عِلْم أصول الفقه: تعريفه، وأهميته ونشأته.د. أحمد عبد المجيد مكي.بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولًا: تعريف علم أصول الفقه:
علم أصول الفقه علم مستقل، وضعه علماء الأصول وبنوه على أصول لغوية وشرعية وعقلية، وعرفوه بأنه: مجموعة القواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
ويهتم هذا العلم بدراسة الأدلة الشرعية ومراتبها، الحكم الشرعي، وأقسامه، دلالات الألفاظ وطرق الاستنباط، الناسخ والمنسوخ، التعارض والترجيح، مقاصد التشريع، شروط الاجتهاد ….إلخ.
وقد سُمِّيَ بهذا الاسم؛ لأنه يتضمن القواعد والأسس التي يُبْنى عليها علم الفقه، وفي المقابل سُمِّيَ علم الفقه بعلم الفروع؛ لأنه يتفرع عن علم الأصول، وقد أحسن جمال الدين الإسنوي الشافعيّ “ت: 7728″، حين بدأ خطبة كتابه “نهاية السول شرح منهاج الوصول” بقوله: “وبعد؛ فإنَّ أصول الفقه عِلْم عظيم قَدْره، وبَيِّنٌ شَرَفه وفَخْره، إذ هو قاعدة الأحكام الشرعية، وأساس الفتاوى الفرعية، التي بها صلاح المكلفين معاشًا ومعادًا”.
ثانيًا: الفقه والأصول وجهان لعملة واحدة:
تجد الإشارة إلى أنَّ الفقه وأصول الفقه وجهان لعملة واحدة، فلا فقه على الحقيقة بغير أصول!فذكر الأول متضمن للثاني ضرورة، ولا يفترقان إلا في غرض الدراسة والتعليم.
وإذا كان علم النحو -بالنسبة للنطق العربي والكتابة- ميزانًا يضبط القلم واللسان ويمنعهما من الخطأ؛ فإنَّ علم الأصول يضبط خط سير الفقيه ويمنعه من الانحراف في الاستنباط أو التنزيل.
ورغم أنَّ الناظر في كتاب المُحَلَّى للإمام أبو محمد ابن حزم الظاهري “ت: 4568” لا يرى سوى نصوص من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين -وهذه كلها من مفردات الفقه والاجتهاد ومكوناته الأساسية- إلا أنَّ عدم أخذه بأصول الاستدلال المتفق عليها جعلته يخرج علينا بأقوال شاذة، ومِنْ ثم هَجَرَه علماء عَصْره؛ بل وحَرَّقَ بعضهم كُتُبَه!
هذا يعني أنَّ علم أصول الفقه من العلوم الضرورية والأساسية التي لا يمكن لطالب العلوم الشرعية الاستغناء عنها أبدًا؛ لأنَّ عليه مدار الشرع، وبه تُعْرف مقاصده، ويُهتدى إلى أحكامه، وبدونه لا يمكن السير على منهاج قويم في استنباط الأحكام.
ثالثًا: تأكيد العلماء على أهميته:
لا يجوز لأحد أن يتعرض لفقه النَّص وتنزيله، إلا إذا كان على دراية بهذا العلم نظريًا وعمليًا؛ ولا تكفي فيه الثقافة العامة أو القراءة المتعجلة، بل لا بد من تمكن ورسوخ وتضلع؛ وقد أكد الأئمة قديمًا وحديثًا على أهمية علم أصول الفقه، والنقول عنهم في ذلك -مختصرة ومطولة- كثيرة، فمن النقول المختصرة قولهم: “من حُرِمَ الأصول حُرِمَ الوصول”، وقولهم: “أَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الدنيا: نِصْفٌ مُتَكَلِّمٌ، ونصف مُتَفَقِّهٌ ونِصْفٌ مُتَطَبِّبٌ ونِصْفٌ نَحْوِيٌّ، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان” (1).
ومن التقريرات المطولة قول الإمام شهاب الدين القَرَافِيّ “ت: 684 هـ”: “ذهب قوم من الفقهاء الجُهَّال على ذمّه، والتقليل من شأنه، وتحقيره في نفوس الطلبة، بسبب جهلهم به، ويقولون: إنما يُتَعَلَّم للرياء، والسُّمعة، والتغالب، والجدال، لا لقصد صحيح، بل للمضاربة والمغالبة، وما علموا أنه لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير، أو ما علموا أنه أول مراتب المجتهدين، فلو عَدِمَه مجتهد لم يكن مجتهدًا قطعًا، غاية ما في الباب أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه الاصطلاحات، أما المعاني فكانت عندهم قطعًا، ومن مناقب الشافعي -رضي الله عنه- أنه أول من صنف في أصول الفقه، وإنما يُذَمُّ القصد الصارف له إلى الباطل، فما من شيء في العالم إلا هو كذلك، قال الله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء: 35، فجعل الجميع فتنة إشارة لما ذكرته، وأصول الفقه وأصول الدين من الفروض المتعين إقامتها وضبطها، لوجوب الحُجَّة لله تعالى على خلقه، وإيضاح أحكام شريعته” (2).
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية “ت: 7288”: “لا بد أن يكون مع الإنسان أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ تُرَدُّ إليها الجزئيات؛ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ، ثُمَّ يَعْرِفُ الْجُزْئِيَّاتِ كَيْفَ وَقَعَتْ، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الْكُلِّيَّاتِ، فَيَتَوَلَّدُ فساد عظيم” (3).
