منهجنا ومناهجهم!
د. خالد رُوشه.

هناك مناهج مختلفة في تربية الأبناء، فالبعض يرى المنهج الغربي في التربية هو أفضل المناهج، ويبرر ذلك بنجاح الغربيين في إنتاج شخصيات قوية ناجحة، وتعتمد على نفسها، لها طموح وإنجاز، تتصف بالجدية والعمل.
والبعض يرى المنهج الشرقي في التربية هو الأفضل فيضربون مثالاً باليابان،  ويبررون ذلك بنجاح اليابانيين في تربية أبنائهم على الآداب العامة والأخلاق، وبأنهم يخرجون متميزين في الأداء والتخصص، وباتصافهم بإتقان أعمالهم.
وللأسف فكثير من الناس ينكسرون أمام ما يجدون من إنجازات تربوية لمناهج الغرب أو الشرق، وينبهرون أمام نظرياتهم التربوية، وربما قارنوا نتاج مجتمعاتهم بما أنتجته مجتمعاتنا فظنوا أن منهجنا قاصر عن تلك المناهج، وكان ذلك الانبهار هو بداية الانحراف في مناهج التربية!
ولئن كانت مناهج الغربيين والشرقيين أنتجت أبناء منجزين أو عاملين، أو متأدبين بآداب معينة -يعتبرونها عرفًا آداب المعاملة- فإن القصور الكبير في تلك المناهج يكسوها من كل جانب؟ ليس فقط كما يردد الطيبون أن قصور المناهج الغربية ظاهر في الجانب الروحي والاجتماعي فحسب، بل في تلك الجوانب التي يراها الناس متميزة، من العمل والإنجاز وغيره؛ إذ سيطرت عليها النفعية والمصلحة الخاصة، وشوهتها الصراعات التي اعتبرت الإنسان آلة لكسب المال.
ولن تسعفهم نظرياتهم التربوية في سد ذلك الخلل، بل ربما تدينهم نظرياتهم التربوية خصوصًا تلك التي تدعو إلى الدور الأسري البناء أو التي تدعو إلى بناء القيم وغيرها، إننا -نحن المسلمون- نملك بين أيدينا منهجًا تربويًا ذهبيًا لا يقارن بغيره من المناهج الأرضية مهما كانت، ولئن كنا نرى قصورًا في العملية التربوية؛ فإن ذلك لا يرجع أبدًا إلى المنهج الصافي الحكيم للتربية الإسلامية، بل إنه يرجع إلى عدم تطبيقنا لمنهجنا الإسلامي، وإهمالنا لنظرياتنا التربوية الإسلامية الرائعة المتقنة المتفردة.
إن الأصل الأصيل الذي تقوم عليه نظريتنا الإسلامية التربوية أصل متفرد هو أصل الإيمان بالله سبحانه، وما ينبني على ذلك من الأعمال القلبية العظيمة من النية، والإخلاص، والخوف من الله سبحانه ومراقبته وغير ذلك مما يؤسس لسلوك قويم غير نفعي ولا أناني.
ذلك الأصل الذي غفلنا عنه أثناء تطبيقنا لمنهج التربية، فانتبهنا واهتممنا بكثير من المحاور التربوية الأخرى بينما نحن نهمل في أصل البناء، فكيف يستقيم بناء على غير أساس!
إن محاور الإيمان الستة المعروفة ليكوِّن الإيمان بها -وحده- نموذجًا تربويًا فريدًا متقنًا بغير حاجة إلى جهود أخرى في مجالات ثقافية أخرى، فما بالك والسنة النبوية مليئة بالتفصيلات والتوجيهات والمبادئ التربوية التي تبين وتعلم كيفية التحرك والسير بتلك المحاور الإيمانية العظيمة في الحياة، وحملها بين الناس عبر الأيام.
إن التحرر من العبودية لغير الله -عز وجل- لهو الخطوة الأولى والدفعة الأقوى في سبيل التغلب على قياد النفس وهواها، ومن ثم الانطلاق نحو الحياة في مصاف الصادقين أصحاب التضحيات العظام فلا خضوع حينئذ لبريق شهوة، ولا خنوع لسطوة قوة أرضية مهما غشمت؛ فالحياة حينئذ تكون لله وحده، والنفس تكون عبدة مخلصة لباريها ترى سعادتها في إنفاذ أمره.
