علو الهمة:
ضيف الحوار: ظافر بن حسن آل جبعان.
أجرى الحوار: فريق التحرير.يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار”.
ومن هذا المنطلق ارتأينا أن نتناول موضوع علو الهمة بالنقاش مع ضيفنا الأستاذ ظافر آل جبعان، ونسأل الله أن ينفع بما قدم فضيلته جميع المسلمين.
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، وناصر أوليائه الطائعين، والصلاة والسلام على خير من تعلق قلبه برب العالمين، وأوكل أمره إلى خالقه إلى يوم الدين، وعلى آله الذين ساروا على منهجه إلى يوم الدين، وبعد:
فإني أتقدم بالشكر والعرفان لهذا الموقع المبارك “موقع دعوتها” الذي هو -حقيق- من المواقع المتميزة، التي تهتم بالمرأة، وليس بأي امرأة؛ بل لمن نذرت نفسها لخدمة الدين، وبذلت وقتها لنصرة سنة سيد المرسلين على بصيرة من الله وهدى، فجزاهم الله خيرًا على ما يبذلون ويقدمون، وأسأل الله أن لا يحرمهم الأجر، وأن يرفع بهذا الموقع منزلة القائمين عليه، وأكرر شكري للإخوة والأخوات القائمين على هذا الموقع لاستضافتهم إياي في هذا الحوار الذي قد ترددت كثيرًا في قبوله؛ حيث إن مثل هذا الموضوع لا يتكلم فيه إلا من كان له أهل، فكيف يدعو للهمة من هو ضعيف فيها، وكيف يتكلم فيها من خالف خُبْرَه خَبَرَه، وبعد أن استخرت الله -تعالى- عزمت على الموافقة على هذا الحوار، فأجيب مستعينًا بالله تعالى.
س1/ “علو الهمة” كلمة كثير ما تتردد على الألسن، فهل لك أن تبين لنا معنى هذه العبارة؟
سيكون الحديث عن لفظ الهَمِّ والهِمَّةِ في اللغة لتلازمهما، ثم أحرر المصطلح الذي نريده هنا، فأقول مستعينًا بالله تعالى:
قال ابن فارس: “الهاءُ والميم: أصلٌ صحيح يدلُّ على ذَوْبٍ وجَرَيانٍ ودَبيبٍ وما أشبَهَ ذلك” “معجم مقاييس اللغة (6/13)”، وقال الفيومي: “الهِمَّةُ بالكسر: أو العزم، وقد تطلق على العزم القوي، فيقال: له هِمَّةٌ عَالية” “المصباح المنير (2/641)”، وقال الشريف الجرجاني: “الهَمُّ: هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل، من خير أو شر؛ والهِمَّةُ: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره”، “التعريفات ص215-216″، وقال ابن القيم: “الهِمَّةُ: فعلة من الهمَّ، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصّوها بنهاية الإرادة، فالهمُّ مبدؤها، والهمة نهايتها” “مدارج السالكين (2/641)”، والهّمَُ: هو مرتبة من مراتب القصد الخمس، فأولها الهاجس، ثم الخاطر، ثم حديث النفس، ثم الهمُّ، ثم العزم، قال الناظم:
مراتب القصد خمسٌ هاجسٌ ذكروا — فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا
يليه همٌ فعزمٌ كلها رفعت — إلا الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
وبعد هذا يكون مرادنا من الهَمِّ والهِمَّةِ هنا ما يلي:
الهَمُّ: ما هم به من أمر ليفعله؛ والهِمَّةُ: هي الباعث على الفعل، والعزم القوي، وتوصف بعلو، أو سفل، وللتقريب أكثر؛ فالهم هو مبدأ الإرادة، والهمة نهايتها، وهو ما يفهم من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
فهناك تلازم بين الهم والهمة؛ فإذا همت النفس، استجمعت همتها للقيام بالعمل، على اختلاف فيه ما بين علو وسفل؛ فصاحب الهمة العالية: هو من حمله همه الصالح للقيام بأعمال ينتفع بها هو وغيره سواءً في الدنيا أو الآخرة، ويكون متصفًا بصفات تميزه عن غيره.
