“وسطية الإسلام”
تأليف: محمود عبد الخالق السعداوي.
مقدمة:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران: 102، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيًبا) النساء: 1، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) الأحزاب: 70-71
أما بعد:
وضع الله هذه الشريعة حنيفية سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك؛ فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص من أعمالهم، ألا ترى قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّم) الحجرات: 7.
وقد جاء هذا الكتاب في مقدمة وأربعة أبواب، وخاتمة كالآتي:
الباب الأول: بين يدي القارئ.
الباب الثاني: مظاهر الوسطية.
الباب الثالث: الوسطية في مكارم الأخلاق.
الباب الرابع: شبهات وردود.

الباب الأول: بين يدي القارئ:
الفصل الأول: معنى الوسطية:
– لغةً: الواو والسين والطاء: بناء في اللغة صحيح يدل على العدل والنصف، وأعدل الشيء أوسطه، ووسطه وشيء وسط: بين الجيد والرديء ووسط الشيء ما بين طرفيه،
– معنى الوسط في القرآن الكريم ووجوه استعماله:
قال الراغب الأصفهاني: “والوسط تارة” يقال فيما له طرفان مذمومان كالجواد الذي هو بين البخل والسرف، فيستعمل القصد المصون عن الإفراط والتفريط، فيمدح به نحو السواء والعدل والنصف، نحو قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) البقرة: 143، وعل ذلك قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) القلم: 28.
– معنى الوسطية في السنة النبوية:
النبي صلى الله عليه وسلم فسر الوسطية في السنة بالعدل، قال صلى الله عليه وسلم: (يجيء نوح وأمته، فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله جل ذكره (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ)، قال وسطًا: عدلاً.

الفصل الثاني: طريقة المشرع في التشريع:
للشريعة الإسلامية ميادين ثلاثة تصول فيها وتجول وهي:
العقائد، العبادات، المعاملات.
1- أسلوب المشرع في ميدان العقائد هو أسلوب المخير الواصف.
2- أسلوب المشرع في ميدان العبادات أسلوب المنشئ المجدد.
3- أسلوب المشرع في ميدان المعاملات أسلوب الناقد المهذب.

الفصل الثالث: مجيء التكاليف في حدود الاستطاعة:
يعبر عن ذلك في الشريعة الإسلامية “بنفي الحرج” فهو أصل من الأصول المقطوع بها، ولا خلاف عليه بين علماء الشريعة، ويدل عليه في القرآن الكريم ما يأتي من الآيات:
– الشواهد القرآنية:
(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة: 185.
– الشواهد من السنة المطهرة:
وقد سرى هذا المبدأ من الكتاب إلى السنة المطهرة؛ فقد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت بالحنفية السمحة)، وفي رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إني بعثت بالحنيفية السمحة)، وقد تقدم تخريجه.

الباب الثاني: مظاهر الوسطية في الإسلام.
الفصل الأول: الوسطية في العقائد:
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس وَيَكُون الرَّسُول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) البقرة: 143، قال ابن جرير الطبري “ت سنة 310 ه” رحمه الله تعالى: “وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا غلو فيه، غلو أهل النصارى الذين غلو بالترهب وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذا كان أحب الأمور إلى الله أوسطها”.

الفصل الثاني: الوسطية والاقتصاد في العبادات:
قال تعالى: (طه، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) طه: 1-2، قال ابن كثير أسند القاضي عياض “ت سنة 544 ه” في كتابه الشفاء
عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى (طه) يعني طأ الأرض يا محمد (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) ثم قال: ولا يخفى ما في هذا الإكرام وحسن المعاملة.
والأمة الإسلامية وسط بين أهل الكتاب، وقال في موضع آخر
“وتوسطت هذه الأمة في الطهارة والنجاسة، وفي الحلال والحرام، وفي الأخلاق، ولم يجردوا الشدة كما فعله الأولون، ولم يجردوا الرأفة كما فعله الآخرون؛ بل عاملوا أعداء الله بالشدة، وعاملوا أولياء الله بالرأفة والرحمة، وقالوا: في المسيح ما قاله سبحانه وتعالى، وما قاله المسيح والحواريون، لا ما ابتدعه الغالون، والجافون”.

الفصل الثالث: الوسطية في إقامة الحدود الشرعية:
قال العلامة السبكي في حديثه عن وظائف الوالي: “ومن واجبه الفحص عن المنكرات من الخمر والحشيش، وليس له أن يتجسس على الناس، ويبحث عما هم فيه ولا كبس بيوتهم بمجرد القال والقيل، بل عليه أن يبعث سرًا رجلاً، مأمونًا ينهى عن المنكر بقدر ما نهى الله، وينتقد السبكي سياسة الولاة في عصره وما يفعله الولاة من إخراج العوام من بيوتهم وإرعابهم وإزعاجهم وهيتكتهم كل ذلك من تعدي حدود الله أو ظلم وينصح الوالي إذا أوقع عقوبة بمذنب كالجلد مثلاً، أن يكون السوط معتدلاً بين القضيب والعصا، وألا يكون السوط رطبًا ولا يابسًا، على أن يفرق السياط على الأعضاء، وعلى أن يتقي الوجه”.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الجلد الذي جاءت به الشريعة هو الجلد المعتدل، بالسوط الوسط؛ فإن خيار الأمور أوساطها ، قال علي رضي الله عنه: “ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين، وألا يكون الجلد بالعصا ولا بالمقارع”.

