واسجد واقترب:د. عامر الهوشان.جزء من آية كريمة خاطبت خاتم الإنبياء والمرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده أمته ومن اعتنق الإسلام إلى يوم الدين أن اسجد لله وتذلل بين يديه، وأظهر له الخضوع بالسجود؛ تنل القرب منه سبحانه، والرضا والقبول.
قال القرطبي في تفسير الآية: (وَاسْجُدْ) أَي صَلِّ لِلَّهِ (وَاقْتَرِبْ) أي تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِذَا سَجَدْتَ فَاقْتَرِبْ مِنَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ.
والحقيقة أن المتتبع للآيات القرآنية التي ذُكر فيها السجود، وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة التي تناولت هذه الطاعة يجد أن لهذه العبادة أسرارًا عظيمة، وفوائد جمة، جدير بالمسلم أن يتوقف عندها مليًا، وأن يعي مغزى ومعنى السجود بين يدي خالقه ومولاه سبحانه، وما في هذه الحالة التعبدية الخاصة من منح إلهية جليلة قلما توجد في عبادة أخرى:
1- أكّد القرآن الكريم أن السجود من أفضل وسائل التقرب إلى الله سبحانه ومناجاته، ومن أنجح الطرق لنيل مرضاته، وقد جاءت السنة النبوية لتزيد هذا الأمر تأكيدًا؛ فقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَال: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ) “صحيح مسلم برقم 1111″، والحقيقة أن وضعية السجود التي امتن الله بها على عباده المؤمنين حيث وضع الجبهة والأنف على الأرض، وتعفير الوجه بالتراب تذللاً وخضوعًا وإنابةً واستسلامًا لأمر الله …. هي أبلغ مظهر من مظاهر العبودية لله تعالى، وأكثرها تعبيرًا عن مقام العبد أمام خالقه، ومن هنا كان الساجد لله تعالى الأقرب إلى رب العزة سبحانه.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في كتابه أسرار الصلاة تحت عنوان “عبودية السجود”: “ثم شرع له أن يكبر ويدنو ويخرَّ ساجدًا، ويُعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظَّه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه، مسندةً راغمًا له أنفه، خاضعًا له قلبه، ويضع أشرف ما فيه وهو وجهه بالأرض ولا سيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدًا على الأرض معفِّرًا له وجهه وأشرف ما فيه بين يدي سيِّده، راغمًا أنفه، خاضعًا له قلبه وجوارحه، متذللاً لعظمة ربه، خاضعًا لعزَّته، منيبًا إليه، مستكينًا ذلاً وخضوعًا وانكسارًا، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله … فهذا العبد هو القريب المقرَّب فهو أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد”. ص15
2- السجود وسيلة لانشراح الصدر، ومعالجة ضيقه وتكاثر الهموم والأحزان عليه؛ فقد خاطب الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأرشده إلى العلاج لضيق الصدر الذي يسببه عنت الكفار والمشركين، وتكذيبهم، واستهزاؤهم بدين الله والآيات البينات فقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الحج 97-99، إنها منحة إلهية لكل من ضاقت عليه نفسه، وتكاثرت على قلبه الهموم والأحزان من كل الألوان -وما أكثرها في هذه الأيام- حيث لا يجد المؤمن تنفيسًا لها إلا بالسجود، والخضوع، والتذلل بين يدي خالقه ومولاه سبحانه.
نعم، هناك في زاوية من زوايا غرفته في جوف الليل، وفي الثلث الأخير منه تحديدًا يجد المؤمن في سجوده بين يدي ربه سبحانه المخرج الوحيد مما أصابه من هم، وغم، وضيق، وكرب يبث إلى مَن بيده ملكوت السماوات والأرض، ومقاليد الأمور … شكواه، ويدعوه أن يفرج عنه، وأن يبدل عسره يسرًا.
إنها الحالة الروحية القلبية التي يمتاز بها عباد الله المؤمنين بينما يغفل عنها البعيدون عن رحاب العبودية والطاعة والإنابة لله تعالى، فترى كثيرًا منهم يرجون التنفيس عن همومهم وضيقهم بمزيد من الانغماس في ملذات الدنيا وشهواتها، فينقلبون من ذلك بهمّ وغم جديد.
3- السجود سبب من أسباب دخول الجنة: ففي الحديث الصحيح عن مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ،، أَوْ قَالَ قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَسَكَتَ. ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ. ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ (عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً)، قَالَ مَعْدَانُ ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ. “صحيح مسلم برقم 1121″، وكيف لا يكون السجود سببًا من أسباب دخول الجنة وفيه تتجلى أسمى معاني الخضوع لله تعالى، وأبلغ صور العبودية له سبحانه، والخضوع والعبودية هما الغاية الكبرى من خلق الله تعالى للإنس والجن قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات: 56.
4- كثرة السجود وسيلة العبد المؤمن لمرافقة الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- في الجنة؛ فقد ورد في الحديث عن رَبِيعَة بن كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ -رضي الله عنه- قَالَ: “كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: (سَلْ)، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: (أَو غَيْرَ ذَلِكَ)، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) “صحيح مسلم برقم 489″، قال الإمام النووي رحمه الله: “فيه الحث على كثرة السجود والترغيب به، والمراد به السجود في الصلاة”،
والحقيقة أن اشتراط الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ربيعة بن كعب هذه العبادة بالتحديد لينال شرف مرافقته في الجنة … فيه رفع لمكانة هذه العبادة، وإضفاء مزيد من الأهمية عليها، وكيف لا وهي سبب لمرافقة خاتم المرسلين في أعلى درجات الجنان.
إن في كثرة السجود بين يدي الله تعالى من الخير والنفع الدنيوي والأخروي ما لا ينبغي لمسلم عاقل أن يفوته؛ فلنجعل من هذه العبادة الجليلة بابًا لعلاج ما نواجهه في الدنيا من محن وابتلاءات، وزادًا لما ينتظرنا في الآخرة من سؤال وحساب.