س2/ قرآننا العظيم، وسنة نبينا الكريم مليئة بالنصوص الحاثة على العلو في الهمم، هل يمكن أن تذكرنا ببعض تلك النصوص؟
كما ذكرتم -وفقكم الله تعالى- أن كتاب ربنا -سبحانه- مليء بالنصوص التي تحث على الهمة، ومعالي الأمور، وتنهى عن رديئها، وسفسافها، وذلك من خلال الحض على العمل لهذا الدين والوعود بالنصرة والتمكين، وبالمغفرة، وبالنجاة من النار، ومن خلال الأشخاص الذين يحملون مبدأ الهم لهذا الدين، ثم العمل له وعلى رأسهم أنبياء الله -عليهم السلام- والمصلحين من بعدهم؛ بل تعدى هذا الأمر إلى بعض المخلوقات غير بني البشر ممن يحمل هم الدعوة إلى الله -تعالى- وتبليغ دينه كالهدهد مثلاً.
فهذه هُمُومٌ وَهِمَمٌ تعلقت بالقلوب فأصبح العمل نتاجًا وميدانًا لها، ولعلي أكتفي بأربع آيات في كتاب الله -عز وجل- حاثة على الهمة وعلوها:
الأولى: تتحدث عن نبي من أنبياء الله -تعالى- كان ذو همة عالية، ونفس صابرة رضية، وكان هو أول نبي ورسول في بني البشر حيث إن الناس كانوا على التوحيد لمدة عشرة قرون فدخلت إليهم فتنة غيرت التوحيد، فكانت همته -عليه السلام- منصرفة إلى تصحيح التوحيد، ودعوة الناس إليه، فكان يحدث نفسه بدعوة قومه بكل طريقة يحمله هذا الهم عليها، وذلك لتخليصهم من هذا الظلم العظيم فظل تسع مئة وخمسين سنة يدعوهم للتوحيد، واستخدم جميع الوسائل التي يمكن له فعلها، من الدعوة الفردية، والجماعية، والجهر والإسرار، ويكون بالليل والنهار، وذلك مع صبر وجلد واحتساب يحدوه في ذلك الهم والهمة العالية، وفي ذلك قال الله -تعالى- على لسان نبيه نوح -عليه السلام-: (فقَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) نوح: 5-9ّ.
الثانية: قال تعالى عن مؤمن آل يسين: (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) يس: 20-27، ففي هذه الآيات عبَّر الله عن رجل صادقٍ في قوله، عظيمٍ في همه، عالي في همته، جاء إلى قومه متحفزًا يسعى، يحمله هم النصح، وبذل الخير وهو في ذلك على همة عالية، ونفس مؤمنة مطمئنة، قال قتادة: “لا تلقى المؤمن إلا ناصحًا لا تلقاه غاشًا لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)، تمنى على الله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله له”، حتى أن هذا الهم والهمة العالية حملته على نصح قومه حتى بعد موته، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (نصح قومه في حياته بقوله: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)، وبعد مماته في قوله: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)” “تفسير ابن كثير(3/750)”، وهذا الرجل الصالح مع شدة حبه الخير والنصح لهم آذوه أذًا شديدًا، وعندما قال لهم: (إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، وأما طريقة قتلهم إياه فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره)، وقال السُّدي: (كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهدِ قومي حتى قطعوه وقتلوه”، وقال الحسن: “خرقوا خرقًا في حلقه فعلقوه بسور من سور المدينة، فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق”، ولسان حاله يقول:
لأَسْتَسْهِلَنَّ الْصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ الْمُنَى — فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلا لِصَابِرِ
الثالثة: قال الله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) ص: 45، فالأيدي القوة في تنفيذ الحق، والأبصار البصائر في الدين فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه، فلهم قوة وهمة، وعزيمة عالية، مع بصيرة في الدين فكان هؤلاء هم أشرف الخلق، وأكرمهم على الله تعالى، وهذا الصنف أصحاب الهمة العالية، والعزيمة الراشدة، والبصيرة النافذة هم من يصلح للإمامة في الدين، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة: 24ّ؛ فأخبر سبحانه وتعالى أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
الرابعة: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) الفرقان: 74، فتأملوا هذا الداعي وهمه وهمته، فهو يدعو الله تعالى ويسأله أن يخرج من صلبه ذرية تطيع الله وتعبده وحده لا شريك له، ولا يكتفي بذلك، بل همته أن يكون إمامًا يقتدى به في الخير، وأحب أن تكون عبادته متصلة بعبادة أولاده وذريته، وأن يكون هداهم متعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا وأحسن مآبًا، فلله دره ما أعظم همته.
