ماجد محمد الجهني.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فلقد جاءت شريعة الإسلام بمنهج واف للحياة يلم شعثها ويصلح ما فسد منها، ويقوم ما اعوج من سبلها فلا يوجد خير إلا ودل الإسلام عليه، ولا يوجد شر إلا وحذر الإسلام منه فلله الحمد والشكر على ما امتن به على عباده.
وإن من جوانب الحياة المهمة التي شملها هذا الدين العظيم وحرص على تقويتها جانب مهم ألا وهو جانب الأخلاق، فلقد جاء نبينا متممًا لصالح الأخلاق (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
ولقد تظاهرت النصوص الشرعية الدالة على أهمية الأخلاق وأن الخلق محصلة من محصلات التدين ومن لم يكن ذا دين فلن ينفعه خلقه عند الله -عز وجل- شيئًا يقول الله -عز وجل- واصفًا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم: (وإنك لعلى خلق عظيم)، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- عن هذه الآية: (لعلى دين عظيم، لادين أحب إلي، ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام)، وفي الصحيحين أن هشام بن حكيم سأل عائشة -رضي الله عنهما- عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: (كان خلقه القرآن).
نعم خلقه القرآن، فهو إذا خلق تدين وعبادة وخشوع وإخبات لله رب العالمين، محركه حب الله ووقوده طاعة الله، وماء حياته الرصيد الهائل من التقرب إلى الله والاعتصام بحبله المتين وصراطه المستبين، وهو خلق ينبع من القرآن عنه يصدر وإليه يأرز ورايته المرفوعة وعلامته الموسومة الاحتساب وابتغاء ما عند الله -عز وجل- والدار الآخرة.
وإن من الأخلاق العظيمة التي حث الشرع المطهر عليها خلق الحلم، والحلم بالكسر معناه كما قال صاحب القاموس المحيط هو: “الأناة والعقل” وجمعه أحلام وحلوم ومنه الرجل الحليم والحليم يجمع على حلماء وأحلام
وأما معناه الاصطلاحي فهو: ضبط النفس عند الغضب، وكفها عن مقابلة الإساءة بمثلها وإلزام هذه النفس حال غضبها بحكم الإسلام.
لقد أثنى نبينا -صلى الله عليه وسلم- على أشج عبد القيس بقوله: (إن فيك خلتين يحبهما الله) قلت: وما هما يا رسول الله، قال: (الحلم والأناة) “رواه البخاري في الأدب المفرد”.
الله أكبر الحلم من الخصال التي يحبها الله فهل استشعرنا هذا المعنى حال هجوم سورة الغضب علينا؟ هل نستشعر أن هذه الخلة من محبوبات الله -عز وجل- فيحملنا ذلك الشعور على الصبر الجميل والحلم العظيم ونحن نقول بلسان الحال والقال: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).
وصف شريف ورداء نظيف يلبسه الله لمن يشاء من أوليائه الذين لا يرتدونه إلا احتسابًا ولايرتدونه رياءًا وسمعة وخيلاءً ، فهذا نبي الله وخليله إبراهيم -عليه السلام- استحق وصف الحليم: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب)، ولقد بعث الله له من ذريته غلامًا حليمًا ونبيًا كريمًا إنه إسماعيل عليه السلام: (فبشرناه بغلام حليم)، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- سيد الحنفاء والحلماء قال عنه ربه: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وقد قال الله -عز وجل- موصيًا نبيه -عليه الصلاة والسلام- ومربيًا االأمة على هذا الخلق (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) ويقول سبحانه مثنيًا على أصحاب هذا الخلق النبيل: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ** الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).
إنها معالم نورانية للسالكين وبراهين ربانية لشحذ همم السائرين ترشدهم إلى الخلق الذي يستوعبون به الناس لينقلوهم من ضيق النفوس إلى سعة القلوب والصدور، وإن من أحوج الناس لتلمس تلك الدلالات والمعاني الذين يتصدرون لدعوة الناس “فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” والنبي -صلى الله عليه وسلم- خالط الناس في دعوته بالاحتساب والصبر والحلم والأناة ولم يخالطهم بالفظاظة والغلظة والقسوة والغضب وصدق الله (ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك).
وحياته -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة دليل الصدق على سمو نفسه -عليه الصلاة والسلام- فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: “كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أمر له بعطاء) “رواه البخاري في كتاب اللباس”.
موقف رهيب، وحلم عجيب، وبهاء وروعة، وسمو وتواضع، وحنو مصدره إيمان وحلم يزين جبين الرحمة المهداة والمنة المسداة لهذه البشرية الحائرة التي كانت قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- لا تعرف ما معنى الرحمة ولا ما معنى الخلق.
بالله عليكم يا أحبابنا لو كانت هذه المعاني مستحضرة في واقعنا وواقع تعاملنا مع عباد الله -عز وجل- كيف سيكون حال دعوتنا؟ كيف لو استحضر المعلم هذا المعنى مع طلابه ورواد درسه؟ وكيف لو استحضرت المعلمة ذلك مع طالباتها؟ وكيف لو تأمل الداعية والمربي والشيخ والعالم في هذا الموقف من النبي -صلى الله عليه وسلم- وتمثله أصحاب الرسالات والدعوات في حياتهم، كيف سيكون حال الناس؟
إن الشعور النبوي الكريم والشفقة على الخلق قد فاضت حتى انطبعت في قلوب اتباعه وأصحابه حبًا وتضحية يفوق وصف الواصفين وقبولاً ماله نظير وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو الرحمة التي أنقذ الله بها البشرية من غول التيه والحيرة.
يا معشر الدعاة يا معشر المربين يا معشر العلماء والفضلاء والنبلاء الحلم الحلم فإنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فلتسعوهم بأخلاقكم.
المصدر: صيد الفوائد.