نهال عبد الله

 

سبيل المخلصين الأنقياء، ومرد العابدين الأصفياء، يشتهرون به فيعلمون حقيقته فيسيرون في دروب الحياة وهم يصطحبونه ليل نهار، حتى إنهم يوم القيامة ليوصفون به.
إنه التوكل على الله سبحانه قال تعالى: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)، وقال أيضًا: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)، وحقيقته أن يعتمد العبد على الله -عز وجل- اعتمادًا صادقًا في مصالح دينه ودنياه مع الأخذ بالأسباب.
والتوكل على الله عمل من أعمال القلوب، وهو من لوازم الإيمان، قال السعدي رحمه الله: “فإن العبد لا حول له ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإن منزلة التوكل من الإيمان بالله وتوحيده بمكان قال تعالى: (وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون)، فيعتمدون عليه في جلب مصالحهم ودفع مضارهم لعلمهم بتمام كفايته وكمال قدرته وعميم إحسانه، ويثقون به في تيسير ذلك وبحسب ما معهم من الإيمان يكون توكلهم، فعلم بهذا وجوب التوكل، وأنه من لوازم الإيمان، ومن العبادات الكبار التي يحبها الله ويرضاها، لتوقف سائر العبادات عليه”.
والتوكل على الله ما هو إلا اعتماد القلب عليه، والعلم بكفايته سبحانه لعباده، مع التسليم والرضا والثقة بالله، والطمأنينة إليه سبحانه، وتعلق القلب به في كل حال، والبراءة من الحول والقوة إلا به، قال ابن القيم : “التوكل من لوازم الإيمان ومقتضياته قال تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) فجعل التوكل شرطًا في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل”، وقال الزبيدي: “التوكل هو الثقة بما عند الله واليأس فيما في أيدي الناس؛ فالتوكل على الله اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب مع كامل اليقين أن الله هو الرازق الخالق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه ، فإذا اعتمد الإنسان على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فذلك هو الشرك.
وأما إذا توكل الإنسان على غيره في فعل ما لا يقدر عليه هو مثل البيع أو الشراء أو الزواج فهذا جائز، ويُسمى وكالة وليس توكلاً، قال تعالى: (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) الممتحنة، وقال أيضًا: (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) الشورى.
وللتوكل على الله منزلة عظيمة فمن اتصف به عن حق فهو من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب) قالوا: من هم يا رسول الله، قال: (هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، وقال بعض السلف: العلم كله باب من التعبد، والتعبد كله باب من الورع، والورع كله باب من الزهد، والزهد كله باب من التوكل.
فعلى المسلم أن يتوكل على الله في كل شيء يريده، فهو وحده من بيده الخير والشر وهو وحده من يقضي الحوائج، فكم من أمر يظن الإنسان من ظاهره أنه خير ثم يجده شرًا، وكم من أمر يظن الإنسان أن في ظاهره الشر ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم)، فاليقين بالله وصدق التوكل عليه هو أول الخطوات بل وأهمها في راحة النفس والسعادة في الدنيا والآخرة، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وأن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) “رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح”، وروى ابن القيم عن سعيد بن المسيب قال: “التقي عبد الله بن سلام وسلمان، فقال أحدهما لصاحبه إن مت قبلي فألقني فأخبرني ما لقيت من ربك، وإن مت قبلك لقيتك فأخبرتك، فقال أحدهما للآخر: أو يلقى الأموات الأحياء؟ قال: نعم أرواحهم تذهب في الجنة حيث شاءت، قال: فمات فلان فلقيه في المنام فقال: توكل وأبشر فلم أرَ مثل التوكل قط، توكل وأبشر فلم أرَ مثل التوكل قط، يكررها”.
أما من لا يأخذ بالأسباب ويترك العمل بدعوى أنه متوكل فهذا ما فهم التوكل قط، ويسمى تواكل وليس توكل؛ فقد فرّق العلماء بين التوكل والتواكل، فقالوا: التوكل هو تفويض الأمور كلها لله مع الأخذ بالأسباب الشرعية وبذل الجهد، والتواكل هو: تفويض الأمور لله -عز وجل- دون الأخذ بالأسباب ولا التعب من أجل الحصول على المطلوب، رُوي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رأى أناسًا فقراء أيام الحج فسألهم من أنتم، قالوا: نحن المتوكلون، فقال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله، ومعنى ذلك أنه على الإنسان السعي والأخذ بالأسباب وعلى الله التوفيق للخير، قال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا) “رواه أحمد”، فالتوكل على الله أهم موجبات الرزق، فعلى الإنسان السعي واليقين أنه لن ينال إلا ما كتب الله وقدّر
قال الله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون).

المصدر: موقع المسلم.

Scroll to Top