أما سنة سيد المرسلين فهي أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر لكن أكتفي هنا بأربعة أحاديث تحث على الهمة العالية:
الحديث الأول: عن أبي وهب الجُشَمِي -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: (تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ) “أخرجه الإمام أحمد (4/345)، وأبو داود (4950)”، فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ) هما وصفان لا ينفك مسماهما عن حقيقة معناهما، فالمسلم حارث يحرث لدنياه، ولآخرته، وهمام يهم بالخير، فهو لا يزال يهم بالشيء بعد الشيء، فهذان وصفان وصفهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهما أصدق وصفان للمؤمن.
الحديث الثاني: عن ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (سَلْ) فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: (أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ) قُلْتُ: هُوَ ذَاك، قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) “أخرجه البخاري (4418) ومسلم (489)”؛ فهذا الحديث قد مُلِئَ بالفوائد والعبر، وقد كتبت في هذا الحديث رسالة ووسمتها ب”تمام المنة بذكر فوائد حديث أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ”، ومنها عظيم همة كعب وعلو قدرها، فقد سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم ما يطلبه المتعبدون، ويسأله الراغبون، ويُرَغِبُ فيها الواعظون، ويبكي على بلوغها القائمون، ويعمل لها العاملون، إنها الجنة دار المؤمنين الصادقين؛ بل ليس الجنة فحسب؛ بل أعظم من ذلك وهو مرافقة خير البشر -عليه الصلاة والسلام- فيها، فهذه همة عالية، ونفس تواقة، لم يرض من الدنيا بحطامها، ولا آثر الفاني على الباقي، وهذه همة وعزمة من عزمات أهل الهمم العالية.
الحديث الثالث: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنَّا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت عليه سورة الجمعة: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال: قلت من هم يا رسول الله. فلم يُرَاجِعْهُ حتى سَأَل ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسيُّ، فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدهُ على سلمان ثُمَّ قال: (لَوْ كَانَ الإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ -أَوْ رَجُلٌ- مِنْ هَؤُلاَءِ) “أخرجه البخاري (4615) ومسلم (2546)”، والثريا: النجم العالي المعروف؛ ففيه ثناء النبي -صلى الله عليه وسلم- على همة سلمان العالية، وهمة قومه، فقد امتدحهم لهمتهم، وحرصهم على بلوغ المعالي، وسلوك سلم العوالي، وقد ظهر ذلك للعيان فإنهم قد ظهر فيهم الدين، وكثر فيهم العلماء، وكان وجودهم كذلك دليلاً من أدلة صدق نبوته عليه الصلاة والسلام.
الحديث الرابع: عن سهل بن حُنَيْف -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ) “أخرجه مسلم (5039)”؛ فهذا رجل لم تتهيأ له أسباب الجهاد في سبيل الله فحمله همه وحبه للجهاد أن سأل الله -تعالى- الشهادة بصدق، فلعظم همه وحسن قصده فإنه يؤجر على تلك النية وإن لم يعمل؛ كرمًا من الله وفضلاً، نسأل الله من فضله، ويؤيد ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ) “أخرجه البخاري (6126) ومسلم (206)” من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
س3/ إن الثروة الحقيقية التي تمتلكها الأمم تتمثل في طاقاتها الشابة، والنفوس الحية المتقدة بروح العطاء والبذل، فما حال همم المرأة المسلمة اليوم؟
صدقتم فيما فيه وله قدمتم من أن أي أمة من الأمم لا تقاس إلا ببذلها وتقدمها العلمي والعملي، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرص على هذا الجانب، وعلى تهيئة الشباب، والاهتمام بهم؛ فقد كان جلَّ أصحابه من الشباب، وكان له مواقف معهم في العلم والتربية، والتعليم والتوعية؛ فالثروة الحقيقية لهذه الأمة هي في شبابها أصحاب الطاقات الهائلة، والنفوس العالية، ومن هؤلاء الشباب، والطاقات قسم ليس بقليل، وهو على القلب عزيز: هن بناتنا العفيفات الطاهرات، الآتي هن الحصن الحصين لأبنائنا وبناتنا، وهنّ المربيات والموجهات، والأمهات الفُضْلَيَات، عليهن حِمْلٌ عظيم، وفي أعناقهن مسؤولية كأداء ينوء عن حملها أشاوس الرجال، ولكن عند التأمل فيما صرفن فيه هِمَمُهُنَّ وَهِمَتُهُن، خاصة في هذا الزمن الذي عمَّ فيه داء الشهوات والشبهات، واختلفت فيه التربية، وتنوعت البيئات وجدناهن ينقسمن إلى قسمين:
القسم الأول: عندما نتأمل في همهن وهمتهن يتملكنا العجب، ويزداد القلب حسرة وألمًا، هموم غريبة، وتصرفات عجيبة، فأصبح هم بعضهن إفراط في الزينة والتزيُّن، فأصبح الاهتمام الزائد بالزينة مطلبهن، والأناقة بُلْغَتُهن ، ومنهن من تعدت همتها إلى منافسة الرجال في الأسواق والمتاجر، .
