ظمأ الشهوة:عادل سعد الخوفي.الشهوة حين تتمرَّد على صاحبها؛ فلا ترعى للضوابط الشرعية، ولا السنن الكونية؛ تُحيل صاحبها مسخًا ليس له من صفات الآدمية شيء، قد جاوز فِطرة الله التي فطر الناس عليها، يهتدي بشهوة بهيمية، مَلَكتْ عليه قَلْبَه، ووتَّرت أعصابه، وحطَّمت مقاومته، فأمسى مُضيِّعًا دينه، مُدَمِّرًا إرادته، مُحَطِّمًا إنسانيته.
يقول شيخ الإسلام: “والشَّهْوَةُ تَفْتَحُ بَابَ الشَّرِّ وَالسَّهْوِ وَالْخَوْفِ فَيَبْقَى الْقَلْبُ مَغْمُورًا فِيمَا يَهْوَاهُ وَيَخْشَاهُ غَافِلًا عَنْ اللَّهِ رَائِدًا غَيْرَ اللَّهِ سَاهِيًا عَنْ ذِكْرِهِ قَدْ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ اللَّهِ قَدْ انْفَرَطَ أَمْرُهُ قَدْ رَانَ حُبُّ الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِهِ (1)”.
وإنَّ المتأمل في واقع شبابنا وفتياتنا -إلا من عصمه الله ووفقه- يجد أنهم يشتكون أثر اشتداد الشهوة على إيمانهم واستقرار حياتهم، والمتصفح لمواقع الاستشارات، يجد المئات منهم يستصرخون صباح مساء حرارتها ولهيبها؛ فهذا يقول: لا أستطيع ضبط نفسي ومنعها، وهذه تقول: كيف أطفئ نيرانها، وثالث يقول: أعاني من ضعف شديد أمامها، ورابعة تقول: إنها شديدة تبعدني عن الله، وخامس يقول: شهوات النساء تلاحقني ، وسادس يقول: ساعدوني إني أنفرط حبة حبة، وسابع يقول: كلَّما رأيت فتاة لا أنساها، ثم قائمة تطول من الأمراض تعصف بهم، فمُقِلٍّ منهم ومستكثر: إدمان النظر المحرم، العشق والإعجاب، العادة السرية، المعاكسات الهاتفية، الاغتصاب، الاختطاف، اللواط، السحاق، الزنا.
لقد عاب الله على أهل قرية انساقت وراء شهوتها، وخالفت فطرتها، يقول الحكيم العليم: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (2)، فقد خُلِقَت الأنثى للذكر، والذكر للأنثى، وجُعِلَ للارتباط بينهما نظامًا متقنًا، ولم يُخلَق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فإن في ذلك مضادة للهِ تعالى في حكمته؛ إذ ليس في ذلك عِفَّة ولا إحصان لصاحبها، ولا عمران للأرض، بل هو كما قال تعالى، وما من مجتمع تفشت فيه هذه الانحرافات إلا أمسى معرضًا للانهيار والضياع، واستحق عليه أليم عقاب الله، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “فوَالله ما كان بين إهلاك أعداء الله، ونجاة نبيه وأوليائه، إلا ما بين السحر وطلوع الفجر، وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصولها، ورفعت نحو السماء، حتى سَمعَت الملائكة نباح الكلاب، ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الذي لا يرد من عند الرب الجليل، على يدي عبده ورسوله جبرائيل، بأن يقلبها عليهم، كما أخبر به في محكم التنزيل، فقال عز من قائل: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (3)، فجعلهم آية للعالمين وموعظة للمتقين (4)”.
نعم: الشهوة أمر فطري وغريزي في نفس الإنسان، ونحن في زمن كثرت فيه الفتن، وقلَّ المعين، وانتشرت المغريات، وضعُفَ اليقين، ولكن! المسألة إما أن نأخذ بالعزيمة، أو نخسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله، وليست العِفَّة ببعيدة المنال إذا استعنا بالواحد القهار.
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: “الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة، فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل، وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط (5)”، ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “جعل الله فينا أمرين: الشهوة والعقل، الشهوة لهذه الحكم، والعقل ليتحكم في الشهوة، ويصرفها فيما أراد الله”.
إننا لا نطالب هنا بالتبتل التام، لكننا نؤكد بذل الأسباب المعينة على سلوك الطريق المستقيم، وأول هذا الأمر هو العزيمة الصادقة، والإيحاء الإيجابي بالقدرة العالية، يقول أبو العباس السفاح: “إذا عظمت القدرة قلت الشهوة”؛ إذ أن الشهوة كما قيل “جواد جامح يقف رهن إشارتك، تستطيع أن تقوده فتتنزه به وتستمتع بين الرياض والبساتين، ويمكن أن يقودك هو فيضلك السبل ويخترق بك الأحراش فلا تجني إلا الوحل”.
