تأليف الفقير إلى الله تعالى:
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في “نور الإخلاص وظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة” بيّنت فيها: مفهوم الإخلاص وأهميته، ومكانة النية الصالحة، وذكرت خطر إرادة الدنيا بالعمل الصالح، وأنواع العمل للدنيا، وخطر الرياء، وأنواعه، وأقسامه، وأثره على العمل، وأسبابه ودوافعه، وطرق تحصيل الإخلاص.
ولا شك أن الإخلاص سبب للنصر، والنجاة من عذاب الله، ورفع المنزلة في الدنيا والآخرة، والفوز بحب الله، ثم حب أهل السموات والأرض للمخلص، وهذا في الحقيقة نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض؛ لأن ذلك ينافي كمال التوحيد ويحبط العمل الذي قارنه، قال الله : (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وقد قسمت هذا البحث إلى مبحثين، وتحت كل مبحث مطالب على النحو الآتي:
المبحث الأول: نور الإخلاص:
المطلب الأول: مفهوم الإخلاص.
المطلب الثاني: أهمية الإخلاص.
المطلب الثالث: مكانة النية الصالحة وثمراتها.
المطلب الرابع: ثمار الإخلاص وفوائده.
المبحث الثاني: ظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة:
المطلب الأول: خطر إرادة الدنيا بعمل الآخرة.
المطلب الثاني: أنواع العمل للدنيا.
المطلب الثالث: خطر الرياء وأضراره.
المطلب الرابع: أنواع الرياء ودقائقه.
المطلب الخامس: أقسام الرياء وأثره على العمل.
المطلب السادس: أسباب الرياء ودوافعه.
المطلب السابع: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء.
والله أسأل باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب أن يجعل هذا العمل القليل مباركًا خالصًا لوجهه الكريم، مقربًا لمؤلفه، وقارئه، وطابعه، وناشره، من الفردوس الأعلى من الجنة، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه، فإنه تعالى خير مسؤول وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المبحث الأول: نور الإخلاص:
المطلب الأول: مفهوم الإخلاص
حقيقة الإخلاص: هو أن يريد العبد بعمله التقرب إلى الله تعالى وحده.
والإخلاص: في حياة المسلم أن يَقصد بعمله، وقوله، وسائر تصرفاته، وتوجيهاته وتعليمه وجه الله تعالى وحده لا شريك له ولا رب سواه.
المطلب الثاني: أهمية الإخلاص.
لقد خلق الله الخلق: الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، وأمر جميع المكلفين بالإخلاص: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين)
والإخلاص هو روح عمل المسلم، وأهم صفاته، فبدونه يكون جهده وعمله هباءً منثورًا.
فيجب على المسلم أن يكون مخلصًا لله لا يريد رياءً ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا مدحهم وحمدهم، إنما يعمل الصالحات، ويدعو إلى الله يريد وجهه -تعالى- كما قال سبحانه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله).
المطلب الثالث: مكانة النية الصالحة وثمراتها
النية: أساس العمل وقاعدته، ورأس الأمر وعموده، وأصله الذي عليه بُنِيَ؛ لأنها روح العمل، وقائده، وسائقه، والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يحصل التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى…))
وبالنية الصالحة يضاعف الله الأعمال اليسيرة؛ ولهذا قال النبي لرجل جاء إليه مقنع بالحديد، فقال يا رسول الله: أقاتل أو أسلم؟ فقال: (أسلم ثم قاتل)، فأسلم ثم قاتل فَقُتِلَ، فقال رسول الله: (عمل قليلاً وأُجر كثيرًا).
المطلب الرابع: ثمار الإخلاص وفوائده.
الإخلاص له ثمرات حميدة وفوائد جليلة عظيمة، منها ما يأتي:
أولاً- خير الدنيا والآخرة من فضائل الإخلاص وثمراته.
ثانيًا- الإخلاص هو السبب الأعظم في قبول الأعمال مع متابعة النبي.
ثالثًا- الإخلاص يُثمر محبة الله للعبد، ثم محبة الملائكة، ووضع القبول في الأرض.
رابعًا- الإخلاص أساس العمل، وروحه.
خامسًا- يُثمر الأجر الكبير والثواب العظيم بالعمل اليسير والدعاء القليل.
سادسًا- يُكتب لصاحب الإخلاص كل عمل يقصد به وجه الله، ولو كان مباحًا.
