تعدُّد الهويات: دور الهويات المتعددة في الحياة المتزنة :
نيكولاس غوكيه – ترجمة: بشاير عبد الرحمن .

إن شعرتَ مُسبقًا بالاستنزاف وأنت تحاول أن ترقى إلى مستوى التطلّعات لدورٍ مُعيّن – الابن البارّ، أو الأخت التي يُعتمدُ عليها في موقف معين، أو الرجل الذي يُمكن الاعتماد عليه في العمل – فحتمًا لديك فكرة عن وطأة الرزوح تحت أزمة الهوية؛ الشعور الشاقّ بأنّ الشخصية التي تتقمصها ليست حقيقتك.

إنها حالة شعور مفهومة، بيد أنها مُضلِّلَة. فإن كُنت تُعاني من أزمة تحديد هُويتك؛ فعلى الأرجح أنّ ذلك بسبب عدم تصالحك مع كونك عبارة عن شخصيات مُتعددة. دورك كشريك حياة، أو كزميل عمل، كابنة أو ابن؛ هذه الأدوار كلها مُتباينة فيما بينها تباينًا واضحًا، ومن الأفضل ألّا تحاول توحيدها في شخصية واحدة؛ إذ إنها محاولةٌ لا جدوى منها.

إنّ امتلاكنا أطيافًا مُتعددة من الشخصيات أمرٌ صِحيٌّ، ولكن تبدأ المُعضلة حين نحاول تجسيد هذه الأدوار المُتعددة في آنٍ واحد.

«التفاوض بشأن الهُوية» هي نظرية قدّمها عالم الاجتماع إرفنغ غوفمان عام 1965 في كتابه «عرض الذات في الحياة اليومية»، ومفاد النظرية أنّ علاقاتنا مبنيةٌ على نوع من الاتفاقِ الضِمنيّ على القواعد السلوكية القائمة على الهُوية. هذا التعريف للدور الذي نُمثّله في العلاقة يُقلل الخلافات، ويحدّ من الصراعات، ويبني توقعات واقعية للتفاعلات الاجتماعية حسب الدور في العلاقة.

من الطبيعي أن يُفضي «التفاوض بشأن الهوية» إلى نتائج مُختلفة باختلاف طبيعة العلاقة، وهذا مثاليٌّ في الحقيقة؛ فكما تُشير الأبحاث إلى أنّ امتلاكنا لهويات وأدوار متعددة يمنح المعنى، ويُخفف الضغوط في العلاقات، ويُكافح شعورنا بالعُزلة الاجتماعية.

لكن حين نحاول دمج هذه الأدوار المُتباينة كلها في هُوية صُلبة مُتماسكة؛ فإننا حينها نولّد ضغطًا لا جدوى منه. هذه المحاولة ضربٌ من المستحيل، علينا أن نتصالح مع كوننا نمتلك هويات متعددة، ونتعلم كيف يُمكننا الانتقال فيما بينها بسلاسة لنحظى بحياةٍ طيّبة.

أدى جيم كاري عام 1999 دورَ مثلِهِ الأعلى الممثل الراحل آندي كوفمان في فيلم «رجل على القمر». سُجِّلت مشاهد من خلف الكواليس للتمثيل المنهجي* المكثّف الذي قام به جيم، والذي نُشر فيما بعد في فيلمٍ وثائقي عام 2017 بعنوان «جيم وآندي» تحدث فيه كاري عن الصعوبة التي يعانيها بالعودة إلى شخصيته الحقيقية بعد أن تقمص شخصية أخرى تقمّصًا تامًّا. واختتم بأنّه حتى شخصيته الحقيقية «جيم كاري» ليست إلا دورًا من الأدوار التي يؤديها.

أخذ «كاري» خطوةً إلى الخلف لينظر إلى حياته من منظورٍ أعلى، إنّ التمثيل بشكلٍ مُستمر يؤدي إلى الإِنهاك. انتهى «كاري» أخيرًا إلى أنّ الهوية ليست إلا «بناءً»، ويجب أن نستثمرها بصفتها فرصةً لإعادةِ تشكيلِ أنفسنا، بدلًا من القلق بشأن «من أنا؟» من الأجدى أن نسأل «من أريد أن أكون؟».

بالتأكيد سنجيب إجاباتٍ مختلفة حسب اختلاف الحالة. وهذا تحديدًا هو المغزى؛ إذ ليس عليك أن تؤدي دورًا واحدًا طوال حياتك.

جمعت عالمة النفس إيلين لانجر عام 1979 ثمانية رجال في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات من عمرهم، في مُعتَكَف على مدى أسبوع، بحيث يعيشون وكأنهم في العام 1959. سُمح للمجموعة الضابطة بالتصرف بشكلٍ طبيعي باعتبار أنّ 1959 حدث قبل عشرين عامًا، بينما ينبغي للمجموعة الأخرى أن يتحدثوا ويتصرفوا كما لو كانوا يعيشون في عام 1959؛ قبل أن ينتهي الأسبوع، كلتا المجموعتين أظهرتا تغيّرات سلوكية وعقلية وجسدية كبيرة.

تلخّص لانجر في كتابها «عكس عقارب الساعة» بأنّ «للعقل قُدرةً هائلةً على التحكم بالجسَد» وأنّ المشاركِين بدوا أصغر سنًّا مع تحسّنٍ هائلٍ في السّمعِ والذاكرةِ والمرونةِ الجسديةِ. والجدير بالذكر أنّ المجموعة التي جرى عليها الاختبار تفوقت على المجموعةِ الضابطة في اختبارات الذكاء.

أدى هؤلاء الرجال أدوارًا تمامًا مثل «جيم كاري»، وتقمّصَتْها بالفعلِ أجسادهم. هذا لا يعني أنّك ستمتلك عضلات بطنٍ مثالية بمجرد تخيّل نفسك من ضِمن طاقم تمثيل ؛ لكنه يُثبت أنّ التقّمص العقلي للهوية له تأثيراته الفعلية؛ إذ يُمكن أن يمنحنا القيام بأدوارٍ تمكينية شعورًا بالسعادة والقوة.

هل نستطيع أن نكون حقيقيين حين نختلي بأنفسنا؟ من الصعب أن يحدث ذلك. بالطبع، ستوجد أدوارٌ نرضى عنها وأدوار لن نرضى عنها. فبحسب نظرية «التفاوض بشأن الهوية» لن نستطيع في علاقاتنا المختلفة أن نرقى إلى العلامة الكاملة طوال الوقت في الأدوار التي نُؤديها، ناهيك عن رؤية هوية واحدة مثالية حين ننظُر إلى المرآة.

لا بأس بذلك طالما نأخذُ وقتنا في التصالح مع فكرة أن أدوارَنا المُتعددة ذاتُ منفعة، ولا نقلق قلقًا مُفرِطًا تجاه التفاصيل الصغيرة لهذه الأدوار التي قد لا تتوافق مع بعضها بعضًا.

 

Scroll to Top