فقه التعامل مع أهل الكتاب
من السنة والكتاب
أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثنا في هذا المقال عن فقه التعامل مع أهل الكتاب من السنة والكتاب، فأعيروني القلوب؛ لأن الأمر من الأهمية بمكان.
الإحسان للجار الكتابي:
اعلم – زادك الله علمًا وفهمًا – أن الله تعالى أمرنا في كتابِه بالإحسان إلى أهل الكتاب، وأن نَبَرَّهم، وألا نظلمهم، فقال الله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36].
﴿ وَالْجَارِ الْجُنُبِ ﴾ [النساء: 36]؛ يعني اليهودي والنصراني؛ رواه ابنُ جَريرٍ، وابنُ أبي حَاتم.
عن داود بن شابور، وبَشير أبي إسماعيل، عن مجاهد، أن عبدالله بن عمرو ذُبِحت له شاةٌ في أهله، فلما جاء قال: أهديتُم لجارنا اليهودي؟ أهديتُم لجارنا اليهودي؟ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))؛ أخرجه أبو داود، والترمذي.
حماية أهل الكتاب:
ومِن فقه التعامل مع أهل الكتاب حمايتهم، وعدم الاعتداء عليهم إذا لم يكونوا محاربين، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذَّرنا من أذيتهم، ومن التعدي عليهم في غير ما موطن من السُّنة المطهَّرة.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل مُعَاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإنَّ ريحها يوجدُ من مسيرةِ أربعين عامًا))؛ هذه رواية البخاري.
عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاتِه، فقال: ((اللهَ الله في قبط مصر؛ فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل الله)).
قال أبو صخر المدني: إن صفوان بن سليم أخبره عن ثلاثينَ من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دِنْيَةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألَا مَن ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة))، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعه إلى صدره: ((ألا ومَن قتل معاهدًا له ذمة الله وذمة رسوله، حرم الله عليه ريح الجنة، وإنَّ ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفًا)).
زيارة مرضاهم:
ومن الإحسان إلى أهل الكتاب عيادتهم وزيارتهم:
عن أنس أن غلامًا يهوديًّا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرِض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((اذهبوا بنا إليه نعوده))، فأتوه وأبوه قاعدٌ على رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل: لا إله إلا الله؛ أشفع لك بها يوم القيامة))، فجعل الغلام ينظر إلى أبيه، فقال له أبوه: انظر ما يقول لك أبو القاسم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد الله الذي أنقذه من نار جهنم)).
إضاءات حول الموقف:
دلالات الموقف الذي بين يدينا عظيمةٌ، تنطق بالرحمة والشفقة، والتواضع ولين الجانب، والإحسان إلى الآخرين، فالنبي صلى الله عليه وسلم لو لم يعامل الفتى اليهوديَّ بهذا القدر من الرقة والعذوبة – كما هو شأنه مع جميع الناس – ما استمال قلبَه إلى الإسلام، وفي ذلك درسٌ بليغ للمسلمين كافة، في أهمية المعاملة والقدوة الحسنة وأثرها في قلوب المدعوِّين.
ويستوقفنا معنى آخر، وهو الرغبة الكاملة والحرص الأكيد على هداية ذلك الفتى ودعوته إلى الإسلام، بالرغم من كونه على شفير الحياة الآخرة، إنها الرحمة تتجلَّى في أسمى معانيها وأروع صورها.
ووقفة ثالثة مع قول والد الفتى: “أطع أبا القاسم”؛ إذ يدلُّ على أن اليهود ما كان يخفى عليهم أمرُ النبي صلى الله عليه وسلم ولا نبوته، ولكنهم جحدوا الحق واستكبروا عنه، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
ويبقى في الموقف جملة أخرى من المعاني والفوائد؛ منها:
• جواز استخدام المشرك؛ كخادم، أو عامل، أو نحوهما.
• واستحباب عيادته إذا مرض، مع استصحاب نية دعوته وترغيبه في الإسلام.
• وبيان أن المريض يكون في أرجى حالاته لتقبُّل الحق والانقياد له، وهو الأمر الذي ينبغي للدعاة أن يُحسنوا استغلاله.
• ويدلُّ كذلك على أن إضافة النجاح والفلاح للأسباب لا يُنافي عقيدة التوحيد؛ لأن الأمور كلها من ترتيب الله تعالى، يدل عليه ما جاء في الرواية الأخرى: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)).
السلام على أهل الكتاب:
ومِن المسائل التي يتحرَّج فيها كثير من المسلمين قضية السلام على أهل الكتاب وتحيتهم: هل هو جائز أم لا؟
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه))؛ د، حم، خد.
