التفسير الوسيط للقرآن الكريم.المؤلف: محمد سيد طنطاوي.
الناشر: دار نهضة-مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة-القاهرة.
الطبعة: الأولى.
تاريخ النشر:
الأجزاء 1-3: يناير 1997
الجزء 4: يوليو 1997.
الجزء 5: يونيو 1997
الأجزاء 6-7: يناير 1998
الأجزاء 8-14: فبراير 1998
الجزء 15-30: مارس 1998 .مقدّمة:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وأنزل عليه كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، اللهم صل وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون، وبعد:
فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولينقذهم من الكفر والظلم والفجور، (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إبراهيم: 1.
وقد أنزل الله -تعالى- هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم، لمقاصد عالية، وحكم سامية، وأغراض شريفة من أهمها: أن يكون هذا القرآن هداية للإنس وللجن في كل زمان ومكان إلى الصراط المستقيم، وإلى السعادة التي تصبو إليها النفوس، وتتطلع إليها الأفئدة والقلوب.
وقد أودع -تعالى- في هذا الكتاب من العقائد السليمة، والعبادات القويمة، والأحكام الجليلة، والآداب الفاضلة، والعظات البليغة، والتوجيهات الحكيمة … ما به قوام الملة الكاملة، والأمة الفاضلة، والجماعة الراشدة، والفرد السليم في عقيدته وسلوكه وفي كل شؤونه؛ فكان هذا الكتاب أفضل الكتب السماوية، وأوفاها بحاجة البشرية، وأجمعها للخير، وأبقاها على الدهر، وأعمها وأتمها وأصحها في هدايته الناس إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، قال تعالى: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) الإسراء: 9، وقال تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) المائدة: 15-16، وقال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا) الجن: 1-2.
وكذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن أن يكون هذا القرآن معجزة ناطقة في فم الدنيا بصدقه فيما يبلغه عن ربه، ولقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فدعاهم إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق، وقال لهم: معجزتي الدالة على صدقي هذا القرآن، فإن كنتم في شك من ذلك فأتوا بمثله فعجزوا، فأرخى لهم العنان، وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله فما استطاعوا، فزاد في إرخاء العنان لهم -وهم أرباب البلاغة والبيان- وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله، فأخرسوا وانقلبوا صاغرين، فثبت أن هذا القرآن من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) البقرة: 23-24.
وكذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقرب الناس به إلى خالقهم عن طريق تلاوته، وحفظه، وتدبره، والعمل بتشريعاته وآدابه وتوجيهاته … ولقد تكلم الإمام القرطبي بإسهاب في مقدمة تفسيره عن فضائل القرآن، والترغيب فيه، وفضل طالبه، وقارئه، ومستمعه، والعامل به، وكيفية تلاوته … فقال ما ملخصه: “اعلم أن هذا الباب واسع كبيرّ أُلِّف فيه العلماء كتبًا كثيرة، نذكر من ذلك نكتًا تدل على فضله، وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه، وعملوا به؛ فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين، كلام من ليس كمثله شيء.
ومن الآثار التي جاءت في هذا الباب ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (من شغله القرآن وذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم …)، وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وروى مسلّم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة (1) ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر)، وروى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه -أي يقرؤه بصعوبة- وهو عليه شاق له أجران)، وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) (2)، هذا جانب من الأحاديث الشريفة التي أوردها القرطبي، وهو يتحدث عن فضائل القرآن، والترغيب فيه …إلخ.
ولقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته تحذيرًا شديدًا من نسيان القرآن، فقد روى الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعاهدوا القرآن فوَالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيلًا -أي:
تفلتًا- من الإبل في عقلها)، وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت على ذنوب أمتي فلم أرَ ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها).
هذه أهم المقاصد والحكم التي من أجلها أنزل الله -تعالى- القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يكون هداية للناس، وأن يكون معجزة خالدة باقية شاهدة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وأن يتقرب الناس بقراءته والعمل به إلى خالقهم -عز وجل-.
ولقد تكفّل الله -تعالى- بحفظ هذا القرآن، وصانه من التحريف والتبديل، والتغيير والمعارضة قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الحجر: 9.