سابعًا- يُكتب لصاحب الإخلاص ما نوى من العمل ولو لم يعمله.
ثامنًا- إذا نام أو نسي كُتب له عمله الذي كان يعمله.
تاسعًا- إذا مرض العبد أو سافر كُتب له بإخلاصه ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا.
عاشرًا- ينصر الله الأمة بالإخلاص.
الحادي عشر- الإخلاص يُثمر النجاة من عذاب الآخرة.
الثاني عشر- تفريج كروب الدنيا والآخرة من ثمرات الإخلاص.
الثالث عشر- رفع المنزلة في الآخرة يحصل بالإخلاص.
الرابع عشر- الإنقاذ من الضلال.
الخامس عشر- الإخلاص سبب لزيادة الهدى.
السادس عشر- الصِّيت الطيب عند الناس من ثمار الإخلاص.
السابع عشر- طمأنينة القلب والشعور بالسعادة.
الثامن عشر- تزيين الإيمان في النفس.
التاسع عشر- التوفيق لمصاحبة أهل الإخلاص.
العشرون- حسن الخاتمة.
الحادي والعشرون- استجابة الدعاء.
الثاني والعشرون- النعيم في القبر والتبشير بالسرور.
الثالث والعشرون- دخول الجنة والنجاة من النار.
وهذه الثمرات والفوائد أدلتها كثيرة من الكتاب والسنة().
المبحث الثاني: ظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة.
المطلب الأول: خطر إرادة الدنيا بعمل الآخرة.
من الخطر العظيم أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا يريد به عرضًا من الدنيا، وهذا شِرْكٌ يُنافي كمال التوحيد الواجب، ويُحبط العمل، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرًا من هذا وهذا.
والفرق بين الرياء، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا: هو أن بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا، يجتمعان في أن الإنسان إذا أراد بعمله التزين عند الناس؛ ليروه ويعظِّموه، ويمدحوه، فهذا رياء، وهو أيضًا إرادة للدنيا؛ لأنه تصنّع عند الناس، وطلب الإكرام منهم والمدح والثناء.
المطلب الثاني: أنواع العمل للدنيا.
العمل للدنيا أنواع متعددة، وقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنه جاء عن السلف في ذلك أربعة أنواع:
النوع الأول- العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله تعالى.
النوع الثاني- وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة، وهو ما ذكر عن مجاهد رحمه الله تعالى.
النوع الثالث- أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً.
النوع الرابع- أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يُكَفِّره كفرًا يخرجه عن الإسلام.
المطلب الثالث: خطر الرياء وآثاره.
الرياء خطره عظيم جدًا على الفرد والمجتمع والأمة؛ لأنه يُحبط العمل والعياذ بالله ويظهر خطره في الأمور الآتية:
أولاً- الرياء أخطر على المسلمين من المسيح الدجال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي، فيزيّن صلاته لما يرى من نظر رجل).
ثانيًا- الرياء أشدّ فتكًا من الذئب في الغنم ،قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسَدَ من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
ثالثًا- خطورة الرياء على الأعمال الصالحة خطر عظيم؛ لأنه يذهب بركتها، ويُبطلها والعياذ بالله: (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
رابعًا- يسبب عذاب الآخرة؛ ولهذا أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدّق بماله، الذين فعلوا ذلك ليُقال: فلانٌ قارئ، فلانٌ شجاعٌ، فلانٌ كريم متصدّق. ولم تكن أعمالهم خالصةً لله تعالى.
خامسًا- الرياء يُورث الذلّ والصّغار والهوان والفضيحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمَّع سمَّع الله به، ومن يُرائي يُرائي الله به).
سادسًا- الرياء يحرم ثواب الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والدين، والرفعة، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب).
سابعًا- الرياء سبب في هزيمة الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم)، وهذا يبيّن أن الإخلاص لله سبب في نصر الأمة على أعدائها، وأن الرياء سبب في هزيمة الأمة!
ثامنًا- الرياء يزيد الضلال، قال الله تعالى عن المنافقين: (يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
المطلب الرابع: أنواع الرياء ودقائقه.