أخي الكريم، أختي الكريمة: أربع خطوات التغلب على شهواتنا:
أولاها- لزوم الاستغفار، والقربى من الكريم الغفَّار بالتزام الواجبات والبعد عن المنهيات؛ فإنه سبحانه بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، قف على بابه حين ينام الناس، قف في مصلاك خاشعًا منيبًا، راغبًا راهبًا، أرسل دموعك بين يديه سبحانه، سله من واسع فضله ورحمته، سله أن يحصِّن فرجك، ويطهر قلبك، ويقوي إيمانك، ويخسأ شيطانك، ويجعلك من الصالحين العفيفين، ويصرف عنك نزغات الشياطين، سله وألحِّ عليه بالدعاء، (إن ربكم حيي كريم يستحي أن يبسط العبد يديه إليه فيردهما صفرا) (6).
وثانيها- يقول الحكيم الخبير: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) ) (7)، وقال عيسى بن مريم عليه السلام: “النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئةً (8)”، فالنظرة رسول الشهوة، وهي أخطر شيء على القلب، بل هي سبب جرح القلب وسقمه، ولن يرتاح قلب امرؤ مطلقًا لنظره العنان، ومتى أتبعت النظرة بالفكرة، كان ذلك هو الهلاك بعينه، قال سعيد بن أبي الحسن للحسن: “إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن؟ قال : اصرف بصرك يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم) (9)”.
واغضض جفونك عن ملاحظة النسا *** ومحاسن الأحداث والصبيان (10)
إن نفوسنا بحاجة إلى مجاهدة لنصل بها إلى بر الأمان، وقد كان السلف رحمهم الله في غاية الحرص على غض البصر، بل كانوا يحاربونه، ويعدونه منكرًا شديدًا، ويبذلون جهدهم في التشاغل عن النظر إلى مواقع الفتن، فقد “خرج حسان بن أبي سنان يوم العيد، فلما رجع، قالت له امرأته: كم من امرأة حسنة نظرت إليها اليوم ورأيتها؟ فلما أكثرت قال: ويحك ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك (11)”، “النظرة إذا أثرت في القلب، فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها، سهل علاجه، وإن كرر النظر ونقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه، تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات، كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن، ويلقي القلب في التلف، والسبب في هذا أن الناظر التذت عينه بأول نظرة، فطلبت المعاودة؛ كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة، ولو أنه غض أولاً لاستراح قلبه وسلم (12)”، يقول ع.خ: كانت عيني لا تمل صور الحسناوات، ولم أكد أنم يومًا إلا وصورة هذه أو تلك في عيني وقلبي … لكن كان الثمن باهضاً ، فقد تلفت أعصابي، وحيل بيني وبين إرادتي، ولم أكن أشعر بأي معنى لإيماني، والأهم أني بدأت أشعر بفاصل بيني وبين الصالحين والمؤمنين، وكان حبل النجاة لكياني هو قراري الجازم ذات يوم بقطع هذا الاسترسال في التفكير، وحفظ بصري عن المحرمات.
وثالثها- ينبغي أن يشغل المرء نفسه بما يفيد، يصرف تفكيره عن نزغات الشيطان وحبائله، فمن لم يشغل نفسه بالطاعة، شغلته بالمعصية، وإن لم تُحلِّق بها في معالي الأمور، انحدَرَتْ بصاحبها إلى سفاسفها، وإن لم تُحمل في قطار الجد، فسوف تحمله هي في قطار الكسل، وليكن من ملامح هذا البرنامج: “أداء الصلوات في أوقاتها، قراءة ورد يومي من القرآن الكريم وتدبره وحفظه، الحرص على أذكار الصباح والمساء وما قبل النوم، المحافظة على صلاة الضحى والوتر، صيام يوم في الأسبوع، أو ثلاثة أيام في الشهر، القراءة في الكتب المفيدة والمجلات النافعة واستخلاص الفوائد منها وتقييدها، صحبة الصالحين، زيارة الأقارب الموثوقين، الصدقة ولو بالقليل مع مساعدة المحتاجين ما أمكن، التعاون مع بعض الجهات الخيرية، الحذر من القنوات الفضائية أو المجلات السلبية، عدم التسويف في أداء الواجبات، حضور بعض الدورات التدريبية لتنمية المهارات، طاعة الوالدين، المشاركة في تقديم بعض الخدمات في المنزل، الاشتراك في بعض المنتديات الموثوقة على الانترنت”، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: “من أحسن في نهاره كفي في ليله، ومن أحسن في ليله كفي نهاره، ومن صدق في ترك شهوة كفي مؤنتها، وكان الله أكرم من أن يعذب قلبًا بشهوة تركت له (13).