القسم الثاني: لكن مع هذا الزَّهَم من الهموم الغريبة التي ابتلين بناتنا بها، إلا أن الخير في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- باقٍ لا ينقطع، فمن نسائنا وأخواتنا وبناتنا من همتها قد فاقت همم كثير من الرجال، وبلغت بمطلوبها قمم الجبال، في جد وحرص، مع بذل ونصح؛ فمع هذه الحملة الغربية التغريبية على المرأة المسلمة إلا أنه ظهر من بناتنا أصحاب قول راجح، وعقل وافر، في مواجهة هذا المد التغريبي العفن، الذي فشل في مجتمعاتهم، فأصروا على بثه في مجتمعاتنا ، فأصبح في مجتمعاتنا -والحمد لله- عالمات صادقات، مؤمنات محتسبات، يقدمن الدين والقِيَم على كل شيء، ووقفن سدًا منيعًا في وجوه أهل التغريب، والتخريب ممن ينال من هِمَّتِهِنَ وهَمِهِنَ، وعِفتهن وحجابهن، وحصانتهن ودينهن، فأعظم همهن خدمة الدين، وصدّ أهل الباطل وحزبه.
س4/ وسائل ترقية الهمم متنوعة، يا حبذا أن تتحفنا ببعض منها.
يمكن ترقية الهمم بوسائل منها:
1- قراءة القرآن الكريم بتدبر، وخاصة ما يمر بنا من نماذج أَصحاب الهمم والعمل.
2- التأمل في سيرة وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنها تعين على شحذ الهمة، وتبعث على سمو الدين، والأخلاق.
3- قراءة سير السلف الصالحين من الصحابة والتابعين، وعظماء المسلمين في شتى أبواب الخير؛ فإن قراءة سيرهم والوقوف مع أقوالهم وأعمالهم ليبعث على الهمة، ويرفع من قدره.
4- المجاهدة على بلوغ الهمة العالية، فبالمجاهدة يدرك الإنسان مبتغاه فيجاهد نفسه على معالي الأمور، ويحذر من سفسافها، ويجاهد أن يضع نفسه في مكان عليٍّ، وقد قيل: المرء حيث يجعل نفسه إن رفعها ارتفعت، وإن قصر بها اتضعت.
5- مرافقة أصحاب الهمم العالية، والتشبه بهم؛ فصاحِب من همته أعلى من همتك تعلو همتك، واحذر مصاحبة من همته أقل من همتك فتسفل همتك، وتشبه بالكرام تصل، وصدق من قال:
تَشَبَّهُوْا بِالْكِرَامِ إِنْ لَّمْ تَكُوْنُوْا مِثْلَهُمْ — إِنَّ الْتَشَبُهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحُ
فمرافقة أصحاب الهمم تجعل العبد يدرك ما يريد، ويبلغ مراده، وحتى لو لم يدرك مراده، فلا يعدم من حفظ وقته، وحفظ مروءته بمرافقة أهل الهمم والقمم، وفي هذا يقول بعضهم:
أَسِيْرُ خَلْفَ رِكَابِ الْنُّجْبِ ذَا عَرَجٍ — مُؤَمِلاً كَشْفَ مَا لاقَيْتُ مِنْ عِوَجِ
فَإِنْ لَحِقْتُ بِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا سَبَقُوْا — فكَمْ لِرَبِ الْوَرَى فِيْ ذَاكَ مِنْ فَرَجِ
وَإِنْ بَقِيْتُ بِظَهْرِ الأَرْضِ مُنْقَطِعًَا — مَا عَلى عَرَجٍ فِي ذَاكَ مِنْ حَرَجِ
6- الحذر من كل ما هو مضعف للهمة ومنقص لها، ومن ذلك الوقوع في المعاصي والآثام؛ فهي أعظم بلاء للصد عن معالي الأمور، والبقاء في حضيض السفل، وساقط الهمة، يقول ابن الجوزي: “وقد عرفت بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت ثارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، ولن يفوتك خير إلا بمعصيته”، ومن ذلك أيضًا الحذر من الالتفات إلى أقوال المخذلين والمرجفين، ومن ذلك مصاحبة البطالين اللاهين الذين لا هم لهم إلى التفنن في إضاعة الأوقات، وقتل الساعات، ومن ذلك التوسع في المباحات من المطاعم والمشارب والملابس والنوم، وغير ذلك.