أبواب الرياء كثيرة نعوذ بالله من ذلك وهذه الأنواع على النحو الآتي:
أولاً- أن يكون مراد العبد غير الله، ويريد ويحب أن يعرف الناس أنه يفعل ذلك، ولا يقصد الإخلاص مطلقًا، نعوذ بالله من ذلك، فهذا نوع من النفاق.
ثانيًا- أن يكون قصد العبد ومراده لله تعالى، فإذا اطّلع عليه الناس نشط في العبادة وزيّنها، وهذا شرك السرائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر)، قالوا: يا رسول الله: وما شرك السرائر؟ قال: (يقوم الرجل فيصلِّي فيُزيِّن صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شِرْك السرائر).
ثالثًا- أن يدخل العبد في العبادة لله، ويخرج منها لله، فَعُرِفَ بذلك ومُدِح، فسكن قلبه إلى ذلك المدح، ومنّى النفس بأن يحمدوه ويمجِّدوه، وينال ما يريده من الدنيا، وهذا السرور والرغبة في الازدياد منه، والحصول على مطلوبه يدل على رياء خفي.
رابعًا- وهناك رياء بدني: كمن يظهر الصّفار والنّحول، ليُرِيَ الناس بذلك أنه صاحب عبادة قد غلب عليه خوف الآخرة.
وقد يكون الرياء بخفض الصوت، وذبول الشفتين؛ ليدل الناس على أنه صائم.
خامسًا- رياء من جهة اللباس أو الزي: كمن يلبس ثيابًا مرقعة؛ ليقول الناس إنه زاهد في الدنيا، أو من يلبس لباسًا معيَّنًا يرتديه ويلبسه طائفة من الناس يَعدُّهم الناس علماء، فيلبس هذا اللباس ليقال عالم.
سادسًا- الرياء بالقول: وهو على الغالب رياء أهل الدين بالوعظ والتذكير، وحفظ الأخبار والآثار؛ لأجل المحاورة، والمجادلة، والمناظرة، وإظهار غزارة العلم.
سابعًا- الرياء بالعمل: كمراءاة المصلِّي بطول الصلاة والركوع والسجود، وإظهار الخشوع، والمراءاة في الصوم والحجّ والصدقة.
ثامنًا- الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يكلَّف أن يستزير عالمًا؛ ليقال إن فلانًا قد زار فلانًا، ودعوة الناس لزيارته كي يُقال: إن أهل الدين يتردّدون عليه.
تاسعًا- الرياء بذمّ النفس بين الناس: ويريد بذلك أن يُرِيَ الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء.
عاشرًا- ومن دقائق الرياء وخفاياه: أن يخفي العامل طاعته بحيث لا يريد أن يطّلع عليها أحدٌ، ولا يُسرَّ بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام، وأن
يُقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يُثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يُسامحوه في البيع والشراء، فإن لم يجد ذلك وجد ألمًا في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها.
الحادي عشر- ومن دقائق الرياء أن يجعل الإخلاص وسيلة لما يريد من المطالب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “حُكِيَ أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يومًا تفجَّرت الحكمة من قلبه على لسانه. قال: فأخلصت أربعين يومًا، فلم يتفجَّر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين، فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تُخلص لله”.
المطلب الخامس: أقسام الرياء وأثره على العمل.
الرياء أعاذنا الله منه أقسام ودركات، ينبغي لكل مسلم أن يعرف هذه الأقسام؛ ليهرب منها وهي على النحو الآتي:
أولاً- أن يكون العمل رياء محضًا، ولا يُراد به إلا مراءاة المخلوقين، كحال المنافقين: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ الله إِلا قَلِيلاً)، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمنٍ في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة، وهذا العمل لا شك في بطلانه، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، والعياذ بالله.
ثانيًا- أن يكون العمل لله ويشاركه الرياء من أصله -أي من أوّله إلى آخره- فالنصوص الصحيحة تدل على بُطلانه وحُبوطه أيضًا.
ثالثًا- أن يكون أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء أثناء العبادة، فهذه العبادة لا تخلو من حالين:
1- أن لا يرتبط أوّل العبادة بآخرها، فأولها صحيح بكل حال، وآخرها باطل. مثل ذلك: إنسان عنده عشرون ريالاً يريد أن يتصدّق بها، فتصدق بعشرة خالصة لله، ثم طرأ عليه الرياء في
العشرة الباقية، فالصدقة الأولى صحيحة مقبولة، والثانية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص.
