الكتاب: شذرات الذهب دراسة في البلاغة القرآنية.
المؤلف: محمود توفيق محمد سعد.
أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر الشريف
الطبعة الأولى: 1422 هـ.

المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آله كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيدٌ، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، أمَّا بعد:
فهذه شذرات الذهب من معدن بيان لسان العربية عن معانى الهدى في بيان الوحي العَلِيِّ: القرآن الكريم، ومن البيِّن أنَّ بيان كل مُبِينٍ على مقدار علمه بما يُبِينُ عنه، وبمقدار اقتداره على الإبانة عنه، فانظر كم يكون كمال وجمال وجلال وإعجاز بيان الله -عز وجل- الذي وسع كلَّ شيءٍ علمًا، والذي هو على كلِّ شيء قدير.
وهذه الدراسة إنما تعنى بفقه العربية في هذا الميدان العَلِيِّ من البيان: بيان الوحي القرآن الكريم، والدراسة العربية لأيِّ بيانٍ إنما هي التي لا تتخذ منهاجها إلا من واقع الأمة العربية حين كان ذلك البيان فيها؛ لأنَّ الله -عز وعلا- إنما خاطب العرب بالقرآن الكريم على ما تعرف العربُ من بيانها: مفردات ومنهج تراكيب وتصوير وتحبير وتغنٍّ، ودلالة ومدلولا، ولم يخاطبها بما تجهل البتة، أو بما يكون في بيان أمة أخرى غيرها، ولذلك قال الله تعالى: (وَلوْ جَعلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْحَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) فصلت: 44، فالدراسة التي تؤتي أكلها إنما هي الدراسة العربية المنسول منهاجها من واقع بيان العرب في عصر التنزيل الكريم، وليست التي تُفْتَنُ بمقولات أعجمية نبتت في غير ديارنا العربية المسلمة، فإن تلك المقولات، وإن كانت صالحة مصلحة ما في بيان قومها من الأعاجم فإنها ليست إلا عقيما في ديارنا لا تنتج إلا شؤمًا وإلباسًا وتعمية، ولساننا والحمد لله رب العالمين لسان عربي مبين، فكيف بعاقل يرغب عنه إلى لسان أعجمي.
ولست بزاعم أن طالب العلم ببيان الكتاب والسنة مصروف عن قراءة ما يتخذ من مناهج درس علوم اللسان الأعجمي، وما تنتجه عبقرياتهم في شتى العلوم، شريطة أن يقرأ ذلك كله بقلب عربي مسلم معتصم بعقيدة الإسلام وأخلاق الكتاب والسنة، فإن وجد ما لا يتعاند مع عقيدتنا وأخلاق شريعتنا ومنهاج لساننا، وكان نافعًا في فقه لساننا فله أن يسترشد ويستهدي، فإن الحكمة ضالة المسلم يبحث عنها ويقتنيها ويستثمرها فيما يزيده قربًا إلى ربه جلَّ جلالُه.
وإن من النصيحة لكتاب الله تعالى أن تصرف العناية التامة والاجتهاد البليغ إلى إتقان فقه هذا البيان العَليِّ، والمصابرة على الغوص في أعماق قاموسه المحيط، فإنك لن تجد فقيها بالكتاب والسنة إلا من فقهه عربية هذا البيان المعجز
وإذا ما كان فقه الكتاب والسنة فريضة لازبة، فكذلك ما يكون الطريق إلى ذلك الفقه: العلم بلسان العربية وخصائص الإبانة فيه عن حقائق المعاني ودقائقها ولطائفها هو أيضًا فريضة لازمة لازبة على كل طالب علم بالكتاب والسنة.
ولهذا حرَصت هذه الدراسة العربية على أن تتخذ منهجًا يتلبث قليلاً عند الكلمات التي بُنِيَ منها هذا البيان العَلِيُّ المعجز وهي كلمات عربية، ليست من العجمة في شيء، فليس في القرآن الكريم كله كلمة أعجمية واحدة هي فيه على ما في أي لسان أعجمي ما ظُنَّ أنه أعجمي في أصله كما جاء عن بعض أهل العلم، فإن بيان الوحي قد أعاد صياغته بما يوائم عربية البيان، وكأنَّ في هذا إشارةً إلى أن من كان أعجميًا واتخذ الإسلام دينًا فإنه يستحيل بهذا من أعجميته الفكرية والعقدية والبيانية إلى أن يكون عربيًا مسلم الفكر والعقيدة والبيان.
