ملخص كتاب (المزاح في الإسلام)

تأليف: أ.د. حسن أبو غدة.

من ذا الذي يريد أن تكون الحياة كلها عابسة مقطبة الجبين؟ وإذا كان هناك من يريدها كذلك. فمن الذي يطيقها ويرضاها؟ إن الحياة بغير مزاح عبء ثقيل قل من يتحمله، ومن هنا قالوا: المزاح فاكهة المجالس، فما حقيقة المزاح؟ وما مدى حاجتنا إليه؟ وما موقف الإسلام منه؟ وهل في ذلك صور عملية من العصور الإسلامية الأولى؟ هذا ما سيتضح فيما يلي:
تعريف المزاح:
المِزاح: في اللغة بكسر الميم وضمها معناه: المداعبة، ومن مترادفاته: الانبساط، والإحماض، والفكاهة، والطرفة، والنكتة، والهزل، روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يقول لجلسائه: أحمضوا رحمكم الله. أي خذوا من المفاكهات. وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول لأصحابه إذا ملُّوا في الدرس: حمِّضونا، وميلوا إلى الفاكهة، فإن النفس تمل كما تمل الأبدان.
أما المزاح في الاصطلاح فهو: المداعبة التي هي نقيض الجد، وفيهما المرضي وفيها المؤذي.

الحاجة إلى المزاح:
تؤكد الدراسات المعاصرة أن الإنسان السوي بحاجة إلى الضحك والتبسم، وأن المزاح من أدوات ذلك ووسائله؛ فهو يمسح عن النفس البشرية الهموم التي تنتابها أو تحل بها، فتشعر بالسعادة والراحة، وتسترد نشاطها وتجدد حيويتها، وتقوى على متابعة أشواط الحياة بهمة واضحة، وعزيمة أكيدة.
وقد أشار إلى هذه المعاني ما رواه الديملي وأبو نعيم القضاعي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (روِّحوا القلوب ساعة وساعة).
هذا ومع أن الحاجة إلى المزاح ماسة لكنها ليست مطلقة ولا عامة حيث عمل الإسلام على تنظيم هذا السلوك، وضبط حالات المزاح فيها، وتوجيهه إلى البناء لا إلى الهدم، والسمو لا إلى الإسفاف، وبناء على هذا يمكن للمزاح -عمومًا- أن تتعدد أحكامه الشرعية حسب ما يلازمه أو يصاحبه من أحوال ومقاصد، وذلك على النحو الآتي:

المزاح الحلال:
يرى أكثر أهل العلم: أن المزاح مباح في الأصل، وهو لا بأس به إذا راعى المازح فيه الحق وتحري الصدق فيما يقوله ولم يتخذ المزاح ديدنًا له، ومما يدل على ذلك ما يلي:
1- ما رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا؟ قال: (إني لا أقول إلا حقًا) قال العلماء: معنى تداعبنا: تمزح معنا.
2- ما رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح غريب عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا ذا الأذنين) يعني: مازحه؛ لأن كل إنسان صاحب أذنين.
3- ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب عن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: احملني على بعير، فقال له: (إنا حاملوك على ولد الناقة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تلد الإبل إلا النوق!
وبناء على هذه الأدلة وغيرها من أهل العلم؛ فإن أصل المزاح مباح إذا كان بما يحسن من غير كذب، ولا إفراط فيه.

انقلاب المزاح المباح إلى مندوب أو واجب:
من المسلَّم به في أصول الشريعة أن المباح قد ينقلب إلى مندوب “مستحب” أو واجب إذا صادف مصلحة معتبرة شرعًا وهذا ما ينطبق أيضًا على المزاح المباح الحلال، فقد يصير مستحبًا أو واجبًا، أما انقلابه إلى مستحب فهو عندما يلاحظ الإنسان في نفس جليسه وحشة أو همًا أو كآبة أو حزنًا قال ابن حجر والقسطلاني: “إن صادف المزاح مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب” ويستدل لهذا بما رواه البيهقي وابن سعد -وأصله في الصحيحين- عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طلحة فرأى ابنًا له يكنى أبا عمير حزينًا فقال: (مالي أرى أبا عمير حزينً) قالوا: مات نغره الذي كان يلعب به قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أبا عمير ما فعل النُّغَيْر)، والنُّغير: فرخ العصفور.
أما انقلاب المزاح المباح إلى واجب فهو -على سبيل المثال- ما يغلب على ظن الطبيب الثقة الماهر أن هذا المريض لا يشفى مما هو فيه من كآبة أو حال نفسية أو عصبية إلا بالمزاح فيتعين المزاح حينذاك؛ لأن من مقاصد الشريعة المقررة حفظ النفوس والعقول، ومن المعروف أن للوسائل حكم الغايات، وهذا ولا ينبغي للمزاح المباح أو المندوب أو الواجب أو يخرج على أوصافه وضوابطه وأهدافه الشرعية.

