هل نحن نستهلك بعقلانية: 
د. نهى قاطرجي.

إن من أولى وأهم الأسباب التي أضعفت الأمة الإسلامية والعربية ومكنت الدول الغربية من إحكام سيطرتها عليها، هو كونها أمة تستهلك أكثر مما تنتج، وهي في الغالب تستهلك المواد المستوردة؛ مما سمح لتلك الدول أن تفرض عليها شروطها، وتلوح من وقت لآخر بسلاح العقوبات الاقتصادية، من أجل إذلال تلك الدول وإخضاعها لتنفيذ سياساتها وأهدافها.
من هنا فإننا عندما نتحدث عن ترشيد الاستهلاك، فإننا نهدف بذلك على الصعيد الخاص إلى “توجيه الأنماط والعادات الاستهلاكية الغذائية، بحيث يتسم السلوك الاستهلاكي للفرد أو الأسرة بالتعقل، الاتزان، الحكمة، الرشادة، الموضوعية والمنطقية، وبحيث يكون استغلال الفرد من الأغذية حسب احتياجات جسمه وبالكميات   والنوعية التي تحقق له اتزان الفائدة الغذائية، والتي تفي بكافة احتياجاته من   السعرات الحرارية اليومية دون زيادة أو نقصان؛ مما يزيد نشاط وحيوية الفرد، وينعكس بدوره على إنتاجية الفرد واستهلاك الأسرة، ومن ثم على استهلاك المجتمع وحيويته”.
ونهدف على الصعيد العام إلى “تحسين نمط حياة السكان، والعمل على رفع مستوى معيشتهم، وتطوير الاقتصاد من خلال تنمية مختلف القطاعات، وبالأخص التطبيق المنظم والشامل لسياسات الغذاء والزراعة والمناطق الريفية، والتي تشارك فيها   الحكومة والسلطات المحلية، إضافةً إلى توفير الكمية المناسبة من الأغذية ذات النوعية الجيدة والمأمونة صحيًا وذات الأسعار المناسبة”.
والجدير بالذكر أن هذه الدعوة إلى ترشيد الاستهلاك لا يقصد بها الحرمان من التمتع بملذات الدنيا، بقدر ما يقصد بها العمل على تربية النفس حتى يتمكن المسلم من القيام بدوره في النهوض بواجبه الاستخلافي في الأرض وفقًا لقول الله   عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).
كما يقصد منها الدعوة إلى التوسط وعدم الإسراف في الاستفادة من نعم الله عز وجل، والتي حثّ عليها الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات القرآنية، مثل قوله   تعالى: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)، وقوله سبحانه: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورًا)؛ لذا فإن هذه الدعوة إلى ترشيد الاستهلاك لا تنطلق من فراغ وإنما ترتبط بحسن عبادة المؤمن لربه، وذلك في مجالات عدة:
1- دور المسلم في حماية الأرض والبيئة وتأمين الحياة السليمة للأجيال التي تأتي بعده؛ ذلك أن العبادة بمعناها الشامل لا تقتصر فقط على أداء الشعائر الدينية فقط، إذ إن “حسن استغلال البيئة عبادة، والمحافظة عليها وصيانتها لتستمر إلى ما شاء الله تنتفع بها البشرية كافة حتى يرث الله الأرض ومن عليها عبادة، وإماطة الأذى عن الطريق عبادة، وعدم تلويث الماء والهواء عبادة، وحسن استعمال المرافق العامة والخاصة من طرق ومياه وكهرباء ومؤسسات مختلفة من مدارس مستشفيات  مصانع وغيرها بأسلوب راشد عاقل   عبادة، هذه السلوكيات الإسلامية البناءة في التعامل مع مكونات البيئة الطبيعية والمشيدة، أمر الله سبحانه وتعالى عباده بها بقوله: (وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله يحب المفسدين)”، وليس ثمة شك أن حسن استغلال مكونات البيئة الطبيعية والمشيدة وصيانتها فيه نفع كبير للبشرية كافة، وأن سوء استغلالها والعمل على سرعة استنزاف مواردها أمر فيه ضرر بالغ للبشرية جمعاء، وهو في الوقت نفسه كفر والعياذ بالله بأنعم الله ولا ريب أن الكفر بأنعم الله مدعاة إلى المآسي والكوارث والجوع والخوف يقول الحق تبارك وتعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).
ومن نماذج سوء الاستهلاك في البيئة الكثافة العالية في استخدام الأسمدة   الكيماوية والمبيدات الحشرية مما أدى إلى تسرب كميات كبيرة منها إلى الهواء   ومصادر المياه وإفسادهما، فقد ورد في تقرير صدر عن دول مجموعة التعاون الاقتصادي الأوربي 1988م، تحذير “من تفاقم التلوث المائي الناجم عن تكثيف استخدام الأسمدة الكيماوية، ودعا التقرير إلى الحد من الاستخدام المكثف (الإسراف) لهذه الأسمدة الكيماوية لما لها من مخاطر كبيرة على الأحياء المائية”.