تلبثت الدراسة عند بعض المفردات تنظر في صورها وصيغها ودلالاتها لعل في ذلك عونًا على حسن فقه معاني التراكيب والصور.
وحرَصت على أن تتلبث قليلاً عند بيان بعض الوجوه الإعرابية لتراكيب هذا البيان تنظر في العلاقات الإعرابية بين الكلمات في بناء الجمل، وفي العلاقات الإعرابية بين بعض الجمل، فإنَّ حسن فقه مواقع الكلمات والجمل وعلاقتها الإعرابية مفتاح عظيم من مفاتح فقه بيان الوحي: كتابًا وسنة.
ثم كان لهذه الدراسة تلبثٌ مديدٌ في النظر في السَّمَاتِ البلاغية لهذا البيان، وحرصت على أن تمزج النظر في السمات البلاغية بالنظر في لطائف معاني الوحي، وما تفيض به تراكيب بيان الوحي من دقائق ولطائف معاني الهدي إلى الصراط المستقيم.
وقد رغبت في أن أجعل بين يدي هذه الدراسة العربية تمهيدًا رأيت أن في وقوف طالب العلم عليه عونًا له على حسن الوفاء ببعض حق العلم ببيان الوحي الكريم.
وجعلت مجال هذه الدراسة آيات من “التوبة” قائمة بمعاني التحريض على الجهاد في سبيل الله تعالى والنِّفار إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ذلك أن تثقيف طلاب العلم بثقافة الجهاد في سبيل الله تعالى أمرٌ لا بدَّ من القيام به والإلحاح عليه كمثل إلحاح أخدان أبناء صهيون وعبدة الصليب على أن نبالغ في تلقين أبناء الأُمة ثقافة السلام: الاستسلام لإرادة “أبناءالعم سام”، فالسلام في معجم مفرداتهم إنما يعني استسلام المسلمين لإرادتهم، وهو يعني عندنا الاستسلام للحق الذي جاءت به شريعة الإسلام ليس إلا.
وإذا ما كان الله -عزَّ وجل- يأمر رسوله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بأن يحرض المؤمنين على القتال، فإن كثيرًا من أخدان الأعجمين يجعلون من “الجهاد” جريمة الجرائم التي لا تغتفر، هو عندهم الفريضة المحرمة،، ولكن ستبقى كلمة “الجهاد” قائمة في مصاحفنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وفي قلوبنا ما بقيت الحياة على الأرض.
هذه الأوراق القائمة بين يديك تسعى إلى أن تقيم في قلبك ولسانك عرفانًا بلسان العربية قائمًا في بيان الوحي الكريم، ولن تجد بيانًا يقيم درسه وتفقهه عرفانًا بلسان العربية مثلما أنت واجده في بيان الوحي الكريم.
وتسعى أيضًا إلى أن تقيم في قلبك وسلوكك استمساكًا وتخلقًا بتأديب الله -عز وجلَّ- لنا وتثقيف قلوبنا بما يراه هو جلَّ جلاله خيرًا لنا في دنيانا وفي آخرتنا: في مسيرنا ومصيرنا.
ذلك أني مؤمن إيمانًا راسخًا أن كل دراسة في القرآن الكريم والسنة لا يكون منها ما يغير حركة سلوكنا إلى ما هو الأعلى والأقرب إلى رضوان ربنا هي دراسة عقيمة وإن تظاهر على إتقانها أحبار علوم اللسان العربي في مشارق الوطن العربي ومغاربه.
لا يعدو درس علوم لساننا العربي عندي أن يكون وسيلة إلى غاية ماجدة هي حسن فقه بيان الوحي قرآنًا وسنة فقهًا يحفزنا على العزم على أن نغير ما بأنفسنا وأمتنا وما حولنا إلى ما فيه رضوان خالقنا -جلَّ جلاله-
وإذا ما غفلت أي دراسة عن هذه الغاية فهي من العلم الذي استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ونحن اقتداء به نستعيذ بالله من علم لا ينفع في الدنيا والآخرة ونبتهل إلى الله تعالى: “اللهم يا معلم إبراهيم علمنا كتابك وسنة نبيك -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- علمًا يزيدنا قربًا إليك، اللهم يا مُفَهِّم سليمان فهمنا كتابك وسنة نبيك -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فَهِّمْنا ما يُسلكنا في عبادك الصديقين، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ورسوله سيدنا محمد بن عبد الله نبيّ الرحمة والملحمة وعلى آله وصحبه وأمته عدد خلقه ورضا نفسه ومداد كلماته والحمد لله رب العالمين.

 

 

Scroll to Top