ضوابط المزاح المشروع:
تشير كتابات أهل العلم إلى أن للمزاح المشروع -المباح أو المستحب أو الواجب- ضوابط لا يسع المازح تركها والتحلل منها أو التساهل فيها، ومن ذلك ما يلي:
1- التزام الحق والصدق: وذلك للحديث الآنف (إني لا أقول إلا حقًا).
2- البعد عن الإفراط في المزاح المباح: وذلك لأن الإفراط فيه يورث كثرة الضحك، وهي تميت القلب، وتوقع في الغفلة عن الله تعالى، إضافة إلى ما في ذلك من مداومة على الهزل الذي يسقط المهابة ويجرئ الناس روى الترمذي وابن ماجه وإسناده حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم وكثرة الضحك؛ فإنها تميت القلب).
3- تجنب المزاح المحرك للضغائن والأحقاد: من المعلوم أن المزاح الحق في بعض حالاته يوصل إلى الإيذاء والمخاصمة كأن يكون المزاح ثقيلاً أو يثير نزاعات عرقية أو محلية أو إقليمية أو دينية، روى الترمذي وقال: حديث حسن غريب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمار أخاك ولا تمازحه)، والمماراة: المجادلة التي تؤول إلى خصومة، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وبين المزاح في حديث واحد لبيان خطورة المزاح الموصل إلى الأحقاد والضغائن.
4- ممارسة المزاح بجميل القول ومستحسن الفعل: وذلك باختيار الألفاظ الحلوة الجميلة، والأسلوب اللطيف الذي تتطلع إليه النفوس وتسعد به القلوب، أخرج ابن عسكر وضعفه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلاً سأله: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح؟ قال: نعم، فقال: ما كان مزاحه؟ فقال ابن عباس: كسا النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه ثوبًا واسعًا، وقال: (ألبسيه واحمدي الله، وجري من ذيلك هذا كذيل العروس) ففي هذا ممازحة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته ومداعبتها من خلال تشبيهها بالعروس وتذكيرها بأيام البهجة والفرح.

غايات المزاح المشروع وأهدافه:
المزاح صورة من صور المجاملة الاجتماعية الحقة، والملاطفة المحببة، والمفاكهة المرغوبة، وقد شرع في الإسلام لأهداف وغايات سامية منها:
1- الإسهام في زيادة الترابط الاجتماعي: وذلك من خلال إشاعة جو من الأنس والمودة والألفة سواء بالقول الحسن أو الفعل الجميل، روى أحمد والبيهقي وابن حبان وسنده على شرط الشيخين أن زاهر بن حرام كان بدويًا وكان إذا جاء إلى المدينة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدية من البادية فرآه النبي صلى الله عليه وسلم مرة في سوق المدينة فاحتضنه من ورائه يكفيه وقال مازحًا: (من يشتري هذا العبد)؟ فعرفه زاهر فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدًا فقال: (لكنك عند الله لست بكاسد).
2- استجماع النشاط وزيادة الاقتدار على متابعة مسؤوليات الحياة: وقد سبق أن الحياة لا تخلو من أعباء وانقباض وجفاء، وإنها تحتاج إلى وسيلة للتنفيس والتخفيف من أجل استجماع النشاط والتقوي على متابعة الكفاح، وهذا معنى قوله: (روحوا القلوب ساعة وساعة).
3- تيسير الوصول إلى قلوب الآخرين لتسهيل انقيادها: من الملاحظ أن المازح يستطيع بدماثة خلقه دخول قلوب الآخرين وتوجيهها إلى ما يريد بسلاسة ويسر، ورضى وطواعية.
4- معالجة ضعف القلوب وجبرها، ويتحقق هذا غالبًا مع الصغار والعجائز والمرضى والبسطاء والمهمومين من الناس، وهذا ما عبر عنه الإمام الغزالي بالمطابيات، وذكر أن أكثر مطابيات النبي صلى الله عليه وسلم كانت مع الصغار والعجائز والبسطاء من الناس وتقدمت صور ذلك.
5- بعث التدبر الذهني وتقوية البداهة واستثارة الذكاء: ويلاحظ هذا إذا جاء المزاح بصيغ الكناية والتورية والألفاظ الموهمة، وعندما تظهر أهمية الفروق الذهنية الطردية، ومدى نباهة الممزوح معه وتيقظه واستقصائه على الاستدراج والوقوع في الغلط، وسبقت هذه المعاني في من طلب حمله على بعير، وفي زاهر البدوي.
6- تهذيب الممازح وغيره وتقويم سلوكه روى ابن السني بإسناد ضعيف عن عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- قال: بعثتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطف من عنب فأكلت منه قبل أن أبلغه إياه فلما جئت به أخذ بأذني وقال: (يا غُدر) وفي هذه الممازحة اللطيفة تنبيه للطفل على خطورة الإخلال بالأمانة، وحفز له على تقديم سلوكه، وعدم العودة إلى ذلك.