الفصل الرابع: الوسطية في المعاملات:
وأما موقف الشرع في ميدان المعاملات، فإنه يختلف اختلافًا جوهريًا عن موقفه في كل من ميدان العقائد، وميدان العبادات، فالشريعة الإسلامية هي التي أنشأت للناس صور التبادل والتعاون، والتعامل، ولكنها جاءت فوجدت صورًا يتعامل الناس بها فكان لها موقف منها، غير موقف الإنشاء والرسم، وغير موقف الإخبار والوصف، وذلك الموقف هو موقف الإقرار أو التعامل أو الإلغاء، وهو أسلوب الناقد المهذب، وهي لا نتدخل في هذا الميدان إلا بمقدار ما تحمي مثلها ومبادئها التي جاءت بها، ومن العدل والتيسير والرحمة ودفع أسباب التشاحن والبغضاء، وربط أفراد المجتمع برباط من المحبة والتعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان.

الباب الثالث: الوسطية في مكارم الأخلاق.
انحراف أهل الكتاب عن منهج الوسطية:
رهبانية أهل الكتاب:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الحذو حذو الرهبان والسير على نهج أمة النصارى والتحذير من التبتل والانقطاع للعبادة وترك الزواج، والانغماس في الصيام والصلاة وحياة التقشف ولبس المسوح، وتعذيب النفس بدعوى الحرص على مرضاة الله وشدة الاجتهاد في العبادة، ومن خلال ما سوف نسوقه من أدلة وبراهين توضح الهاوية التي انزلقت إليها أمة النصارى من جراء انحرافهم عن القصد في العبادة ومراعاة حقوق النفس البشرية التي لو هضم الإنسان حقها لأهلك نفسه وفرط في الأمانة التي أودعها الحق تعالى فيه فلكل جارحة من جوارح الإنسان حق على المرء أن يؤديه كاملاً، وكل تفريط في الحق هو مخالفة صريحة لأوامر الله ولو كان ذلك كما يزعم هؤلاء استغراق في الطاعة بالكلية وإعراض تام عن الدنيا بزخرفها، بل إن ذلك في الحقيقة هو انحراف عن الشريعة، وإعراض عن الحق ومسلك جائر، وغلو وتنطع مرفوض.

الباب الرابع: شبهات وردود.
– الشبهة الأولى: شبهة تشديد الصحابة والتابعين على أنفسهم: قال الشاطبي رحمه الله تعالى: قد يقول البعض صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يواصل في صيامه، وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، بل قد صح أن نفرًا كبيرًا من الصحابة والتابعين صبروا على احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائمًا ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضي الله عنهم، ممن إشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد، كعمر وعثمان وأبي موسى الأشعري وسعيد بن عامر، وعبد الله بن الزبير، ومن التابعين كعامر بن عبد قيس وأويس، ومسروق، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، والربيع بن خيثم، وعروة، وعبد الله بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن “راهب قريش”، وكمنصور بن زاذان، ويزيد بن هارون، وهشيم، وزر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم وهم من أتباع السنة والمحافظة عليها.
– الشبهة الثانية: هل الحدود الشرعية تتصف بالوحشية وضد منهج الوسطية؟
والحقيقة أن هذه الشبهة يثيرها على الدوام أعداء الإسلام، ومنظمات حقوق الإنسان الغربية المعروفة بعدائها الشديد للقيم الإسلامية في قضايا المرأة، قضايا الحدود الشرعية الإسلامية.
وقد ردّ د. حمدي زقزوق على هذه الشبه ردًا جيدًا بقوله: الإسلام ليس دينًا يرغب في القسوة ويشتهي العنف، بل العكس هو الصحيح، وهو أنه دين يدعو إلى الرحمة والتراحم والسماحة، ولكنه في الوقت نفسه يحرص على استتاب الأمن وإقرار السلم في المجتمع ضمانًا لحرية الأفراد، وإذا كان الإسلام قد وضع الحدود لمعاقبة المجرمين فإنه دعا إلى درئها بالشبهات، وإلى وقفها بالتوبة إذا رأى القاضي أن من تورط فيها قد ندم على فعله وأنه تاب توبة نصوحًا وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فخلوا عن سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة).
وإن عقوبة الزنا من الأمور التي يصعب تنفيذها نظرًا لأن الإسلام قد اشترط لثبوت جريمة الزنا أن يشهد على ذلك أربعة شهود يقررون أنهم رأوا وقوعها على نحو صريح لا شبهة فيه، وهذا أمر صعب.
والإسلام لا يقطع يد سارق جائع سرق من أجل إطعام نفسه وإطعام أولاده، ولكنه يعاقب السارق المتبجح الذي يسرق لا لحاجته ولكن لسرقة كسب الآخرين وكدحهم، وإشاعة الفساد في المجتمع، ومثل هذا الجانب لا يستحق شفقة من أحد؛ لأنه هو نفسه لم يشفق أو يرحم من سرق منه وقد يكون المسروق منه في أشد الحاجة إلى المال الذي سرق منه، وشرط تطبيق عقوبة السرقة هو توفير العدل الاجتماعي، والقضاء على شبح الفقر في المجتمع، الأمر الذي لا يشعر فيه مواطن بدافع يدفعه إلى السرقة.

Scroll to Top