مفاتيح الخير:تركي العبدلي.هناك فئة من النّاس اعتقدت اعتقادًا خاطئًا، ركِبَتِ الصَّعبَ من خلاله، وأخذت طريقًا بعيدًا في إنجاز أعمالها وأمورها المناطةِ بها؛ فهي لا ترضى دون الكمال في كلّ شيء، زعمت، وفوق ذلك متابعةٌ وتدقيقٌ على كلِّ جزءٍ، مهما كان صغيرًا في كل مشروع علمي أو غيره يحاولون القيام به، حتى أفْنَتْ عمرَها، ولم تنجز شيئًا يُذكر.
وممّن عرفته -وهو على شاكلةِ ما ذكرتُ آنفًا- رجلٌ أفنى زهرة شبابِهِ وبعضًا من مشيبِهِ في طلب العلم، وقراءةِ الكتب، والاتصالِ بأهل العلم؛ طلبًا للفائدة، واستفتاءً دقيقًا فيما يُشكل عليه، لكنني كُلَّما قلتُ له: اكتب كتابًا، أو مقالاً، أو أقِمْ درسًا للعامة إفادة للناس، قال: ليس الآن، فما زِلتُ دون ذلك، وأنا أعلم علمَ اليقين أنه شبَّ عن الطَّوْق.
وفي ظنِّي أنهُ مخطِئٌ في مسيرتِهِ، مجانِبٌ للصّواب في قراره، فساعَةُ الزّمن لا تنتظر، وكلُّ دقيقة تمضي لا تعود أبدًا، وفناءُ العمرِ في بابٍ واحدٍ من الخير تضييقُ واسعٍ.
بل ينبغِي أن يكونَ المؤمِنُ زرّاعًا ماهرًا، يعطِي كلَّ أرضٍ ممَّا عندَهُ مِن الخير بحسَبِها، فتراه يعلِّمُ مَن دونَهُ، ويتعلّم ممّن فوقَه، ويَقْبَل بالخير مِمَّن يدلُّهُ عليه، عملُهُ دؤوبٌ في ليلِهِ ونهارِه، يتقرَّبُ إلى الله ولو بشقِّ تمرة، ويُطلب رضاه ولو بكلمة، لا يركب بطبعه العسيرَ، ولا يُعسِّرُ اليسيرَ، يظُنُّ في كلٍّ خيرٍ -مهما كان صغيرًا- أنه ربَّما يكون سببًا في دخولِهِ الجنّة.
أَلَمْ تَدخُلِ امرأةٌ الجنَّةَ بسُقْيَةِ كلْبٍ! وآخرُ بإزاحةِ غصْنِ شوكٍ عن طريق الناس يؤذيهم، على ما عندهم من التّوحيد وأصل الدِّين.
لا تستصْغِرْ نفسَكَ بهضْمِ رأيِكَ في أمْرِ برٍّ وتقوى، ولا تنثنِ عن دروبِ الخيرِ ما دُمْتَ قادرًا على سلوكها بعمل صالح ينفعك، ولا ترهبنَّكَ عِلْيَةُ القومِ ما دمت قادرًا على أن تمتطيَ صهوةَ الرَأي والنّصيحة، فكلُّنا في وقْتٍ من الأوقات بحاجة إلى ناصحٍ أمين.
أَمَا أنقَذَ اللهُ المدينةَ في غزوة الأحزاب بمشورةِ سلمانَ، وفي القومِ أبو بكرٍ وعُمَرُ وعثمانُ وعليٌّ وباقي العشرة رضي الله عنهم جميعًا.
ومن جميل ما اتَّفَقَ لي، أنه في يوم من الأيام كنتُ جالسًا في مكتبي، ودَخَلَ عليَّ رجلٌ أعرفه، معدود في عامَّة النَّاس، دخل عليَّ يستشيرني في أمرٍ له علاقة بصلب عملي، فما إن جلس حتَى دخل عليَّ أحَدُ الرجالِ، ومن حَمَلَة الشَّهادات العالية، أحسبه -والله حسيبه- متفانيًا في عمل الخير فسلَّم علينا سلامًا حارًّا، غيرَ إني تعجَّبْتُ مِن ابتسامةٍ على محيَّاهُ غريبةٍ أثناءَ سلامِهِ على ضيفي، فلمَّا انصرف الأوَّلُ سألتُ ذلك الرجل عن سبب ابتسامته؟
سكت قليلاً، ثمَّ قال: لقد هداني الله تعالى على يَدِ هذا الرَّجلِ -العامي- من كلمةٍ سمعتُها منه في مكانٍ عامّ قبل عشرين سنة، حيث حدثنا بحديث “السَّبعة الذين يظلهم الله في ظله”، ومنهم (شابٌّ نشأ في طاعة الله)، وكنت يومئذ في الثَّامنة عشر من عمري.
فما أتَمَّ حديثَهُ حتى اقشعرَّ بدني من عجيبِ ما اتَّفق لي، ووالله ما زِلتُ أعجَبُ من سَذَاجَةِ موضوعِ ذلك الرَّجل العامي الذي جاءني يكلمني به، كيف لا يشعر بأنهارِ الحسنات التي تصبّ في صحيفتِهِ حيث كان سببًا في هداية ذلك الرجل.
أقول في آخرِ هذه المقالة: أنفِقْ ممَّا تملِكُ، فليس بالضَّرورة أن تجمع مال الأولين والآخرين، ولا أن تحوز علمهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحقرَنَّ من المعروف شيئًا).
كن مِفتاحًا للخير مما معك، (إن هذا الخيرَ خزائنُ، ولتلكَ الخزائنِ مفاتيح فطوبَى لعبدٍ جعلَهُ اللهُ مفتاحًا للخيرِ مغلاقًا للشرِّ).
واصنعوا الخير دهرَكم، وتعرضوا لنفحاتِ الله لعلَّكم تُرحمون، فإنَّ للهِ نَفَحاتٍ من رحمتِهِ، يُصِيبُ بِها مَنْ يَشَاءُ من عبادِهِ.