قال ابن القيم في زاد المعاد (2 /425):
(وقد اختلف السلف والخلف في ذلك؛ فقال أكثرهم: لا يُبدؤون بالسلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم، كما يردُّ عليهم؛ روي ذلك عن ابن عباس، وأبي أمامة، وابن مُحَيْريز، وهو وجه في مذهب الشافعي رحمه الله، لكن صاحب هذا الوجه قال يقال: له السلام عليك فقط، بدون ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد.
وقالت طائفة: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة؛ مِن حاجة تكون له إليه، أو خوف من أذاه، أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك؛ يروى ذلك عن إبراهيم النخَعي وعلقمة، وقال الأوزاعي: إن سلَّمتَ فقد سلَّم الصالحون، وإن تركتَ فقد ترَك الصالحون)؛ انتهى.
عن علقمة قال: صحبنا عبدالله في سفر، ومعنا أناسٌ من الدهاقين، قال: فأخذوا طريقًا غير طريقنا، فسلَّم عليهم، فقلت لعبدالله: أليس هذا تكره [كذا]، قال: (إنه حق الصحبة).
قال أبو بكر: ظاهره يدل على أن عبدالله بدأهم بالسلام؛ لأن الردَّ لا يكره عند أحد، وقد قال النبي: ((إذا سلَّموا عليكم، فقولوا: وعليكم)).
وعن الأعمش قال: قلتُ لإبراهيم: أختلف إلى طبيب نصراني، أسلِّم عليه؟ قال: (نعم، إذا كانت لك إليه حاجة، فسلِّم عليه)؛ اهـ.
وخلاصة القول:
إن أرجح الأقوال في المذاهب عدمُ جواز ابتداء أهل الذمة بالسلام، إلا أن القول بالجواز قال به جمهورٌ كبير من العلماء، حتى داخل كل مذهب.
• نقل ابن عابدين في حاشيته 5 /264 عن بعض المشايخ أنه (لا بأس بلا تفصيل)، وهو المذكور في الخانية، وإن رجح هو أنه مكروه، إلا عند وجود الحاجة إليه.
• ونقل النووي في شرح صحيح مسلم 14 /145 عن الماوردي (وجهًا لبعض أصحابنا أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام)، وقد رجح النووي التحريم.
• ونقل ابن مفلح في الآداب الشرعية 1 /412 عن بعض العلماء القول بعدم التحريم.
وقد روي هذا القول – أي: عدم التحريم – عن ابن عباس، وابن مسعود، وأبي أمامة، وابن محيريز، وعمر بن عبدالعزيز، وسفيان بن عُيَينة، والشعبي، والأوزاعي.
ونقل القرطبي في تفسيره (11 /112) عن الطبري قولَه: “وقد روي عن السلف أنهم كانوا يُسلِّمون على أهل الكتاب”، كما ذكر القرطبي نفسه عن ابن مسعود أنه فعله بدهقان صحِبه في طريقه، قال علقمة: فقلت له: يا أبا عبدالرحمن، أليس يكره أن يُبدؤوا بالسلام؟ قال: نعم، ولكن حق الصحبة؛ كما اختار هذا القول السيد رشيد رضا في (تفسير المنار)، والشيخ الشنقيطي في (أضواء البيان).
التهادي بين المسلمين وأهل الكتاب:
اعلم أنه يجوز للمسلم قَبول هدية أهل الكتاب، وكذلك يجوز للمسلم أن يهادي أهل الكتاب، والأدلة في هذا الباب كثيرة، نذكر منها:
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 33 – 37].
(خ م د) أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قَدِمَت عليَّ أمِّي وهي مشركةٌ، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدِمَتْ عليَّ أمِّي وهي رَاغِبةٌ، أفأَصِلُ أمِّي؟ قال: ((نعم، صِلي أمَّك)).
قَبول المسلم هدية الكتابيِّ وغيره:
عن أبي حُميد السَّاعدي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك…، ثم جاء رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ملكُ أَيْلَة، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلةً بيضاء، فكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بُردًا”؛ خ حم.
تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم:
ومن المسائل التي ينبغي علينا ألا نجهلها تهنئةُ أهل الكتاب بأعيادهم الدينية المتعلقة بالدين، فهذه القضية قد حسمها العلماء قولًا واحدًا.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصَّة به، فحرام بالاتفاق؛ مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرَّمات، وهو بمنزلة أن يُهنِّئه بسجودِه للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله، وأشدُّ مقتًا من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام، ونحوه، وكثير ممَّن لا قَدْر للدين عنده يقع في ذلك، وهو لا يدري قبح ما فعل، فمَن هنَّأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر، فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء؛ تجنبًا لمقتِ الله وسقوطهم من عينه”؛ اهـ، أحكام أهل الذمة (1 /144 – 244).
