فايروس كورونا .. الدروس والعبر:أحمد حامد الجبراوي.
بسم الله الرحمن الرحيم
في أيام معدودة احتبست أنفاس العالم مع الاستشراء السريع ل”فايروس كورونا المستجد كوفيد-19″، واتسعت دائرة المواجهة الدولية والوطنية للحد من خطورته والحيلولة دون الإصابة به.
وهذه وقفات متأملة لهذه “الجائحة” بحسب التصنيف الصحب الدولي نقرأها كالتالي:
1- عظمة وقهر الربوبية:
إن من أعظم الدروس المستفادة أن العباد محفوظون بكلأ الله ورعايته ومقهورون بعزة الله الرب تعالى وقهره وأنهم لا يسوون شيئًا أمام ملكوت الله في هذا الكون العظيم، فما أحقر الإنسان وما أكفره، فإذا لم تكن له حيلة أمام هذا الفايروس المتناهي في الصغر فكيف يقابل الله بالكفر والعناد والتكذيب!(قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) عبس: 17.
فمن تأمل هذا الدرس قرّت عينه بربه، وانشرح فؤاده لإرادة مولاه فغيره إنما يذعن لتلك الإرادة قهرًا وكرهًا إذ لا مهرب من الله إلا إليه والله المستعان.
2- مشهد البلاء والعقوبة:
وينبغي أن يُعلم أن انتشار الأوبئة ومنها وباء كورونا ما هو إلا ابتلاء من رب العالمين، وأن من سنن الله تعالى أن البلاء إذا نزل قد يعمُّ غير الظلمة قال تعالى:
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) الأنفال: 25، كما أن من سُنن الله تعالى أن الأوبئة إذا انتشرت لا تُفرق بين ظالمٍ وكافرٍ ومؤمنٍ، وهذه الأوبئة قد تكون رجزًا من السماء، حيث تكرر في القرآن الكريم لفظ الرجز عشر مرات، منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ) سبأ: 5، أي: أن هؤلاء الظلمة المعاندين يسعون بكل جهودهم لإبطال آيات الله تعالى، ويزعمون أنّهم قادرون على أن يعجزوها، وتكون لهم الغلبةُ عليها.
وهذا الدرس يُذَكِّر بأهمية التوبة والإنابة والرجوع إلى الله، ويعزز من أهمية الإسلام وقيمه في المجتمعات الإنسانية؛ إذ باتساع دائرة الهداية تضمحل المصائب وتزول الابتلاءات.
3- تجديد قيم الإيمان:
فإن النوازل إنما تستدعي ما عند المسلم من حسن الظّنّ ودوام الثّقة في مولاه وحسن التّوكل على الله واستدفاعه بالدّعاء وحسن اللجوء إليه، قال تعالى:
(قُل لن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) التوبة: 51.
وإن المسلم لا يعلم ما قدَّره اللهُ عزَّ وجلَّ إلا بعد وقوعه، ومتى ما وقع قوبل بتلك القيم من صبر وتوكل وثقة ودعاء وافتقار فتتجدد المنحة مع المحنة، والنعمة مع النقمة؛ فما من مصيبة إلا وأشرق معها معاني الإيمان.
4- الأخذ بالأسباب:
وإن من تمام تلك القيم في مواجهة “فيروس كورونا” الأخذ بأسباب الوقاية، ولو قدَّر الله عزَّ وجلَّ على أحد الموت “بفيروس كورونا” بعد أخذه بالأسباب، فأجرهُ عظيمٌ عند الله عز وجل، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّهَا سَأَلَتْ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- عَنِ الطَّاعُونِ، فأخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أنَّه كانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فليسَ مِن عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أنَّه لَنْ يُصِيبَهُ إلا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلا كانَ له مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ) “رواه البخاري”، ومعنى قوله -صلى اللهُ عليه وسلَّم- (يعلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلا ما كتَب اللهُ له) أي: يظَلُّ داخِلَ البلدِ الَّذي وقَع فيه الطَّاعونُ، ولا يخرُجُ منه؛ ظنًّا منه أنَّ خروجَه يُنجيه مِن قَدَرِ اللهِ المكتوبِ عليه إلا كان له مِثلُ أجرِ شهيدٍ.
5- ولجهات الاختصاص دور وتقدير:
إن من الأخذ بالأسباب تقدير واحترام الجهات الطبية المختصة والتي ينبغي أن تسلك سبيل المهنية الطبية والعلمية المختصة بعيدًا عن المبالغة والتهوين، ومن الأخذ بأسباب الوقاية من هذا الفيروس:
فعلى المستوى الشخصي النظافة بشكلٍ عامٍ كغسل اليدين والأنف بانتظام، وغسل جميع البدن، ونظافة البيت والأفنية وغير ذلك.
