمة بدعاء صادق يأسر النفوس (اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار).
موضوعنا أيها الأحبة هو: “فن الإعداد والإلقاء”.
وإذا كنا نتحدث عن الإلقاء والخطابة فإننا نتحدث عن نعمة من أعظم نعم الله علينا “اللسان عظيم الشان” وهو ترجمان الجنان، كم من لسان كان أحد من السنان، وكم من بيانٍ ساحر كان أشد من سحر الساحر، وصدق الشاعر:
ولسانٌ صيرفيٌ صارمٌ كذباب السيف ما مس قطعْ
سحر هاروت وماروت ولو      كلم الصخر بحق لانصدعْ
هل تأملت يومًا هذا الصوت الذي يخرج من جوفك؟ .. هل تأملت أوتارَه ومخارجَ حروفه من حلقك؟
أليس في اختلاف الألسنة واللغات بيان لحكمة الله في خلقك، وعظيم فضله وإحسانه عليك؟ بلى والله.
نعمتان امتنّ الله بهما علينا: نعمة النطق ونعمة البيان، أما النطق فقال تعالى: (ألم نجعل له عينين  ولسانًا وشفتين   وهديناه النجدين)، وأما البيان فقد أخبر جل وعلا عن نفسه أنه سبحانه خلق الإنسان علمه البيان.
إذن، النطق والبيان آيتان من آيات الرحمن، وهما أيضًا من أعلى قيم الإنسان؛ فقيمة الإنسان ليست بطول هامته، ولا بعظم خلقته، بل بلسانه وقلبه، والمرء بأصغريه كما قيل:
لسان الفتى نصفٌ ، ونصفٌ فؤاده         فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
بعيدًا عن المقدمات الطويلة: دعوني أخبركم ببداية فكرة هذا الموضوع، قبل حوالي ست سنوات، نقلت إلى العمل بالتوعية الدينية بالأمن العام، كنت في تلك السنة في زيارة لأخينا وحبيبنا الشيخ الدكتور محمد العريفي في بيته، فقلت للشيخ هل هناك كتاب عملي جامع في مهارات الإلقاء والخطابة، أنا لا أريد كلامًا نظريًا في أصول الخطابة وطرقها وضوابطها؟ بل أريد الكيفية، كيف أعد الخطبة، وكيف ألقيها؟
قال الشيخ وفقه الله: هناك كتب كثيرة عربية ومترجمة، وأفضلها كتاب دايل كارنجي على مافيه من ملاحظات، لكن لا أذكر كتابًا جامعًا في هذا الباب، انتهى اللقاء، وبدأت منذ ذلك الحين أجمع مادة هذا الموضوع طيلة هذه السنوات.
ما الذي سأعرضه لكم في هذا الموضوع؟ وما الجديد في هذه المادة؟
سأعرض لكم بإذن الله نخبة من قواعد ومهارات فن الإعداد والإلقاء، هذه القواعد جمعتها وراجعتها على مدى سنوات من عدة مصادر، من خلال ما تلقيته في بعض الدورات المتخصصة وورش العمل، ومن خلال عملي في التوعية الدينية وإلقاء المحاضرات وخطب الجمعة، ومن خلال عملي في الإعداد والتقديم بقناة المجد.
ثم قيض الله لي زميلين كريمين في التوعية الدينية المقدم سعيد القحطاني والشيخ عبد الله أبو سبعة، فاشتركنا سويًا في جرد الكثير من الكتب والدراسات العربية والأجنبية التي اهتمت بهذا الفن، واستخلصنا منها ما يناسب المقام.
وبعد اكتمال المادة، قمت بمراجعتها وتهذيبها، لأقدم لكم زبدة وعصارة هذا الفن.
الجديد في الموضوع هو طائفة من الأمثلة والشواهد من القرآن الكريم أو السنة النبوية أو التجربة العملية، والجديد أيضًا: أمثلة تطبيقية صوتية لعدد من الخطباء المشهورين في العالم الإسلامي، والجديد أيضًا: أننا جمعنا بين المتعة والفائدة، وسنذكر شيئًاً من طرائف الخطباء قديمًا وحديثًا، وبعض التجارب والمواقف التي وقعت لي أو لغيري من الخطباء والمحاضرين.
ولطلاب العلم أقول: من الجديد في هذه المادة محاولة تأصيل الكثير من مهارات هذا الفن؛ فقد قمت بجمع وتأمل ما استطعت من الأدلة والشواهد على كثير من مهارات الإلقاء، وسأوردها بإذن الله عند الحديث عن كل مهارة، مكتفيًا بالأحاديث الصحيحة.
وأخيرًا أقول كما قال الله: (فخذها بقوة) خذها أيها الداعية المحمدي، خذها أيها الخطيب المنتهي والمبتدي، خذها ففيها من الفوائد ما لا تجده في الكتب والأوراق، وفيها من القواعد ما يكشف لك الأعماق، ويفتح لك الآفاق، أسأل الله أن يصلح لي ولك النية والعمل.

عرض إجمالي لمراحل وعناصر الموضوع:
يتكون موضوعنا “فن الإعداد والإلقاء”  من مقدمة وثلاث مراحل.
المقدمة:  حول أهمية هذا الموضوع، وماهية الإلقاء، ومجالاته، والهدف منه.
المرحلة الأولى  “مرحلة الإعداد”: وتتضمن مهارات الإعداد بدءًا باختيار الموضوع، وخطوات التحضير، وأقسام الموضوع الثلاثة “المقدمة، المتن، الخاتمة”.
المرحلة الثانية “مرحلة الاستحضار”: وتتضمن مهارات استحضار الموضوع عند الإلقاء سواء في الإلقاء الارتجالي أو المقروء.
المرحلة الثالثة “مرحلة الإلقاء”: وتتضمن طرق كسر حاجز الخوف واكتساب الثقة، وتتضمن أيضًا مهارات إلقاء الموضوع وعرضه على الجمهور، والكلام عن لغة البدن، والاتصال البصري، وغيرها من المهارات.

Scroll to Top