أما عن نماذج سوء الاستهلاك على الصعيد الخاص فيكمن في الإسراف في استخدام   المياه في الاستعمالات اليومية، حتى أنه في إحدى التوجيهات الإعلامية لإحدى الوزارات ورد أنه إذا تم فتح صنبور المياه بشكل يدل على التسيب أو الإسراف من   المباح أكثر مما يحتاجه الشيء المغسول، فإن هذا يعني هدر ملايين من الغالونات على مستوى دولة صغيرة يوميًا، “أما على مستوى عالم عربي أو إسلامي تعداده ألف مليون شخص وعلى مدى عام كامل مؤلف من 360 يومًا فهذا يعني أن الرقم نستحي من ذكره”، كما أشارت دراسة أخرى إلى أن “غسالات الملابس تستهلك 30-35 جالون (114-133 لتر ماء عند كل تشغيل بينما تستهلك غسالات الصحون 25 جالونًا 35 لتر في كل تشغيل، ويأتي الاستحمام في المرتبة الثالثة من حيث استهلاك المياه؛ نظرًا لأن معظمنا يحب استخدام المياه الساخنة عند الاستحمام كما أنه يأتي في المرتبة   الثانية من حيث ارتفاع استهلاك الكهرباء في المنزل”.
ومن الأمور الملفتة للاهتمام حدوث كثير من هذه التصرفات الاستهلاكية في أوساط   إسلامية حيث يستخدم الإسلام كحجة للإسراف، مثل إهدار المياه على تنظيف البيت، تحت حجة أن الإسلام يحث على النظافة والطهارة، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الإسراف في استخدام المياه حتى أثناء الوضوء، فقال لسعد: (لا تسرف وإن كنت على نهر جار …).
2- دور المسلم في تطبيق منهج الله في الوسطية وعدم الإسراف، قال سبحانه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس)، وليس ثمة شك أن دعوة الإسلام إلى الاعتدال ونبذ الإسراف التي أعلنها الله عز   وجل منذ أربعة عشر قرنًا “بدأت تدركها مؤخرًا المجتمعات غير الإسلامية في الشرق والغرب، حيث بدؤوا ينادون بالاستخدام العاقل أو الراشد المعتدل sound   utilization ، ونبذ الاستخدام الجائر أو المفرط ؟ الإسراف ) over – utilization   بعد أن بدأ الإسراف في استخدام موارد البيئة يهدد البشرية بأخطار كثيرة فمثلاً أدى الإسراف في قطع الأشجار والنباتات إلى بروز مخاطر كثيرة مثل: “جرف التربة، الفيضانات العنيفة، تدهور الدورة المائية ونظم المطر، انتشار التصحر، الاختلال   في دورة الأكسجين، ثاني أكسيد الكربون وغيرها كما يؤدي الإسراف في استخدام المياه إلى مشاكل عديدة مثل تملح التربة وتغدقها، سرعة نضوب موارد المياه الجوفية، نقص موارد المياه وغيرها”.
هذا وتبدو الحاجة إلى التوسط على المستوى الفردي نتيجة سوء الإدارة والهدر في الأموال والأرزاق التي تبدو على تصرفات كثير من المسلمين، فعلى عكس الإنسان الغربي الذي يشتري الفاكهة بالقطعة، يعرف المسلم بكرمه وسخائه داخل أسرته، لذا لا يكتفي الرجل بشراء كيلو واحد من طعام معين، ولا يرضى بشراء نوع واحد من   الفاكهة، كما لا تطبخ المرأة نوعًا واحدًا من الطعام، ولا تقبل بشراء ثوب واحد، والنتيجة ماذا(! طعام يرمى في سلة النفايات، وأثواب تلبس سنة واحدة ثم تنتهي موضتها فتزين الخزائن بدل أن تزين الأجساد … فإلى متى سيبقى المسلمون عاجزون عن تحديد الكميات المشتراة من الأغذية حسب حاجة   الأفراد والأسرة الضرورية والفعلية؟ وإلى متى سيبقون عاجزون عن إدراك أن “الزيادة عن الحاجة قد تتلف أثناء التخزين الطويل وتقل قيمتها الغذائية وبالتالي تسبب خسائر مادية”.
3- دور المسلم في تربية نفسه، ذلك أنه إضافةً إلى كره الله عز وجل للمسرفين فإن من نتائج الإسراف، خاصة في الطعام والشراب، إماتة   القلوب، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء”، وورد في الحكمة: “أن البطنة تذهب الفطنة”، وقال أحد الصالحين: “إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة”.
وإذا كانت هذه الحاجة إلى ترشيد الاستهلاك ضرورية في كل حين، فهي أشد ضرورة في أيامنا هذه، خاصة في هذه المرحلة التارخية الهامة التي تمر بها الأمة الإسلامية، والمسلم إذا لم ينجح في  جهاد نفسه وشهواتها ويتغلب عليها، فهو سيعجز عن تحمل جهاد الأعداء، من هنا   أهمية التربية على ترشيد الاستهلاك بالنسبة لكل مسلم، ذلك أن الدنيا هي كل يوم على حال، وعلى المؤمن أن يستعد في أوقات الرخاء على مواجهة أوقات البلاء، قال   سيدنا عمر رضي الله عنه: “اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم وإن عِبَادَ اللهِ ليسوا بالمتنعمين”، وقال ابن خلدون في مقدمته: “فالهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق”.
أخيرًا- نختم بدور المسلم في النهوض بمجتمعه وتحويله من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع منتج؛ ذلك أن الزيادة الكبيرة في استهلاك الأفراد، يؤدي إلى إنفاق كل   الدخل الفردي والقومي لتمويل شراء السلع الاستهلاكية، والتي في معظمها قد لا   تكون من السلع الضرورية، ففي دراسة ميدانية شخصية لكشوف ما تشتريه بعض العائلات قام بها عادل حسون عام 1988 م، ونشرت في مجلة البلاغ وجد “أن الكماليات هي ثلثا الضروريات، ووجد أن العربة التي تملأها ربة البيت من الجمعية غالبها كماليات للأطفال وغالبها أمور يمكن الاستغناء عنها”.

Scroll to Top