فلما استحكمت حلقاتها فُرِجَت:
أميمة الجابر.          

أحيانًا يعجز اللسان عن البوح بآلامه، ويعجز القلم عن كتابة آهاته وشكواه، ويعجز القلب عن ضبط دقاته مهما كانت صحة جسده، ذلك عندما يشتد الهم وتضيق الصدور.
وفي لحظات الهموم والأحزان تدعونا الحكمة أن نتفكر في عدة نقاط:
فالتفكر ينبغي أن يكون ابتداءً في حكمة الله -سبحانه- في ابتلاء المؤمنين، وأنه -سبحانه- جعل ابتلاءهم سنة كونية، وأمرهم بالصبر فيه، وجعل ذلك الابتلاء ممحصًا ومميزًا للناس، فلو تفكرنا في ذلك لهان علينا جزء كبير من الهموم والأحزان عندما نعلم أنها سنة الله -سبحانه- في خلقه (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين).
كذلك التفكر والاتعاظ بمن ضاقت بهم السبل، واستحكمت حلقاتها أمامهم، ولم ييأسوا، وثَبَتوا، وتحدوا كل الصعاب حتى نجوا، ومرت بهم الصعاب، ومنهم نتعظ ونعتبر، يقول الله تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرةً لأولي الألباب، ما كان حديثًا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) فمن الأنبياء نأخذ عبرتنا بالصمود والثبات، ولا نعرف قصصهم لمجرد المعرفة، فهذا إبراهيم -عليه السلام- الذي لجأ إلى الله -تعالى- بينما حلقة الضيق تشتد لحظة سقوطه في النار لكنها فُرِجت عليه عندما أمر الله -تعالى- النار أن تكون بردًا وسلامًا عليه.
وهذا أيوب -عليه السلام- الذي وصل ذروة العناء بمرضه، ولكنه عندما لجأ لربه ودعاه فقال: (ربِ إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) استجاب له ربه بعد أن وجد منه الإخلاص والصبر والثبات، ففرج عنه ضيقه.
وهذا يونس الذي وجد نفسه في ظلمة بطن الحوت، غير ظلمة البحر وظلمة الليل، ظلمات داخل ظلمات، فلما استحكمت عليه حلقة الأزمة ظلامًا وسوادًا وكربًا، لجأ إلى ربه ودعاه (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فرّج عنه ربه ذلك الضيق، ووجد نفسه فجأةً على الشاطئ، فهذه من معجزات الله -سبحانه- الذي يجعل دائمًا الصعب الشديد سهلاً، ويجعل ذروة الأحزان والهموم أفراحًا وفرجًا.
وهذه أم موسى التي ضاقت بها السبل، واستحكمت عليها حلقة الكرب، وأحاط بها جند فرعون ليذبحوا وليدها، فألقت بولدها في اليم، فخرجت من نار ومرارة وحيرة إلى نار أشد توهجًا وخوفًا ورعبًا عليه، لكن الله -تعالى- ثبّتها، ومكّن لها ولصغيرها، وفرجت حلقة الضيق بعد أن استحكمت عليها.
وهذا يوسف الذي وجد الظلم والاضطهاد من أقرب الأقربين، لكن بصبره وقوة إيمانه بربه نصره الله تعالى عليهم، وجعله عزيز مصر، وتحققت رؤيته عندما رآهم ساجدين أمامه بعد غيابات الجب وظلامه وسواده ووحدته ووحشته، وبعد تهم النساء له، ثم سجنه وظلمه، وبعدما استحكمت عليه حلقة الكرب وبلغت ذروتها، لكن انقلبت الأمور، واختلفت الموازين بفضل الله رب العالمين.
فالسبيل هنا قوله تعالى: (فبهداهم اقتده)، فعندما تضيق حلقة الشدة، علينا أن نتحلى بالصبر، ونتخذ ممن قبلنا قدوة، وخير قدوتنا رسولنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام الذين عانوا وشربوا من الأوجاع ما جعلهم لهذه الساعة كرامًا يضرب بهم الأمثال، ومنهم نتأسى ونتعلم، فلن تنفرج الأزمات التي نشعر باستحكامها إلا بالصبر واليقين بالله تعالى (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)، وقد وضّح لنا بجلاء ضرورة العودة إلى الله -سبحانه- في لحظات البلاء تضرعًا ودعاءً ورجاءً وتبتلاً وتقربًا وتوبةً واستغفارًا (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم ..).
مفهوم آخر هام للغاية في لحظات الشدة هو تثبيت معاني الثقة بالله -سبحانه- بأنه هو القادر على أن يفرج الكربات، ويقضي الحاجات، ويكشف الضر، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يعطي من يشاء، ويأخذ ممن يشاء، يرفع من يشاء، ويقهر من يشاء إنه -سبحانه- بيده الخير وهو على كل شيء قدير، هذه الثقة وحسن الظن بالله تعالى تُهوِّن الكربات، وتغير الحالات.
ولعل التذكير بكثرة الدعاء والإلحاح فيه، والشعور بالفقر الكامل والضعف بين يدي الله -سبحانه- أثناء الرجاء ولحظات الدعاء؛ مما يقوي معاني الدعاء، وينادي الإخلاص فيه.
إننا وإن كنا نرى الشدائد في لحظات قد أظلت وتكالبت وتنادت بمرض شديد أو ابتلاء ثقيل فلنعلم أن هناك حلقات مفقودة لا نراها، تلك الحلقات التي يخبئها لنا القدر، فليس علينا إلا إحسان الظن بالله تعالى، فربما تكون هذه حلقات خير ورشد، فرح وفرج، نور وضياء لما هو قادم، لكن أَولى لنا ألا نيأس (فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين).

Scroll to Top