الجهر بالذكر في الصلاة تحليلٌ نفسي وبيانٌ شرعي:د. عمر عبد العزيز السعيد.بسم الله الرحمن الرحيم
لاحظتُ منذ عدة سنوات، ومع تنوع المساجد واختلاف الأحياء والبلدان أمرًا متكررًا، وقد لاحظه كثيرون غيري، وهو: أني أجد مصليًّا مأمومًا أو متنفلًا في المسجد تظهر عليه علامات الاستقامة والصلاح، مع تفاوتٍ في العمر، ألحظ عليه جهره بالذِّكر في الصلاة المفروضة أو النافلة حتى أنَّ صوته يسمع من بجانبه أو أكثر، وقد يستمر في الجهر في كل القراءة أو في بعضها، وقد يجهر في ذكر الركوع دون السجود أو العكس، ولا أعمم الحكم على كل أهل الصلاح والاستقامة! كلا، وإنما أصف لك ما رأيتُه وشاهدتُه، وإلا فكثير من أهل العلم والصلاح يحذِّر من هذا التصرف ويتضايق منه، والمشكلة تفاقمت بانتقالها إلى جملة من عامة الناس تأثّرًا بفعل هذه الفئة من أهل الصلاح.
وبعد دراسة هذه الحالة أبيّن لك تحليلي النفسي وأنقل عن أهل العلم الحكمَ الشرعي.
أما التحليل النفسي كما يظهر لي: أن سبب ذلك قد يكون بحثًا عن الخشوع في الصلاة، وهو يرى أن الجهر بالقراءة أو الأذكار يحقق خشوعه وارتياحه! ولم يعلم أنَّ هذا الفعل يتسبَّب في التشويش على خشوع الآخرين، فالمهم في نظره نفسُه، وليس له علاقة بغيره!
وقد يكون سببُه وسواسًا يخالج صدرَه، ومخاوفًا تقلق قلبَه، فيعتقد أن الحلَّ في ذلك أن يرفع صوته بالذِّكر؛ خشية أن يكون قد ترك ركنًا من أركان الصلاة أو واجبًا من واجباتها على حسب ظنِّه!
وقد يكون لك أيها القارئ تحليل آخر، أو يكون لك وجهة نظر فيما ذكرتُ من تحليل، وأنا أحترم وجهة نظرك، وأقدّر لك تحليلك.
وأما الحكم الشرعي: فلا بد أولاً من التنبيه على أمرين:
الأمر الأول: أن الأصل في قراءة الصلاة السر للإمام والمأموم باستثناء: صلاة الفجر والأولى والثانية من صلاة المغرب والعشاء، وقد يجهر الإمام بالقراءة في الصلاة السرية أحيانًا لغرض التعليم؛ كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بأم الكتاب وسورة معها في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر، ويسمعنا الآية أحيانًا …) “رواه البخاري”، قال ابن رجب رحمه الله تعالى: “قوله: (كان يُسمعنا الآية أحيانًا) ظاهرة: أنه كان يقصد ذلك، وقد يكون فعله ليعلمهم أنه يقرأ في الظهر والعصر، وقد يكون فعله ليعلمهم هذه السورة المعينة، أو ليبين جواز الجهر في قراءة النهار، وأن الصلاة لا تبطل به، “فتح الباري، لابن رجب، 7/86″، وهذا الجهر للإمام في الصلاة السرية على سبيل القلة والندرة، وليس على سبيل الكثرة والاستمرار؛ جمعًا بين هذا الأثر والأثر الذي في سيأتي في ثنايا المقال.
الأمر الثاني: أن المسلم إذا صلى وحده في بيته وليس معه أحد فالأمر واسع في حقه فله الجهر وله الإسرار؛ لأنه لا يوجد بقربه من يتأذى بجهره، ويُستأنس بما رواه الطبري رحمه الله تعالى عن محمد بن سيرين، قال: نُبِّئتُ أن أبا بكر رضي الله عنه، كان إذا صلّى فقرأ خفض صوته، وأن عمر رضي الله عنه كان يرفع صوته، قال: فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي، وقد علم حاجتي، قيل: أحسنت، وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، قيل: أحسنت، فلما نزلت: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً) الإسراء،: 110، قيل لأبي بكر: ارفع شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا ، “جامع البيان، تحقيق د. التركي، 15/132”.
وبعد ذلك أبين الحكم الشرعي لجهر المأموم بالقراءة والأذكار في صلاة الجماعة، في خمس وقفات:
الوقفة الأولى: أن نفرّق بين السِّر والجهر: فأدنى الجهر أن تُسمع من بجانبك، ولا حد لأعلاه، وقد يعجب بعضُهم من هذه المعلومة وخصوصًا ممن يفعل هذا الفعل، نعم أخي العزيز إذا سمع من بجانبك صوتَك فقد خرجتَ من دائرة السِّر والإخفاء إلى الجهر والإعلان، فأنت حينئذٍ قد جهرتَ بصلاتك ولم تخافت بها، وأما السِّر فحقيقته: أن يحرك المتكلمُ لسانَه وشفتيه، وبعض أهل العلم قال: أن يسمع المتكلمُ نفسَه، نعم نفسه وليس غيره! فإن أسمع غيرَه خرج من السِّر إلى الجهر، وبذلك يكون خالف السُنَّة في الإسرار بالقراءة والذكر، ويدل على ذلك (أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعرفون أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر باضطراب لحيته) “رواه البخاري” قال ابن رجب رحمه الله تعالى: “فيه دليل على أن قراءة السِّر تكون بتحريك اللسان والشفتين وبذلك يتحرك شعر اللحية، وهذا القدر لا بد منه في القراءة والذكر وغيرهما من الكلام، فأما إسماع نفسه فاشترطه الشافعي وبعض الحنفية وكثير من أصحابنا، قال ابن أبي موسى من أصحابنا: القراءة التي يسرها في الصلاة يتحرك اللسان والشفتان بالتكلم بالقرآن، فأما الجهر فيسمع نفسَه ومن يليه” “فتح الباري، لابن رجب، “7/17-1”.
