الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه فتاوى مختصرة لبعض العلماء حول ما ورد في ليلة النصف من شعبان، وما يفعله بعض الناس فيها استدلالاً بما ورد:
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: “ليلة النصف من شعبان ليس فيها حديث صحيح.. كل الأحاديث الواردة فيها موضوعة أو ضعيفة لا أصل لها، وهي ليلة ليس لها خصوصية، لا قراءة ولا صلاة خاصة ولا جماعة.. وما قاله بعض العلماء أن لها خصوصية فهو قول ضعيف فلا يجوز أن تخص بشيء.. هذا هو الصواب وبالله التوفيق”.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “فضل ليلة النصف منه وردت فيه أخبار قال عنها ابن رجب في اللطائف بعد ذكر حديث علي السابق (اذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها) إنه قد اختلف فيها، فضعفها الأكثرون، وصحح ابن حبان بعضها وخرجها في صحيحه، ومن أمثلها حديث عائشة -رضي الله عنها- وفيه: (أن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب). “خرجه الإمام أحمد (26018) والترمذي (739) وابن ماجه (1389)”، وذكر الترمذي أن البخاري ضعَّفه، ثم ذكر ابن رجب أحاديث بهذا المعنى وقال: وفي الباب أحاديث أخر فيها ضعف”، وقد نبه على ضعف الأحاديث في ليلة النصف من شعبان جمع من أهل العلم كابن رجب وابن حجر والشوكاني وغيرهم.
وعلى هذا ينبغي أن تعلم جملة أحكام:
أولاً- في قيام ليلة النصف من شعبان، وله عند أهل العلم ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن يصلى فيها ما يصليه في غيرها، مثل أن يكون له عادة في قيام الليل فيفعل في ليلة النصف ما يفعله في غيرها من غير أن يخصها بزيادة، معتقدًا أن لذلك مزية فيها على غيرها، فهذا أمر لا بأس به؛ لأنه لم يحدث في دين الله ما ليس منه.
المرتبة الثانية: أن يصلى في هذه الليلة، أعني ليلة النصف من شعبان دون غيرها من الليالي، فهذا خلاف السنة؛ لأنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه خص هذا اليوم بمزيد مزية حتى تعتقد فيه، أما حديث علي -رضي الله عنه- الذي رواه ابن ماجه: (إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها). فقد بين ضعفه ابن رجب وغيره، وقال بعض أهل العلم: إنه موضوع، فمثل هذا لا يجوز إثبات حكم شرعي به، ثوما رخص فيه بعض أهل العلم من العمل بالخبر الضعيف في الفضائل، فإنه مشروط بشروط لا تتحقق في هذه المسألة، فإن من شروطه أن لا يكون الضعف شديدًا، وهذا الخبر ضعفه شديد، فإن فيه من كان يضع الحديث، قال الشيخ عبد العزيز بن باز: “ما ورد في فضل الصلاة في تلك الليلة فكله موضوع”، وغاية ما جاء في هذه الصلاة ما فعله بعض التابعين، كما قال ابن رجب في اللطائف: “وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنهم بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك: فمنهم من قبله ووافقهم على تعظيمها، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، وقالوا: ذلك كله بدعة”، ولا ريب أن ما ذهب إليه علماء الحجاز هو الحق؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا) المائدة: 3، ولو كانت الصلاة في تلك الليلة من دين الله تعالى لبيَّنها الله تعالى في كتابه، أو بيَّنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله أو فعله، فلما لم يكن ذلك علم أنها ليست من دين الله، وما لم يكن منه فهو بدعة، وقد صحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل بدعة ضلالة).
المرتبة الثالثة: أن يصلى في تلك الليلة صلوات ذات عدد معلوم، يكرر كل عام، فهذه بدعة ودركة أبعد عن السنة من الأولى، لا اعتقاد أعداد بصفة لم يرد بها شرع ولم يشهد لها أصل عام.
ثانيً- ومما ينبغي أن يعلم: اشتهر عند كثير من الناس أن ليلة النصف من شعبان يقدر فيها ما يكون في سائر العام، وهذا باطل، فإن الليلة التي يقدر فيها ما يكون في العام هي ليلة القدر، كما قال الله تعالى: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الدخان 6، وهذه الليلة التي أنزل فيها القرآن هي ليلة القدر، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وهي في رمضان؛ لأن الله تعالى أنزل القرآن فيه، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) البقرة: 185ّ.
فمن زعم أن ليلة النصف من شعبان يقدر فيها ما يكون في العام، فقد خالف ما دل عليه القرآن في هذه الآيات.
ثثالثًا- حديث النزول في ليلة النصف من شعبان وهو: “إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا”، سنه الألباني رحمه الله وغيره، وفي ذلك خلاف، وهو موضع اجتهاد وقد مرت الإشارة إليه، لكن قال الشيخ الألباني في حاشيته على إصلاح المساجد للقاسمي: “لا يلزم من ثبوت هذا الحديث اتخاذ هذه الليلة موسمًا يجتمع الناس فيها، ويفعلون فيها من البدع ما ذكره المؤلف رحمه الله”، فنزول الله تعالى إلى السماء الدنيا ليس خاصًا بليلة النصف من شعبان، بل ثبت في الصحيحين وغيرهما نزوله تعالى إلى السماء الدنيا في كل ليلة في الثلث الآخر من الليل، وليلة النصف من شعبان داخلة في هذا العموم، ولهذا لما سئل عبد الله بن المبارك عن نزول الله تعالى ليلة النصف من شعبان قال للسائل: “يا ضعيف! ليلة النصف(! ينزل في كل ليلة”، رواه أبو عثمان الصابوني في اعتقاده، وقال العقيلي رحمه الله: وفي النزول في ليلة النصف من شعبان أحاديث فيها لين، والرواية في النزول كل ليلة أحاديث ثابتة صحيحة، فليلة النصف من شعبان داخلة فيها إن شاء الله.
يقول الشيخ ابن عثيمين: “وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند بعض العامة من أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له، ولا حقيقة له، فإن ليلة القدر في رمضان، وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب، وجمادى، وربيع، وصفر، ومحرم وغيرها من الشهور لا تختص بشيء، حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النصف من شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء -رحمهم الله- يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل: فضائل الأعمال، أو الشهور، أو الأماكن وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما، فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح، وينسبه إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهذا شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر، ويوم النصف لا يختص بصيام، نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي -صلى الله عليه وسلّم- يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلاً وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- إلا ما لسائر الشهور كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر وأن تكون في الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وهي أيام البيض..”.
__________________
* هذا البحث أَعدَّ أصلَ مادته بعضُ طالبات العلم، فاختصر وحرر فيه.
المصدر: موقع المسلم.