المزاح الحرام:
المزاح الحرام: هو المداعبة التي تشتمل على قول أو فعل نهى عنه الشرع ورتب عليه العقاب، وفي ضوء هذا التعريف ؛فإن من المزاح الحرام ما يلي:
1- ما جانب الحق والصدق، وكان فيه كذب وافتراء، وحكاية لأمور خيالية غير واقعية بقصد إضحاك الناس.
2- ما كان فيه تخويف الناس وإيذاؤهم، قولاً أو فعلاً أو إثارة، وإن كان بقصد الضحك والمزاح والمداعبة.
3- ما ترتب عليه إضاعة حقوق لله تعالى: كالإخلال بالفرائض والانشغال عن ذكر الله وطاعته بسبب حفلة ضاحكة ونحوها.
4- ما ترتب عليه أذى في المازح والممازح، سواء كان الأذى نفسيًا أو بدنيًا أو اجتماعيًا كأن يتضارب المتمازحان أو غير ذلك أو يسخر الناس من الممزوح معه.
5- المزاح الذي يمس العورات ويتحدث عن الحرمات والأعراض.
والأدلة على تحريم هذا من الآيات والأحاديث التي تفيد تحريم هذا النوع من المزاح ومن ذلك ما يلي:
1- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنَّ خيرًا منهنَّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب…) الحجرات 11، وهذه المحرمات المذكورة “السخرية- واللمز- والتنابز” إذا صاحبت المزاح صار المزاح حرامًا.
2- روى أحمد وأبو داود والبيهقي: أن الصحابة كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى سهم معه فأخذه، ففزع الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يفزع مسلمًا ولو هازلاً).
3- روى أبو الشيخ بإسناد حسن: عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل عسى رجل منكم يتكلم بالكلمة يضحك بها القوم، فيسقط بها أبعد من السماء(ألا هل عسى رجل منكم يتكلم بالكلمة يضحك بها أصحابه، فيسخط الله بها عليه، لا يرضى عنه حتى يدخله النار).
صور أخرى من المزاح الحرام:
من هذا النوع: ما يعرف بكذبة “أبريل” وهي من عادات غير المسلمين وتقليدهم فيها حرام، فضلاً عما تسببه من أضرار وأمراض ومفاسد.
ومن المزاح الحرام، الأعمال الكوميدية المشتملة على الاستهزاء بعقيدة المسلمين وشعائرهم قال الله تعالى: (قال أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) التوبة: 65، ومثلها أيضًا: الرسوم الكاريكاتيرية الفاسدة، ومن المزاح الحرام: التحدث فيما يمس الحرم والأعراض وحالات الإنسان الخاصة مع أهله والمفاخرة بذلك -وإن كان ذلك حقًا واقعًا -إذا كان يذكر للمزاح وإضحاك الناس، ويدل على هذا المنع عموم ما رواه مسلم من حديث (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)، وفي رواية الأحمر (… فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون) وفي مسند أحمد أيضًا وفي سنن البيهقي حديث (الشياع حرام) قال أحد الرواة: هو الذي يفتخر بالجماع ويشيع خبره بين الناس.
ومن المزاح الحرام: المزاح الساخر من أهل بلد أو محلة أو صنعة أو الذي يؤجج عصبية عنصرية أو جاهلية، ومن المزاح الحرام، مزاح الرجل مع المرأة الأجنبية، ومزاحها مع الرجل من غير محارمها، لما يؤول إليه غالبًا من معصية.