الوقفة الثانية: أن جهر المأموم بالقراءة أو التكبير أو الأذكار مكروه؛ قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى: “وأجمعت الأمة على أن المأموم يُسن له الإسرار ويكره له الجهر” “المجموع شرح المهذب، 3/355″، وقال رحمه الله تعالى: “أجمع العلماء على الإسرار بالتشهدين وكراهة الجهر بهما” “المجموع شرح المهذب، 3/444″، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: “يشرع للإمام رفع صوته في جميع التكبيرات حتى يُسمع من خلفه، وأما المأموم فالمشروع في حقه عدم رفع صوته، في التكبيرة الأولى وغيرها، وإنما يكبر بحيث يُسمع نفسَه فقط، بل رفع الصوت بالتكبير من المأمومين من الإحداث في الدين” ، “فتاوى اللجنة الدائمة، رقم الفتوى: 10892”.
الوقفة الثالثة: أن الجهر بالقراءة أو الذكر في الصلاة فيه أذية للمصلين الذين بجانبه ولغيرهم، وتقدير الأذية ليس من الشخص الذي جهر بصوته؛ لأنه يعتقد في قرارة نفسه أنه لم يؤذ أحدًا! وإنما تقدير ذلك لمن بجانبه، وعلامة ذلك: أن يتحاشى الناسُ الوقوفَ بجانبه فيبتعدون عنه! وقد يهجر بعضُهم المسجدَ القريب من بيته إلى مسجد آخر؛ بسبب تأذِّيه بجهر بعضهم بالذكر ورفع صوته به! قال العلامة الباجي المالكي رحمه الله تعالى: “وقد بيّن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه مالك في الموطأ؛ لأن في ذلك إيذاءَ بعضِهم لبعض، ومنعًا من الإقبال على الصلاة” “المنتقى، 1/150″، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: “هنا مسألة أنبه عليها وهي أن بعض المأمومين الذين يصلون وراء الإمام تسمعهم يجهرون إما: بالتكبير، وإما قول: سبحان ربي الأعلى، وإما بقول: سبحان ربي العظيم، وإما بالقراءة فيشوشون على من حولهم، وهذا أقل أحواله الكراهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يقرؤون ويجهرون بالقراءة فنهاهم وقال: (لا يؤذين بعضكم بعضًا في القراءة) “رواه أبوداود وصححه الألباني” فجعل صلى الله عليه وسلم هذا إيذاءً، وصَدَق؛ فإن الإنسان الذي يجهر بالصلاة وحوله من يصلي يؤذيه بلا شك؛ لهذا ننهى إخواننا الذين يصلون وراء الإمام أن يجهروا بشيء من أذكار الصلاة: لا القراءة ولا التسبيح ولا الدعاء؛ لئلا يشوشوا على من حولهم” ، “فتاوى نور على الدرب، 8/2”.
الوقفة الرابعة: نص جملة من الفقهاء رحمهم الله تعالى على ترك السنة الثابتة الصحيحة إن ترتب عليها أذية لغيره؛ لأن فعل السنة مستحب، وأذية غيره مكروه وقد يكون محرمًا، وترك الأذية مقدم على فعل السنة، هذا إذا ثبت أنها سنة، فكيف بالجهر بالذكر في الصلاة الذي هو مخالف للسُنَّة، وفيه أذية! قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لقول العلامة الحجاوي رحمهما الله تعالى في صفة السجود: “ويجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه” قال: “ويُسْتثنى من ذلك: ما إذا كان في الجماعة؛ وخشي أن يؤذي جارَه، فإنه لا يُستحبُّ له؛ لأذيَّة جاره، وذلك لأن هذه المجافاة سُنَّةٌ، والإيذاء أقلُّ أحواله الكراهة، ولا يمكن أن يفعل شيء مكروه -هكذا في النسخة- مؤذٍ لجاره مشوِّش عليه من أجل سُنَّة، ولهذا استثنى العلماء رحمهم الله ذلك، فقالوا: ما لم يؤذِ جاره، فإن آذى جاره فلا يفعل” ، “الشرح الممتع على زاد المستقنع، 3/120”.
الوقفة الأخيرة: إن دعوى أن الجهر بالقراءة والذكر يعين على الخشوع دعوى تحتاج إلى معالجة، وقد أشار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى إلى ذلك في كلامه عن مسألة تغميض العينين في الصلاة وقد نص العلماء على كراهتها، وأجاب الشيخ على من يدعي أن تغميض العينين أخشع لصلاته، حيث قال: “ولكن يذكر كثيرٌ من الناس أنه إذا أغمض عينيه كان أخشع له، وهذا من الشيطان يُخَشِّعُهُ إذا أغمض عينيه من أجل أن يفعل هذا المكروه، ولو عالجَ نفسَه وأبقى عينيه مفتوحة وحاول الخشوع لكان أحسن…. ولا تغترَّ بما يُلقيه الشيطان في قلبك من أنك إذا أغمضتَ صار أخشعَ لك” ، “الشرح الممتع على زاد المستقنع، 3/229”.
أخي المصلي العزيز: لعل هذا المقال يبيّن لك أمرًا ربما كان خافيًا عليك، فإن ظهر لك الحق فيه فاحرص على اتباعه والالتزام به ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ فالسُنَّة كلها خير، واتباعها صلاح واستقامة، واللهَ نسأل أن يهدينا إلى الحق، ويرزقنا العمل به، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.