الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن الاعتكاف في رمضان من العبادات العظيمة التي يجمع المسلم فيها نفسه على العبادة صيامًا وصلاة وذكرًا وقراءة مع التقلل من صوارف الدنيا وملهياتها ومقسيات القلوب!
ومشروعية الاعتكاف، وفضله، وهو ثابت بالكتاب والسنة. ويكفي في الدلالة على فضله ومكانته؛ ملازمة النبي -صلى الله عليه وسلم- له حتى إنه عندما تركه في بعض الأعوام مرة قضاه في شوال.
وللاعتكاف أهداف سامية، وغايات عالية، وهو مدرسة تربوية، ومحطة للعبادة والتأمل والتفكير، يخطئ بعض أصحاب المسؤوليات فيظن تلك المهمات والشواغل مسوغات لانصرافه عنه! مع أنه كلما ازدادت مسؤولية المرء، اشتدت الحاجة إليه، وظهر أثره عليه.
وفوائد الاعتكاف تعم الصغير والكبير، والغني والفقير، والذكر والأنثى، فكل واحد منهم له منه حظ ونصيب، ومن تركه فقد حرم خيرًا كثيرًا.
والاعتكاف مشروع طيلة أيام السنة، وليس خاصًا برمضان، ولكن رمضان أفضل أيامه، وأفضلها العشر الأواخر منه، كما كان يفعل رسول الله النبي -صلى الله عليه وسلم- التماسًا لليلة القدر، ولمقاصد أخرى منها الخلو للعبادة، وجمع القلب على الطاعة، ولهذا شرع في غير رمضان، ولهذا نقول لمن خرج بعد أن ظن أنه أدرك الليلة الشريفة! لو قدر أنك أدركتها حقًا فقد أدركت خيرًا كثيرًا، لكنك فرطت في خير كثير أيضًا!
وأقل ما ثبت فيه الاعتكاف: ليلة، ولا حدّ لأكثره، ولا يوجد دليل صحيح صريح في اشتراط الصوم له، وأنه يصح إلا به، ومكانه المسجد، لدلالة الكتاب والسنة على ذلك.
والفقهاء منهم من تشدد في شروطه وواجباته مما جعله عسيرًا وشاقًا، لا يقوى عليه إلا الخواصّ، وهؤلاء لا مستند لهم في كثير مما ذكروه من الشروط والواجبات، وآخرون تساهلوا فيه؛ حتى قالوا من جلس في المسجد لحظة فقد اعتكف إن نوى ذلك، وهؤلاء لم يراعوا مقاصده وأهدافه وسرّ تشريعه، وما خص به من أحكام، والحق وسط بين الطرفين، يراعى في ذلك ما ورد فيه من نصوص، والغايات التي شرع من أجلها، كما يراعى ما كان عليه نبي الأمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلفها، دون إفراط أو تفريط، مع النظر إلى يسر الشريعة وسماحتها.
وقد حرص أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- -ورضي الله عنهن- على إحياء سنة الاعتكاف واستمرارها بعد وفاته النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يؤكد مشروعية الاعتكاف للنساء، ولا يلزم لذلك محرم، والمهم هو أمن الفتنة، وإذن الزوج.
ولما رأى رسول الله النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أزواجه خرجن بالاعتكاف عما شرع له، وأردن أن يجعلنه ميدانًا للمنافسة على القرب من الزوج، أنكر ذلك، وقال: (آلبر يردْنَ) أي أن عملهن هذا ليس عمل من يريد البر ويسعى إليه، ثم اتخذ قراره الحاسم، وقطع الاعتكاف، وقضاه في شوال.
وفي هذا دليل على أن الاعتكاف شرع لغايات وأهداف متى خرج عنها المعتكف حري ألا يصحّ منه اعتكافه، وحال بعض المعتكفين -اليوم- يصدق عليهم ما قاله -صلى الله عليه وسلم- لأمهات المؤمنين، فيقال لهم: آلبر تريدون؟ ولو صدقوا الله لكان خيرًا لهم.
فحري بنا أن نأتسى بنبينا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن لا نفرط في تلك الليالي والأيام المباركة، وأن نجعل مقاصد الاعتكاف نصب أعيننا، متى رأينا ما ينقصها أو ينقضها انصرفنا عنه.
ومن أهم مقاصد الاعتكاف تحري ليلة القدر، وقد بلغ من شرفها وعلوّ مكانتها عند الله أن أنزل فيها القرآن (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) القدر، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) الدخان: 3، وهذا يدل على شرف المُنْزَل، ومكانة الليلة المنْزَل فيها.
إن فضل هذه الليلة وعموم خيرها ورفعة منزلتها لا تدرك بالعقول، وإلا كيف تكون ليلة واحدة؛ لا تتعدى -أحيانًا- بضع ساعات أفضل من ثلاث وثمانين سنة، بل تزيد، ولا نعلم مقدار هذه الزيادة، ولا مجال للعقل في مثل هذه الحقائق التي جاءت بها النصوص القطعية، سوى خضوعه لها، وإيمانه بها، دون شك أو ريبة، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
ومع هذا الفضل العظيم الذي لا يُدرك كنهه، ولا يسبر غوره، فهناك من يفرط فيه جهلاً أوتسويفًا (ومن يهن الله فما له من مكرم) الحج: 18ّ.
ليس العجب من فضل الله وكرمه وسعة عطائه (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) هود: 73، وإنما العجب من جهل ابن آدم وتفريطه وضعف عقله وإدراكه، وتضييعه لتلك الفرص التي سيندم عليها حين لا ينفع الندم، فهل يستيقظ النائمون؟ وينتبه الغافلون؟ ويتدارك المفرطون؟ ما دام في الأجل فسحة، وفي العمر بقية، فما ذهب فات، واغتنم ما بقيَ قبل أن يقال: هيهات هيهات.
وفقني الله وإياكم لعمل الصالحات واغتنام الأوقات، والفوز بأعلى الدرجات، وأسأله أن يختم لنا الشهر خير ختام، والحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع المسلم.