وإذا كان المسلم بالشهادتَين ينطلق ويندفع إلى التضحية، فإن عقيدته وتصوره عن الآخرة تشده إلى العطاء الدائم شدًا، والمؤمن الذي أيقن في أن رسوله قد جاء بالهدى والنور لهذه البشرية فأحبه حبًا اكتمل معه إيمانه فصار أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، كان سعيه في الاقتداء به سعي الصادقين فإذا بالحياة في الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كلها نور وحبور وصلة بالأرض للسماء وغدا الكون كله جنديًا معه يكافح ويناضل في صفه.
والذي يحيا متيقنًا بالحياة الآخرة يقينًا لا غبش فيه، ولا شك، تتغير حياته تغيرًا إيجابيًا يكاد يرفعه إلى مصاف الصالحين فور إيمانه بذلك، والذي يعيش منتظرًا النهاية والموت في كل حين يعيش معدًا لها، كما الإيمان بالقدر يغير النفس من نفس خائفة وجلة مهتزة مترددة إلى نفس واثقة مطمئنة ثابتة فتصلح حينئذ لتلقي مهام القيادة والإصلاح.
ولك أن تخبرني بماذا انتفع بشخص تربى على ما يسمونه قيم العمل والإنجاز -كما في المناهج التربوية الغربية- وقلبه فراغ من القيم العليا، ونفسه لا تتسع إلا لمصلحتها الذاتية(! إذا أجبتني بأنه نافع لمجتمعه فقد يكون ذلك حقًا ولكنني أجيبك بأن مناهجنا الإسلامية تدعو أيضًا إلى كل إيجابية تراها أنت في تلك المناهج لكنها تسد الخلل الموجود عندهم؛ فهي تدعو إلى إتقان العمل، وإلى إيجابية السلوك وغيرها من المعاني المهمة التي قامت عليها مناهج التربية الغربية والشرقية غير أنها تؤسسها على أساس الإيمان، وتتابعها بمتابعة القيم العليا والمبادئ السامية.
وانظر معي إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) ، “أخرجه البخاري عن أنس وغيره” ستجد منهجًا في غاية الإيجابية، وكلمات في قمة سلم الترقي بحثًا عن الإنجاز والنفاذ والتطبيق؛ فهو يستعيذ ويأمر بالاستعاذة، وطلب المعونة من الله سبحانه ليبتعد عن كل ما يمكن أن يعوق طريقه إلى الاستقامة والعمل الصالح، فيستعيذ من خوف من المستقبل يقعده عن العمل للمستقبل، ويستعيذ من هم من الماضي يربطه بألم الماضي فيمنعه عن التقدم والتطور، ويستعيذ من عجز عن الأداء الفاضل المرجو والمتقن، ومن كسل عن عمل مقدور عليه فيثبطه عنه الشيطان أو نفسه التي بين جنبيه وغير ذلك من المعاني الراقية التي بيّنها العلماء من هذا الحديث وأمثاله.
غير أن مثال ذاك الحديث ليس أمرًا بالإيجابية فحسب لكنه أمر باللجوء إلى الله سبحانه في البحث عن الإيجابية، وهذا هو تفرد المنهج التربوي الإسلامي عن غيره؛ فهو يدعو إلى الإنتاج متوكلاً على الله سبحانه، ويبتعد عن السلبيات مستعيذًا بالله تعالى،  ويبذل نفسه وماله وجهده راجيًا الأجر من الله سبحانه.
بل إن إصلاح المجتمع في النظرة التربوية الإسلامية مرتبط أيضًا بأن يكون المجتمع سائرًا في طريق الاستقامة بالعموم، وحتى لو أخلّ بعض أفراده في لحظة من اللحظات،  فإن المنهج الإسلامي يرده بكل حكمة ودقة وفهم وعلم.
إن من عظمة هذا المنهج أنه لا يغلق الأبواب أمام الاستفادة من إنجازات الآخرين، بل إنه على علوه وسموه وإتقانه وكماله ليدعو إلى الاستفادة من كل خير أنتجه المصلحون؛ فالحكمة ضالة المؤمن سواء أكان ذلك الخير وذلك الإصلاح في مناهج غربية أو شرقية، ما يهمنا هنا أن تتفق مع أصولنا الإسلامية الثابتة، ولا تخالفها، فإن خالفتها فلا خير فيها ولا بركة مهما أبدت من زخرف وبريق.

Scroll to Top