د. خالد رُوشه.
لا يصير الداعية إلى الله ناجحًا ومؤثرًا إلا إذا اتخذ الوسائل والمناهج الحكيمة في تبليغ رسالته للناس، فليس توصيل البلاغ مجردًا هو المراد من عمل الداعية وجهده وبذله وعطائه لكنه يطلب منه توصيل ذلك البلاغ في أبهى صورة وأحسن طرائقه ليصل إلى القلوب ولتستشعره العقول وتميل معه النفوس.
ليس دور الداعية كما يفهمه البعض هو مجرد إلقاء كلمات وبعدها الرحيل أو مفارقة المكان الذي وعظ فيه ليبحث عن آخرين يعظهم فيتركهم ولا يبالي كيف فهم الناس كلماته وكيف سيطبقونها على واقعهم ولا مدى فهم دلالة ما يريد من النصوص والأدلة بمعناها إنما البلاغ الدعوي الأمثل هو تعليم وبيان لمعنى الهداية والسعي لتوصيل لذة العبودية للناس فيحبونها فيثبتون عليها فيصيرون من جند الإسلام، وإلا فغاية أثر الوعاظ الرحل هؤلاء أن يستميلوا الناس ليكونوا جمهورًا لا ليكونوا جندًا ومؤثرين ودعاة وعلماء.
الداعية إلى الله حكيم حليم عاقل هدفه الوصول إلى قلوب الناس قبل عقولها لأنهم لو أحبوه وآمنوا بما يقول فسيعملون عقولهم في كلامه إعمال القابل الراضي لا إعمال الرافض الساخط.
والداعية إلى الله يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها، وقد فهم ابن عباس -رضي الله- عنهما قول الله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين) فقال: (كونوا حلماء فقهاء) وقال البخاري: (ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره)، والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة، قال ابن حجر: “والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها” “فتح الباري 1\162”.
وربانية الدعوة إلى الله لا تتم بمجرد تبليغ الأحكام والأدلة فقط وإنما باتخاذ الوسائل الحكيمة للوصول إلى هداية الناس ويشهد لهذا الأصل من أصول الدعوة كثير من النصوص نذكر منها: ساق البخاري حديثًا ترجم له بقوله: “باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه”، ثم أخرج من طريقه إلى “الأسود” قال ابن الزبير: (كانت عائشة تسر إليك كثيرًا، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم ص قال ابن الزبير: بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون، قال ابن حجر رحمه الله “ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة” “فتح الباري 1\224” واعتبر كثير من العلماء هذا الحديث وغيره من أعمدة الموازنة بين المصالح وأنه لا بد من تقييم قدرة فهم السمع للعلم والدليل خوفًا من الوقوع بما هو أشد لقصور فهمه عنه.
وقال البخاري رحمه الله “باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا” وقال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله) قال ابن حجر -رحمه الله- وممن كره التحديث ببعض دون بعض، أحمد ومالك في أحاديث الصفات وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة في الجرابين، وأنه كره أن يحدث بأحدهما ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث للحجاج بحديث العرانيين (لئلا يتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وأخرج الأمام مسلم عن ابن مسعود قوله: (ما أنت محدثًا قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)، وأخرج البخاري إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يا معاذ بن جبل) قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: (يا معاذ . قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، “ثلاثًا” قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله من قلبه إلا حرمه الله على النار) قال يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس فيستبشرون؟ قال: (إذا يتكلوا)، وأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا، وكأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد رأى أنه ليس كل الناس يحسن معهم الإبلاغ بذلك المعنى المهم لئلا يحملهم على القعود عن العمل بفهم خاطئ، ولكنه قد اختص به بعض أصحابه الذين تحمل عقولهم القدرة على ذاك الفهم والاستيعاب وتقدير المراد من الخطاب.
المصدر: موقع المسلم.