رابعًا: أصول الفقه من حيث النشأة والتدوين:
يمكن إجمال المراحل التي مر بها تدوين أصول الفقه في النقاط الآتية:
مرحلة النشأة:
يُعَد الإمام الشافعي أول مَن صنَّف في هذا العِلم، حيث ألف كتابه “الرسالة”، وهو وإن لم يستوف كل أبواب الأصول وقواعده، لكنه أرسى مبادئها الأساسية، وتميزت كتاباته بالمنهجية وبالتجرد والموضوعية بعيدًا عن الهوى والنزعات الشخصية والمطالب الدنيوية، وتوالى التأليف بعد ذلك.
مرحلة الازدهار والنضج:
وتبدأ من أواخر القرن الثالث إلى القرن السابع، حيث تبلور عِلم أصول الفقه ونضجت مباحثه وتقسيماته، وتوسَّعتِ البحوث فيه، ومن أبرز مؤلفات هذه المرحلة:كتاب الأحكام في أصول الأحكام لأبي محمد بن حزم الأندلسي الظاهري “ت: 4568″، وأصول السرخسي “ت:4838″، والبرهان للإمام الجويني الملقب بإمام الحرمين “ت: 4788″، وقواطع الأدلة في أصول الفقه لأبي المظفر السمعاني “ت: 4898″، والمستصفى لأبي حامد الغزالي “ت 5058″، والمحصول لفخر الدين الرازي “ت: 6068″، وروضة الناظر لابن قدامة المقدسي “ت: 6208″، الأحكام في أصول الأحكام لسيف الدين الآمدي “ت: 6318”.
مرحلة التقليد والفتور:
وقد امتدت من القرن السابع وحتى القرن الثالث عشر الهجري؛ حيث كانت المصنفات تكرارًا لجهود السابقين شرحًا وتلخيصًا مع إضافات يسيرة، بالإضافة إلى كثرة الاختصارات والشروح والحواشي، حتى غدا بعض ألفاظها على شكل ألغاز وأحاجي، لا تفيد قارئًا ولا سامعًا.
ولأنَّ الأرض لا تخلو مِنْ قائم لله بِحُجَجِهِ، فقد كان -وما زال- يبرز بين الفَيْنة والأخرى علماء في مختلف الأمصار، تحرَّروا مِنْ قيود التَّقليد، وبلغوا رُتْبة الاجتهاد، واستكملوا أدواته وحملوا رايته، فلم تخْلُ هذه الفترة من بعض الكتابات المبتكرة والجادة، كمؤلفات ابن تيمية وابن القيم والشاطبي.
فقد نهج هؤلاء الأعلام نهجًا متميِّزًا في عِلم الأصول، يقوم على العناية بأسرار التشريع ومقاصده العامَّة ومصالحه الكُليَّة.
ومن المراجع التي أجادت في بيان الأصول وآراء الأصوليين، كتاب البحر المحيط في أصول الفقه للإمام الزركشي “ت:7948″، إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول، للقاضي الشوكاني “ت: 12508”.
مرحلة النهضة الحديثة:
أدخل المتأخرون في علم أصول الفقه من الكلاميات والجدليات ما جعله عسيرًا على كثير من طلاب العلم، وقد أدرك الفقهاء المعاصرون ذلك، فحاولوا تبسيط هذا العلم وتقديمه بعبارات واضحة وسهلة، تجمع بين التراث والمعاصرة وتراعي قضايا العصر، ومشكلاته وروحه، مع الاستعانة بالأمثلة والشواهد من الواقع المعاش، وفي النقطة التالية إشارة لبعض هذه المؤلَّفات.
خامسًا: مؤلفات مُقْترحة:
هناك عدة مؤلفات مُقْترحة، ينصح بمدارستها دراسة منهجية -مؤلف واحد على الأقل في كل مستوى- يُدْرس على شيخ متقن ليتجنب مزالق سوء الفهم وهفوات اللحن، والتحريف، والتصحيف، فإذا أتقنه انتقل إلى المستوى الأعلى، وهكذا، منها:
للطلبة المبتدئين: الواضح في أصول الفقه لمحمد سليمان الأشقر، تيسيرُ علم أصول الفقه، لعبد الله بن يوسف الجديع، الوجيز في أصول الفقه لعبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه لوهبة الزحيلي.
وللطلبة المتوسطين: أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف، وأصول الفقه للشيخ أبو زهرة، وأصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي، إرشاد الفحول للشوكاني.
وللمتقدمين: البحر المحيط للزركشي، المستصفى في أصول الفقه للغزالي، إحكام الأحكام للآمدي، الأحكام في أصول الأحكام للإمام أبو محمد بن حزم، الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ لعبد الكريم النملة.
هذا بالاضافة إلى موسوعتين لا غنى للمتفقه عنهما: إعلام الموقعين لابن القيم، والموافقات للشاطبي.
وبالنسبة لكتاب التراث -كالمحلى والموافقات وغيرهما- فمن المستحسن أن يقرأ عنها قبل القراءة فيها؛ حتى يقف على مناهج مؤلفيها ومصطلحاتهم.
والله تعالى أعلى وأعلم.——————————
—–
(1) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/119).
(2) نفائس الأصول في شرح المحصول (1/100).
(3) مجموع الفتاوى (19/203).