فقد حثنا الدينُ على النظافة كما قال تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) المدثر: 4، وترك المصافحة والتقبيل والاكتفاء بالتحية عن بُعْدٍ، وتجنب التجمعات في الأماكن العامة من الأسواق والقاعات وغيرها، والحجر الصحي بعزل المريض عن بقية الأصحاء طيلة فترة حضانة المرض، ووضعه تحت الرقابة الطبية الدقيقة.
والإسلام -بحمد الله- سبق العالم كله بتقرير هذا المبدأ الذي لم يعرفه العالم إلا في بداية القرن العشرين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ) “البخاري”، وقال: (لا تُديمُوا النظرَ إلى المجذومين) “رواه ابن ماجه”، وروى مسلم في صحيحه عن الشَّرِيد بن سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ أنَّه: (كانَ في وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فأرْسَلَ إلَيْهِ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّم- إنَّا قد بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ)، (ورَجُلٌ مَجذُوم) أي: مُصابٌ بِمَرَضِ الجُذَامِ وهو مَرَضٌ مُعْدٍ، وأراد هذا المجذومُ أن يأتِيَ النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لِيُبايِعَه على الإسلام والجِهاد فأرسَلَ إليه النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- (إنَّا قد بَايَعْناك) أي: بالقولِ من غيرِ أخْذِ اليَدِ في العَهْدِ، وفيه دلالة على ترك المصافحة في هذه الحالة.
ويندرج تحت القاعدة الفقهية: (لا ضرر ولا ضرار)، فيُمنع شرعًا مخالطة المريض مرضًا معديًا للأصحاء؛ لدفع ضرر الأمراض المعدية عمومًا.
ومثل قاعدة: (الضرر يُدْفَعُ بقدر الإمكان)، فهذه القاعدة تفيد وجوب دفع الضرر قبل وقوعه بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة وفقًا لقاعدة المصالح المرسلة والسياسة الشرعية؛ فهي من باب الوقاية خيرٌ من العلاج، ويكون ذلك بتعميم الإجراءات الوقائية لدفع الإصابة بالأمراض المعدية، ومنع السفر وترك الاجتماعات، وهكذا فقد اتسعت الشريعة لهذا ولغيره من التدابير رفعًا للحرج وتيسيرًا للأمة.
6- بث الأمل والحذر من الشائعات:
عندما يدلهم الخطب وتزداد المصائب ينبغي أن نفتح نوافذ الأمل فيما عند الله، فقد سبق من الله أنه لا يغلب عسر يسرين؛ ولذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرى بارقة الأمل عند اشتداد المحنة: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ، (لا تحزن إن الله معنا)، فبشروا ولا تنفروا، استعينوا بالله وعظموا الثقة فيه، وزينوا نفوسكم بالفأل الحسن؛ فليحذر الإنسان عند تفشي الابتلاءات من نشر الشائعات والكذب؛ فإن ذلك يزيد السوء سوءًا ويفتّ في عضد الناس بالبعد عن الإرجاف معتز للأمن والأمل.
7- صَنائعُ المعروف وبذلُ الإحسان:
وهو من آكد الطاعات عند نزول البلاء، فعَنْ أَنسِ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (صنائعُ المعرُوفِ تقي مَصارِعَ السُّوءِ، والآفات، والهَلَكَاتِ، وأَهْلُ المعرُوفِ في الدُّنيا هُمْ أَهلُ المعرُوفِ في الآخِرَةِ) “الحاكم”، قال ابنُ القَيِّم رحمه الله: “ومِنْ أَعْظَمِ عِلاجات المرض: فِعْلُ الخيرِ والإحسان، والذِّكْرُ، والدُّعاءُ، والتَّضَرُّعُ، والابتهالُ إلى الله، والتَّوبةُ، ولهذه الأمور تأثيرٌ في دَفْعِ العِلَل وحُصُولِ الشِّفاءِ؛ أعظمُ مِنَ الأدوية الطَّبِيعِيَّةِ، ولكن بحَسَبِ استعدادِ النَّفْس وقَبُولِها وعَقِيدتها في ذلك ونفعِه” “زاد المعاد”.
8- الإيواء إلى ركن شديد:
إن الإيواء إلى الله بالتضرع والدعاء والانخلاع من الذنوب والمعاصي وردّ المظالم ودوام الذكر لَهو من أهم الأسلحة للمواجهة والمدافعة لمثل هذه الابتلاءات، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قَالَ: (لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَع هؤلاء الكلمات إذا أصبح وَإذا أَمْسَى: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ استُرْ عَوْرَاتي وآمِنْ رَوْعَاتي، اللَّهمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَينِ يَدَيَّ، ومِنْ خَلْفي، وَعن يميني، و عن شِمالي، ومِن فَوْقِي، وأعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحتي) “أبو داود والترمذي”، وقوله: (مَنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ) “رواه أبو داود والترمذي”.
وختامًا: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا، ويعفو عنا، ويجنبنا هذا المرض، والله الهادي إلى سواء السبيل.