المزاح المكروه:
هو المداعبة المشتملة على قول ذميم أو فعل مستكره لا يترتب عليه عقاب شرعي، وفي ضوء هذا التعريف يمكن عرض بعض صوره ومن ذلك ما يلي:
1- الإسراف في المزاح الحق والاسترسال فيه فهو يخدش مكانه الفرد، ويسقط وقاره ويشعر بسخف عقله وبطر معيشته، وربما جر إلى الكذب وآل إلى المخاصمة والوقوع في الحرام.
2- المزاح مع من لا يتقبله: وذلك لما يترتب عليه من ضيم وإحراج، وربما أحزن القلب وأخرج عن الحشمة والآداب الاجتماعية.
3- بكلام مستكره الفحوى والمضمون: كالتعريض بالعورات والأشخاص ولو كان موضوع المزح حقًا واقعًا.
4- اتخاذ المزاح الحق مهنة، وسبق بيان أن المزاح الكاذب حرام قطعًا أما المزاح الحق فهو مكروه إذا اتخذه الإنسان ديدنًا له وأسرف فيه، ولو على سبيل المهنة، فضلاً عن أن هذا العمل غير منتج اقتصاديًا بل هو بطالة مقنعة وأرى أن هذا يشمل ما يسمى بالرسوم الكاريكاتيرية والأعمال الكوميدية التي ليس فيها افتراء وبهتان وكذب.
أدلة ذم المزاح المكروه:
من أدلة ذم المزاح المكروه ما يلي:
1- الآية (والذين هم عن اللغو معرضون) المؤمنون:
5، ومن الواضح أن الاسترسال في المزاح الحق والإسراف فيه وبه من وجوه اللغو لضياع الوقت بغير فائدة ونفع.
2- حديث الشيخين (…ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت).
3- حديث الترمذي وهو حسن غريب، (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب القاسي) وهو ينطبق على كثير من حالات المزاح المكروه.
4- قول الصحابي سعيد بن العاص -رضي الله عنه- (اقتصد في مزحك فالإفراط فيه يذهب البهاء ويجرئ عليك السفهاء).
وهكذا يتضح مدى اعتدال وواقعية أحكام الإسلام وشرائعه حيث أباح للنفس البشرية صور المزاح التي تخفف عنها أعباء الحياة، وتسمح عنها الهموم، وتجدد لها النشاط والحيوية وتوثق عرى الصلات الإنسانية، وتؤدي أهدافها التربوية والاجتماعية بعيدًا عن الإساءة والظلم والافتراء، وإضاعة الحقوق والفظاظة مع الناس، أو إهدار الوقت في نشاط هدام غير منتج، وصدق الله العظيم (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) الإسراء: 9.

مسؤولية المازح عن تصرفاته المتصلة بالأحوال الشخصية:
ذكر العلماء أن تصرفات المازح القولية تؤثر في النكاح “الزواج” والطلاق وفي مراجعة الزوجة المطلقة، وينعقد كلامه في ذلك وينفذ، وتترتب عليه آثاره الشرعية، والدليل على هذا ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جِدهُّنَّ جدُّ وهزلهنَّ جدُّ: النكاح والطلاق والرجعة)، قال الترمذي: والعلم على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهذا قول فقهاء المذاهب الأربعة، وذلك؛ لأن الهازل “المازح” أتى باللفظ عن قصد واختيار، وإن عدم رضاه بوقوع ما يمزح فيه لا أثر له في الشرع، بل هو ملزم به ديانة وقضاء، ويؤكد هذا المعنى ما رواه عبد الرزاق في المصنف من حديث (من نكح لاعبًا أو طلق لاعبًا جاز) أي (نفذ ووقع) وذكر ابن قدامة الحنبلي: أن الطلاق يقع سواء قصد به المزاح أو الجد، وذلك للحديث الأسبق، ثم نقل عن ابن المنذر قوله: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن جد الطلاق وهزله سواء.
وبناء على هذا: فإن الزوج الذي يتلفظ بالطلاق على سبيل المزاح والهزل عليه أن يتحمل تبعة تصرفه هذا، ولو كان عن غفلة وجهل.
وكذلك الزوج الذي يتلفظ بمراجعة زوجته المطلقة على سبيل الهزل والمزاح يقع منه ذلك، ولو لم يرده.
وقل نحو هذا فيما يقع بين الأقرباء والأصحاب حينما يقوم أولياء الصغار والصغيرات بتزويجهم من بعضهم حال توافر الشهود وذلك على سبيل المداعبة والمزاح…!! وبهذا يظهر لنا مدى الخطورة الدينية والحقوقية جراء هذه التصرفات التي تمس جانبًا مهمًا من الأحوال الشخصية.