2- أن يرتبط أوّل العبادة بآخرها، فلا يخلو الإنسان حينئذ من أمرين:
الأمر الأول- أن يكون هذا الرياء خاطرًا، ثم دفعه الإنسان ولم يسكن إليه، وأعرض عنه وكرهه، فإنه لا يضرّه بغير خلاف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم يتكلَّموا أو يعملوا).
الأمر الثاني- أن يسترسل معه الرياء ويطمئن إليه، ولا يُدافعه ويُحبّه، فتبطل جميع العبادة على الصحيح؛ لأن أولها مرتبط بآخرها، مثال ذلك من ابتدأ الصلاة مخلصًا بها لله تعالى، ثم طرأ عليه الرياء في الركعة الثانية واسترسل معه إلى نهاية صلاته، ولم يُدافعه، فتبطل الصلاة كلها لارتباط أولها بآخره.
رابعًا- أن يكون الرياء بعد الانتهاء من العبادة.
المطلب السادس: أسباب الرياء ودوافعه.
وهذا باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله، العارفون به، المحبون له.
وإذا فُصِّل هذا السبب والمرض الفتاك رجع إلى ثلاثة أصول:
أولاً- حب لذّة الحمد والثناء والمدح.
ثانيًا- الفرار من الذمّ.
ثالثًا- الطمع فيما في أيدي الناس.
المطلب السابع: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء.
قد عُرِفَ أن الرياء مُحبط للعمل، وسبب لغضب الله ومقته، وأنه من المهلكات، وأشدّ خطرًا على المسلم من المسيح الدجال.
ومَن هذه حاله فهو جدير بالتشمير عن ساق الجدّ في إزالته وعلاجه، وقطع عروقه وأصوله. ومن هذا العلاج الذي يُزيل الرياء ويُحصِّل الإخلاص بإذن الله تعالى ما يأتي:
أولاً- معرفة أنواع العمل للدنيا، وأنواع الرياء، وأقسامه، ودوافعه، وأسبابه ثم قطعها وقلع عروقها، وتقدّمت هذه الدوافع والأسباب.
ثانيًا- معرفة عظمة الله تعالى.
ثالثًا- معرفة ما أعدّه الله في الدار الآخرة من نعيم وعذاب، وأهوال الموت، وعذاب القبر؛ فإن العبد إذا عرف ذلك وكان عاقلاً هرب من الرياء إلى الإخلاص.
رابعًا- الخوف من خطر العمل للدنيا والرياء المحبط للعمل؛ فإن من خاف أمرًا بقي حَذِرًا منه فينجو؛ ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة.
خامسًا- الفرار من ذم الله.
سادساً- معرفة ما يفرّ منه الشيطان.
سابعًا- الإكثار من أعمال الخير والعبادات غير المشاهدة، وإخفاؤها: كقيام الليل، وصدقة السر.
ثامنًا- عدم الاكتراث بذمّ الناس ومدحهم.
تاسعًا- تذكّرِ الموت وقَصْر الأمل.
عاشرًا- الخوف من سوء الخاتمة.
الحادي عشر- مصاحبة أهل الإخلاص والتقوى.
الثاني عشر- الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى.
الثالث عشر- حبّ العبد ذكر الله له وتقديم حبّ ذكره له على حبّ مدح الخلق
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).
الرابع عشر- عدم الطمع فيما في أيدي الناس.
الخامس عشر- معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة.
ومن ذلك أن الإخلاص سبب لنصر الأمة، والنجاة من عذاب الله، ورفع المنزلة والدرجة في الدنيا والآخرة، والسلامة من الضلال في الدنيا، والفوز بحب الله للعبد، وحب أهل السماء والأرض، والصِّيت الطيِّب، وتفريج كروب الدنيا والآخرة، والطمأنينة والشعور بالسعادة والتوفيق، وتحمّل المتاعب والمصاعب، وتزيين الإيمان في القلوب، واستجابة الدعاء، والنعيم في القبر والتبشير بالسرور.
والله الموفق سبحانه.
فالمسلم الذي يريد رضى الله، والفوز بنجاته ومحبة الله له، عليه أن يعمل جاهدًا في تحصيل الإخلاص والفرار من الرياء، أسأل الله أن يعصمني وإياك وجميع دعاة المسلمين وأئمتهم وعامتهم من هذا البلاء الخطير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.