ورابعها- الابتعاد عن أسباب إثارة الشهوة، فأختنا ط.ت تقول: “ابتليت بمشاهدة بعض المواقع الجنسية، فشعرت بالذنب والخوف من الله، هذه وأمثالها يخاطبها سلمان العودة بقوله: “من يظن أنه يطفئ نار الشهوة بالوقوع فيها فهو كمن يظن أنه يطفئ النار بوضع الحطب عليها”، وعبد الصمد رحمه الله يقول لها: “من لم يعلم أن الشهوات فخوخ فهو لعاب”، فإن: “من أرضى الجوارح باللذات فقد غرس لنفسه شجر الندامات (14)”؛ فالشهوة لا تهيج وحدها، وإنما يدفعها صاحبها للتمرد والهيجان، تارة بالفكر وأحلام اليقظة، وتارة بالنظر إلى الصور وقراءة القصص والسماع الموحِي؛ فإن كان هذا حالك أخي الكريم، أختي المؤمنة، فلتتدارك نفسك بعدة وصايا لتجنب أسباب إثارة الشهوة، منها: تجنب إدخال الطعام على الطعام، أو الإكثار المفرط فيه، وخصوصًا الأكلات الدسمة والبحرية والمكسرات، ولتكن وجبة العشاء خفيفة، وتخلَّص من الصور الفاتنة، والمقاطع الفاحشة، والأغاني الماجنة، أو القصص الجنسية، بل ولا تسمح لنفسك بالاسترسال فيها، اصرف تفكيرك مباشرة في أمر آخر، أو في شأن من شؤون حياتك، أو في أمور المسلمين، وتجنب احتضان الدمى أو الوسائد، وكذا تجنَّب الأماكن المكتظة بروادها كالأسواق، أو النظر المباشر أو غير المباشر إلى الرجال أو النساء، كما ينبغي عدم الذهاب إلى النوم إلا عند الحاجة إليه، وأن يكون على طهارة، وبعد قراءة أدعية النوم وخصوصًا آية الكرسي والمعوذات، ثم تجنب النوم بصورة منفردة، أو بملابس عارية أو شبه عارية، أو ملابس شفافة أو ناعمة الملمس، وكذا تجنب النوم على البطن، مع ترك الفراش مباشرة عند الاستيقاظ، فعن الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ وَقُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ) (15).
وأخيرًا: فما دمت في زمن المهلة، فلا يزال للشيطان فيك مطمع، فهو ينتظر منك التفاتة إليه، وإلى حبائله وخطواته، فأنتَ الآن في صراع من أجل البقاء، فإن: “من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها، وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل؟ فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في الهبوط ويقال لك ابق بما اخترت، فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له، لم يزل في نزول (16)، وحبيبك صلى الله عليه وسلم يدعوك للجنة فيقول: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ) (17)”.
اهتف صادقًا: “وداعًا يا قيود الأرض”، لتكن همومك وفِكرك في معالي الأمور وعظائمها، انظر إلى السماء، إلى العلياء، إلى الجوزاء، إلى سير الصحابة رضوان الله عليهم، إلى الشامخين العابدين، إلى المؤمنين القانتين الناجحين، اقرأ كثيرًا في سيرهم، عش معه، فإن العيش في ظلالهم حياة لا موت فيه، وسمو لا حضيض فيه، ونعيم لا شقاء فيه.(1) مجموع الفتاوى 10/597.
(2) سورة النمل: 55.
(3) سورة هود: 82.
(4) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم رحمه الله.
(5) إحياء علوم الدين.
(6) صحيح الجامع / 2070.
(7) سورة النور: 31.
(8) ذم الهوى لابن الجوزي رحمه الله.
(9) صحيح البخاري: 5/2299.
(10) نونية القحطاني رحمه الله.
(11) حلية الأولياء.
(12) روضة المحبين / 94 .
(13) حلية الأولياء: 4 / 172 .
(14) مقولة ليحي بن معاذ رحمه الله.
(15) رواه البخاري.
(16) صيد الخاطر لابن الجوزي رحمه الله.
(17) رواه البخاري رحمه الله.