وكان من مظاهر عنايته -سبحانه- بكتابه، أن جعله محفوظًا في كل العصور بالتواتر الصادق القاطع، يرويه الخلف عن السلف بالكيفية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وُفِّق له في كل عصر حفاظًا متقنين جمعوه في صدورهم، وعمروا به ليلهم ونهارهم، وأن قيَّض له رجالاً قضوا معظم أيام حياتهم في خدمته، ودراسة علومه، فمنهم من كتب في إعجازه وبلاغته، ومنهم من كتب في قصصه وأخباره، ومنهم من كتب في أسباب نزوله، ومنهم من كتب في قراءته ورسمه، ومنهم من كتب في محكمه ومتشابهه، ومنهم من كتب في ناسخه ومنسوخه، ومنهم من كتب في مكيه ومدنيه، ومنهم من كتب في غريب ألفاظه … إلى غير ذلك من ألوان علومه.
وكثير منهم كتبوا في تفسيره، وتوضيح معانيه ومقاصده وألفاظه؛ وذلك لأن سعادة الأفراد والأمم لا تتأتى إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن وتوجيهاته، وهذا الاسترشاد لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان؛ لما تدل عليه ألفاظ القرآن، وهو ما يسمى بعلم التفسير.
فتفسير القرآن هو المفتاح الذي يكشف عن تلك الهدايات السامية، والتوجيهات النافعة، والعظات الشافية والكنوز الثمينة التي احتواها هذا الكتاب الكريم، وبدون تفسير القرآن، تفسيرًا علميًا سليمًا مستنيرًا لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات مهما قرأه القارئون، وردَّد ألفاظه المرددون، قال إياس بن معاوية: مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلاً، وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب» (3).
ولقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان هذا المعنى وفي بيان أحسن طرق التفسير فقال: “فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه … فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: إن أصح الطريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له … وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، يعني السنة، والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، قال عبد الله بن مسعود: “والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم في مَن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته”، وقال: “كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن”، وقال أبو عبد الرحمن السلمي: “حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعلموا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا”.
فإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، وسعيد ابن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري وغيرهم” (4).
وأنت إذا سرحت طرفك في المكتبة الإسلامية ترى العشرات من كتب التفسير، منها القديم والحديث، وترى منها الكبير والوسيط والوجيز، وترى منها ما يغلب عليه طابع التفسير بالمأثور، وترى ما يغلب عليه طابع التفسير بالرأى، وترى منها ما تغلب عليه الصبغة الفقهية، أو البلاغية، أو الفلسفية،، أو العلمية، أو الاجتماعية، أو غير ذلك من الاتجاهات والميول التي تختلف باختلاف أفكار الكاتبين وثقافتهم ومذهبهم، وترى منها المحرر أو شبه المحرر من الخرافات، والأقوال السقيمة، والقصص الباطلة، كما ترى منها ما هو محشو بذلك.
ولقد انتفعت كثيرًا بما كتبه الكاتبون عن كتاب الله -تعالى-، وها أنذا -أخي القارئ- أقدم لك تفسيرًا وسيطًا وقد بذلت فيه أقصى جهدي ليكون تفسيرًا علميًا محققًا، محررًا من الأقوال الضعيفة، والشبه الباطلة، والمعاني السقيمة.
وستلاحظ خلال قراءتك له أنني كثيرًا ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحًا لغويًا مناسبًا ثم أبين المراد منها -إذا كان الأمر يقتضي ذلك- ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات -إذا وجد وكان مقبولاً- ثم أذكر المعنى الإجمالي للآية أو الجملة، عارضًا (5) ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة والبيان، والعظات والآداب والأحكام مدعمًا ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى، ومن الأحاديث النبوية، ومن أقوال السلف الصالح.
وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب، واكتفيت بالرأى أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال؛ وذلك لأنني توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة، وأحكام سامية، وتشريعات جليلة، وآداب فاضلة، وعظات بليغة، وأخبار صادقة، وتوجيهات نافعة، وأساليب بليغة، وألفاظ فصيحة.
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا، وبهجة أفئدتنا، وأن يعيننا ويوفقنا لإتمام ما بدأناه من خدمة كتابه، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه، ونافعة لعباده، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر.الحواشي:
(1) الأترجة: ثمرة حلوة الطعم، طيبة الرائحة، جميلة اللون، تشبه التفاحة.
(2) تفسير القرطبي: ج1ص4 وما بعدها.
(3) تفسير القرطبي ج1ص26.
(4) بتصرف، تفسير ابن كثير ج1ص4 وما بعدها.
(5) عرض الشيء: أظهره وأبرزه، المعجم الوسيط ج2ص593.