7- وضع برامج ذاتية لرفع الهمة، فيكون لك برنامجًا في العلم، وفي العبادة وغير ذلك، بشرط متابعة هذا البرنامج.
8- الحرص على حضور الدورات التدريبية والتطويرية، بشرط تطبيق النافع منها، لكي لا يكون ذلك مضيعة للوقت، والجهد والمال.
9- عقد لقاءات وجلسات مع المبدعين، والموهوبين للإفادة من أعمالهم وتجاربهم.
10- عدم احتقار الذات فكل إنسان فيه جوانب إيجابية كثيرة، والناس يختلفون في هممه وأعمالهم، فإن الله وزع الأعمال كما وزع الأرزاق، وتأمل معي هذا المقولة للإمام مالك بن أنس -رضي الله عنه- تكتب بماء الذهب يقول في رده على عبد الله بن عبد العزيز العمري العابد حينما كتب إليه يحضه على الانفراد والعمل؛ قال الإمام مالك: “إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر” “سير أعلام النبلاء (8/114)”.
11- كثرة الدعاء واللجوء إلى الله -تعالى- فكم فتح لعبد مغاليق الفُهُوم، ولآخر أبواب البر والإحسان بسبب الدعاء واللجوء إلى الله تعالى، فيكثر من الدعاء بأن الله يرزقه همة عَلِيْة تحمله إلى عمل صالح يرضاه ربنا ويتقبله.
12- أنصح بقراءة هذه الكتب لشحذ وبعث الهمة:
أ- كتاب الله تعالى وتكون قراءته بتدبر وتأمل.
ب- صلاح الأمة في علو الهمة للدكتور سيد بن حسين العفاني.
ج- علو الهمة للدكتور محمد بن إسماعيل المقدم.
د- الهمة طريق إلى القمة للدكتور محمد بن حسن عقيل موسى.
ه- قيمة الزمن عند العلماء لعبد الفتاح أبو غدة.
و- صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لعبد الفتاح أبو غدة.
ز- نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء للدكتور محمد بن حسن عقيل موسى.
ح- كيف أخدم الإسلام؟ للشيخ عبد الملك القاسم.
س5/ “من شبّ على شيء شاب عليه” تعليقكم على هذه العبارة، وما أثر التربية على بث الهمة والعزيمة في نفوس الأبناء؟
هذه العبارة أغلبية، وليست مطردة، فصحيح أن غالب أحوال من شبَّ على شيء أنه يَشِيْبُ عليه، ويموت عليه، ويبعث عليه، ولكن هذه العبارة كما قلت غير مطردة؛ فهناك أناس كانوا صالحين في شبابهم ثم لما كبر سنهم ورق عظمهم غيروا وبدلوا -نسأل الله السلامة والعافية- وهناك من قضى شبيبته في ضياع ولهو ولما شاب أحسن فيما بقي، ودليل ذلك حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا وفيه: (فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ) “أخرجه البخاري (3154) ومسلم (2643)”، هذا بالنسبة للعبارة السابقة، أما بالنسبة للتربية فإن التربية على معالي الأمور مهمة جدًا، وهذه تعود إلى تربية الوالدين لأبنائهم وبناتهم على ذلك، فعلى الوالدين أن يربوا أولادهم على معالي الأمور، ويحتسبوا الأجر من الله تعالى على ذلك، لكن لو قصّر الوالدان في ذلك فهل يعذر الإنسان على ضعف همته وعزيمته؟ الجواب: لا؛ بل عليه أن يصحح مساره، ويُقَوِّمَ ذاته، ويعالج أخطاءه، ولا يكون قوله كقول من قبله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) الزخرف: 23؛ بل يكون قوله: (عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) القلم: 32ّ.