د. عامر الهوشانسؤال أوجهه لنفسي أولاً وللقارئ الكريم ثانيًا، نظرًا لأهمية الإجابة عليه في قرارة نفس كل واحد منا، خاصةً في هذا الزمن الذي تضخمت فيه الأنا والذات عند كثير من الناس إلى حد لا يطاق، وأضحت الشهرة والظهور منتهى آمال كثير من شباب الأمة، وفتياتها حتى لو كانت تلك الشهرة في معصية الله ومخالفة أمره -عياذًا بالله-!
لست أعني بالخبيئة هنا الكنوز المدفونة في باطن الأرض أو قاع البحر كما قد يظن البعض، ولا الوديعة المصرفية أو الحساب البنكي المفتوح الذي يعتبره البعض الآخر من الضروريات في هذه الأيام، وإنما أعني: العمل الصالح الخفي الذي يقوم به المسلم دون أن يطلع عليه أحد من البشر حتى يلقى الله تعالى وهو على ذلك.
قد تكون الخبيئة الصالحة صدقة يدفعها صاحبها إلى مستحقيها بعيدًا عن أنظار المدّاحين وعيون الناس أجمعين، متحليًا بذلك بصفة واحد من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ….) “صحيح البخاري برقم/1423”
وقد جاء في الأثر أن علي بن الحسين -رحمه الله- كانت له خبيئة من العمل الصالح لم يعلم بها أحد إلا بعد وفاته، كان يتصدق ويعيل مائة بيت من بيوت الأرامل والأيتام والفقراء سرًا بالليل، فلما توفي انقطعت المؤنة عن مائة بيت كان يأتيهم رزقهم بالليل من مجهول، فعلموا أنه هو الذي كان يحمله إليهم، وينفق عليهم.
وقد تكون الخبيئة الصالحة عبادة خفية كصلاة في جوف الليل والناس نيام، أو صيام يوم شديد الحر بينما عامة الناس مفطرون، وقد أورد صاحب كتاب سير أعلام النبلاء خبر خبيئة داود بن أبي هند الذي صام أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا حتى زوجته، وكان خزازًا يحمل معه غداءه فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيًا فيفطر، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق.
وقد تكون الخبيئة الصالحة قضاء حوائج المسلمين من الضعفاء والعاجزين والمساكين، وهو ما اشتهر به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح من هذه الأمة، وأولهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فقد جاء في كتاب ابن عساكر “تاريخ دمشق” عن أبي صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كي لا يُسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو أبو بكر الصديق الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري. “تاريخ دمشق لابن عساكر 30/322”.
وفي عصرنا الحاضر الكثير من النماذج والأمثلة المعاصرة عن أناس انكشفت لهم خبيئة صالحة في حياتهم أو بعد مماتهم رغم حرصهم الشديد على إخفائها عن العالمين، فكانت دليلاً دامغًا على أن الخير في هذه الأمة وفي أتباع هذا الدين الخاتم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لا يمكن تعداد واستقصاء جميع مزايا وخصائص الخبيئة الصالحة والعمل الخفي الخالص لوجه الله تعالى، وما لا يدرك كله لا يترك كله، ويكفي ذكر بعض تلك المزايا والخصائص لاستنهاض الهمم لتكون لكل مسلم خبيئة صالحة وأهمها:
1- الخبيئة الصالحة هي في الحقيقة صك براءة من النفاق والرياء؛ فلا يمكن أن يخالط الرياء وحب الظهور العمل الخفي، كما لا يمكن أن يتسلل النفاق إلى العمل الخالص لوجه الله.
ونظرًا للتعارض والتناقض التام بين الرياء والعمل الخفي والنفاق والإخلاص، فلا يمكن لمدمني الظهور والرياء والمنافقين أن تكون لهم خبيئة صالحة أو عمل صالح خفي، فهي صفة وخصلة الصالحين من عباد الله فحسب.
2- الخبيئة الصالحة رصيد المؤمنين في أوقات اشتداد الأزمات ونزول الكروب؛ فهي تعينهم على الثبات، وعدم الاضطراب في زمن الفتنة أولاً، وتكون سببًا في نجاتهم واستجابة دعائهم في الملمات ثانيًا.
ويكفي في هذا المقام ذكر حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: “إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم “خبيئة صالحة”، فدعوا بتلك الأعمال الخفية الصالحة فكانت سببًا لنجاتهم وخروجهم سالمين. “صحيح البخاري برقم/2272”
3- الخبيئة الصالحة دليل على صدق الإيمان، وقوة اليقين بموعود الله سبحانه، فأمثال هذه الأعمال الخفية لا يمكن أن تصدر إلا من رجل قوي إيمانه بما أعده الله تعالى للمخلصين من عباده، وأيقن بإطلاع الله تعالى على سره وعلانيته، وهو بتلك الخبيئة يصل إلى منزلة الإحسان في العبادة التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) “صحيح البخاري برقم/50”.
وفي الختام: يكفي دافعًا للمسلم على أن تكون له خبيئة صالحة وعمل خفي صالح لا يعلم به أحد إلا الله قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل) “الصحيح الجامع للألباني برقم/601”.