مسؤولية المازح عن تعاقده ومعاملاته المالية:
يرى أهل العلم أن تصرفات الهازل “المازح” تؤثر في العقود المالية ونحوها، وينفذ فيها قوله ظاهرًا وباطنًا سواء كان المزاح واقعًا في البيع أو الإقراض أو غيره من التصرفات والنشاطات المالية والاقتصادية، والدليل على هذا حديث أبي هريرة الآنف (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد) وقالوا: إنما خُصَّت الثلاثة بالذكر لمزيد اعتناء الشرع واحتياطه فيها، وذلك لخطورتها واتصالها بالأعراض وإلا فكل التصرفات والعقود تنعقد بالهزل “المزاح” لأن المكلف مسؤول عن جميع تصرفاته، وبخاصة أنه في حال الأهلية، ويؤيد هذا ما رواه عبد الرزاق في المصنف من حديث (من أعتق لاعبًا جاز) أي: نفذ ووقع منه عتق الرقيق.
وبناء على هذا: إذا باع إنسان شيئًا ورضي به المشتري، ثم ادعى البائع أنه كان يمزح لا يقبل قوله بل تنتقل الملكية إلى المشتري ولو لم يقبض المبيع بعد أو يدفع ثمنه، والعكس صحيح أيضًا إذا وقع المزاح من المشتري.
وكذلك الحكم لو أقر رجل لآخر بمبلغ أو شيء ثم قال: كنت أمزح يلزم ديانة وقضاء بتسليم ما أقر به، وإن صدقه المقر له، وهكذا في التصرفات العقدية والمالية الأخرى.

تصرفات المازح المتصلة بالكفر والردة عن الإسلام:
ذكر ابن عابدين الفقيه الحنفي: أن المسلم إذا هزل “مزح” بلفظ كفر، أو سجد لصنم، أو وضع مصحفًا في قاذورة، فهو مرتد عن الإسلام، ولو كان هازلاً “مازحً” وإن لم يعتقده، وذلك لاستخفافه بالدين واستهانته بشعائره وأحكامه.
وبنحو هذا قال ابن قدامة -الفقيه الحنبلي- مستدلاً بالآية (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله ورسوله كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 65 -66
هذا ومن المعروف أن للردة آثارًا خطيرة ديانة وقضاء في الدنيا وفي الآخرة، ومن ذلك: استتابة المرتد ثم قتله حدًا إن أصر على ردته، ومنها انفساخ عقد الزوجية مع زوجته فتحرم عليه بعد أن كانت حلاً له، ومنها: فقدانه لأمواله وممتلكاته وبطلان تصرفاته فيها، ومنها: نجاسة ذبيحته ثم الخزي والعار والعذاب المهين في يوم الدين، وغير ذلك مما يعرف في مواطنه.
وهكذا يتضح أن المازح قد يكون كلمة تقال، أو فعلاً يقع بقصد الترويح عن النفس، أو مداعبة الآخرين لكنه قد يترك آثارًا حقوقية، بعضها خطير، ويمس الأحوال الشخصية أو الممتلكات المالية للآخرين، وربما صاحب المزاح تجاوز على الشعائر والحرمات الدينية، وأوقع صاحبه تحت مسؤولية خطيرة يصعب تجاوزها؛ لأنها تمس المعتقدات الدينية وتجرح المشاعر العامة للأمة الإسلامية.
وفي ضوء ما تقدم يتضح مدى فظاعة وسوء مصير من يهزل ويمزح في أمور الدين وشعائر الإسلام ضمن ما يسمى ب”المسرحيات الكوميدية” أو “الرسوم الكاريكاتورية” وغيرها من الممارسات المستقبحة شرعًا وعقلاً.

Scroll to Top