أما تهنئتهم بالأفراح أو النجاح، فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى.
تشييع جنائزهم:
ذهب الشافعية والحنفية – ورواية عند أحمد – أنه يجوز اتباع جنازة الكتابي، والأدلة على ذلك:
عن جابر، عن عامر، قال: “ماتَتْ أمُّ الحارث وكانت نصرانيةً، فشهِدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”؛ مصنف ابن أبي شيبة (3/ 32).
وروى البيهقي في الشعب من طريق المنهال بن عيسى: أخبرني غالب القطان، قال: قلت للحسن: إن لنا جيرانًا نصارى ينيلون معروفهم ويعودون مرضانا (ويتَّبعون جنائزنا)، قال: كافِئهم، إذا أتيتَ الباب فقل: مَن هاهنا؟ أدخل؟ فإذا دخلت فقل: كيف مريضكم؟ كيف تجدونه؟ فإذا أردت أن تقوم فقل: الشفاء والعافية بيد الله عز وجل.
عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، قال: ماتَتْ أمي وهي نصرانية، فأتيت عمر، فذكرت ذلك له، فقال: “اركب دابةً وسِرْ أمامها”؛ مصنف ابن أبي شيبة (3/ 32).
عن عطاء بن السائب، قال: ماتَتْ أمُّ رجلٍ من ثَقيف، وهي نصرانية، فسأل ابن مغفَّل، فقال: إني أحب أن أحضرها، ولا أتبعها، قال: “اركَبْ دابة وسِرْ أمامها غلوةً، فإنك إذا سِرْت أمامها فلستَ معها”.
وذهب بعض أهل العلم من المالكية والحنابلة – وهو المذهب عندهم – إلى أنه ينهى عن اتباع جنازة الكافر، والله أعلم، فإذا تقدمها صليب فلا يتبعها.
الوقوف إذا مرَّت به جنازة كتابي:
روى البخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: مرَّت جنازة، فقام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله، إنها يهودية؟! فقال: ((إن الموت فزعٌ، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)).
وعن عبدالرحمن بن أبي ليلى رحمه الله قال: “كان سهلُ بنُ حُنَيف، وقيسُ بنُ سعد قاعِدَينِ بالقادسيةِ، فمُرَّ عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنَّها من أهل الأرض – أي: من أهل الذِّمَّةِ -؟ فقالا: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي؟ فقال: ((أليسَتْ نَفْسًا؟)).
زيارة قبور أهل الكتاب وغيرهم:
عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استأذنتُ ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذَنْ لي، واستأذنتُه أن أزورَها، فأذِن لي))؛ (خ م).
وفي شرح النووي على مسلم (7/ 45):
“فيه جواز زيارة المشركين في الحياة، وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة، ففي الحياة أولى، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]، وفيه النهي عن الاستغفار للكفار، قال القاضي عياض رحمه الله: سببُ زيارته صلى الله عليه وسلم قبرها أنه قصد قوَّة الموعظة والذكرى، بمشاهدة قبرها، ويؤيِّده قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الموت)).
تعزية أهل الكتاب في المصاب:
يقول تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، بشرط عدم الترحم؛ لأنه لا يجوز؛ اعتمادًا على قول الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113].
القول بجواز تعزية النصارى أو الكفار عمومًا هو رواية عن أبي حنيفة، وهو قول الإمام الشافعي، وقولٌ في مذهب الإمام أحمد وغيره، شرط ألا يكونوا محارِبين، وخصوصًا إن كان في ذلك رجاءُ إسلامهم، وتأليف قلوبهم، أو دفع أذاهم.
الأدلة على جواز التعزية:
أولًا: القياس على زيارة المرضى، فقد كان صلى الله عليه وسلم يزور مرضى غير المسلمين؛ كما في حديث أنسٍ رضي الله عنه، قال: “كان غلامٌ يهودي يخدمُ النبي صلى الله عليه وسلم، فمرِض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعودُه، فقعَد عند رأسه، فقال له: ((أسلِمْ))، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلَم”؛ رواه البخاري، ووجه الشبه بينهما مواساة المصاب والتخفيف عنه.
ثانيًا: أن تعزية غير المسلمين تدخل في عموم البر في قوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
ثالثًا: هذا، وعلى المعزِّي أن يتخير من ألفاظ التعزية لأهل الميت ما يُناسب حالهم؛ كحثِّهم على الصبر، ومواساتهم، وتذكيرهم بأن هذه سُنَّة الله في خلقه؛ كقول: عوَّضكم الله خيرًا، أو أخلفكم خيرًا، أو جبَر مصيبتكم، أو أحسن الله إليكم، ونحوها.